بلاغة التشبيه في قصيدة “أُحبُّ جرائمي الكبرى” للشاعر الأردني محمد مثقال الخضور /بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب



تعد الصورة البيانية أهم ما يميز اللغة الشعرية وإحدى مرتكزات القصيدة المعاصرة، لما لها من دور في إظهار محاسنها إلى جانب الإيقاع الصوتي عموما كالطباق والمجاز والكناية والتشبيه والاستعارة..
لذا كانت الصورة الشعرية بمثابة بديل عن الإيقاع الموزون أحيانا في بعض منها كقصيدة النثر لما لها من دور في عدم تقييد حرية الشاعر لاستحضار كل ما يجول بخاطره دون شرط أو التزام، فصارت الصورة الشعرية معيارا مهما للحكم على جودة أي نص شعري معاصر كيفما كان نوعه أو شكله. لأنه في بعض الأحيان يحتاج الشاعر أن يقرب صوره الشعرية للمتلقي بشكل أوسع وأفضل، فيلتجئ حينها إلى بعض الأساليب البيانية والبلاغية لتحقيق المبتغى، ويعد التشبيه من بين أهم الأساليب البلاغية في علم البيان التي يعتمدها الشعراء المعاصرون لهذا الغرض، لما له من دور في جذب الذائقة الفنية لدى المتلقي..
من هذا المنطلق التجأ الشاعر محمد الخضور إلى اقتناص تشبيهات تأخذ القلوب، وتأسر العقول، ليبرز مدى جمالية بلاغة التشبيه في نصوصه الشعرية، ويكمن الرهان في إثبات ما الذي اراد الشاعر أن يوصله إلى القارئ بكل هدوء واحترافية، من خلال اعتماده العديد من التشبيهات الملفتة للنظر.
كما هو معلوم للتشبيه روعة خاصة وجمال يميزه أحيانا عن الاستعارة وغيرها من باقي الأساليب القريبة منه، وكثير من النقاد القدامى والمعاصرين استحسنوا هذا المكون البلاغي لما له من دور في إخراج ما هو خفي إلى الجلاء البيّن، وتقريب المعنى البعيد الى المتلقي بآخر قريب منه، مما يزيد المعنى رفعة وجلاء، ويكسوه جمالا وبهاء، ولكن رغم ذلك يبقى التشبيه من أصعب الأساليب البيانية، لكثرة تقسيماته وتعدد أغراضه، وهذا يزيد من صعوبة الفهم رغم أن دوره تقريب المعنى الى الذهن..
ولن نخوض في موضوع التشبيه وبيان أركانه الأربعة المعروفة، فليس محل الدراسة الآن.
والتشبيه لغة: التمثيل، يقال: هذا شِبه هذا ومثيله.
واصطلاحا هو عقد مماثلة بين شيئين أو أكثر وارادة اشتراكهما في صفة أو أكثر بإحدى أدوات التشبيه لغرض يريده المتكلم.
ويعرفه القزويني بقوله: “هو الدلالة على مشاركة أنر لأمر في المعنى” التلخيص في علوم البلاغة، القزويني، دار الكتاب العربي، لبنان 1932، ص: 483.
في البداية لا بد من العودة إلى النص بالكامل كي نفهم الدوافع التي جعلت الشاعر يكثر من التشبيهات وما غايته من ذلك.
فغالبا ما يُستخدم التشبيه

01- أولا كدليل لإثبات الحقائق،
02- ثانيا كأداة لإيضاح المعنى المقصود.

والشاعر المتهم بارتكاب جرائم ثقيلة تأبى أن تحملها الأرض وما فيها، حملها الشاعر ليس طوعا ولا كرها، ولكن من باب الاستهزاء والسخرية من واقع مرير مثقل بالآهات والجراح، واقع صار المذنب بريئا والبريء متهما.
وتعد السخرية إحدى طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة كالتورية في لغة الشعر. والغرض من السخرية هو النقد أولاً ثم الإضحاك ثانياً
وهو تصوير عيب الشيء بصورة مبالغ فيها مما يجعلها تثير الضحك، وكل ذلك بطريقة خاصة غير مباشرة، للتعبير عن الاضطرابات في الواقع بكلمات إيحائية عن طريق إلقاء الكلام بعكس ما يقال، وتتركز على طريقة طرح الأسئلة مع التظاهر بالجهل وقول شيء في معرض آخر.
معجم المصطلحات الأدبية، جبور عبدالنور ص 138.
لهذا يلجأ الشاعر الى الموازنة بين النقائض فيجعل القبيح حسنا والحسن قبيحا، فكما يقال ” عندما يعجز الجد عن البيان، تسارع السخرية في التعبير.”
والسخرية فن راق يعتمد على الرمز لتوضيح معناه، ويهدف الي النقد البناء. وهو بذلك يحتاج للذكاء والفكر وإعمال العقل.
السخرية في الأدب العربي، د. نعمان محمد أمين ص10.
لذا وجدنا الشاعر يسخر من كل شيء حتى من ذاته، بل يتأملها بهدوء ويبصر سخافتها وتناقضها وتفاهتها وصغر حجمها أمام هذا الكون الشاسع، فيعلو عليها جميعا ويتحدث عنها بابتسامة هادئة جميلة مستهزئة:

أُحبُّ جرائمي الكبرى
وأَعترفُ اعترافًا كاملًا
أَني ارتكَـبْتُ جـميعَها
عمدًا
لأُقْـنِـعَني بأَني سيِّدُ اللعبةْ

مقطع غني بالضمائر التي تعود إلى المتكلم/ الشاعر، وكأن النص عبارة عن مونولوج داخلي، صراع بين الذات الشاعرة وفكره أو لنقل عقله الذي يأبى أن يتقبل الجرائم المنسوبة إليه. والصورة توحي بتواجد الشاعر أمام محاكمة نفسه بنفسه، معبرا عن رأيه دون إطناب، بلغته المعهودة التي يظهر فيها الجانب المنطقي، ربما بسبب طبيعة تكوينه التقني العلمي، محاولا إقناع ذاته بشتى الوسائل بأنه المسؤول عن أفعاله حتى لا تنكشف غايتها:

وأَني سيِّءُ النيَّاتِ
في تبريرِ غايتها
إِذا انفضحتْ

كما هو معلوم كل فعل تحركه دوافع لتحقيق غايات، وحتى لا تنصدم النتائج والدوافع التي يبدو بينهما تباينات، يصر الشاعر ويلح على أنه المسؤول والمتهم الرئيسي وراء هذا التباين..
من هنا ستأتي التشبيهات المتعددة، والمتشعبة الأطراف كوسائل الإثبات للجرائم التي ارتكبها الشاعر.
وقد تعددت التشبيهات واختلفت بتعدد الجرائم التي نسبها لنفسه قهرا رغم حبه الشديد لها، لا لشيء سوى أن يقنع ذاته التي تلومه على هذه الأفعال والتي لم يفعلها أصلا، أو لأنه يتألم من شدة أثرها على حياته المجتمعية:
فعدد التشبيهات الواردة في النص 9
كلها مقرونة بحرف الكاف

6 منها منفصلة عن المشبه به:

كَــ شربِ البحرِ
كَــ تكسيرِ الـمفاتيحِ
كَــ الذوَبانِ في كأْسٍ
كَــ نومٍ فوق طاولةٍ
كَــ رقصٍ دونَ موسيقى
كَــ موتي فجأَةً

3 مقرونة بأداة التشبيه:

كأَنـي أَرسمُ الدنيا
كأَني أَهزمُ الدنيا
كأَنَّ جرائمي اتَّسعتْ

الملاحظ أن المجموعة الأولى غلب عليها طابع التهكم والسخرية:

كَــ شربِ البحرِ أَحياناً
لأَكشفَ قاعَهُ للشمسِ
والأَمطارِ
أَو
لأُعَلِّمَ الأَسـماكَ أَنَّ الرملَ غَدَّارٌ

فكما هو معلوم شرب ماء البحر يعرض الذات إلى الهلاك أو الموت.
ورد في كتاب الزهد لابن أبي الدنيا قوله:” قَرَأْتُ فِي كِتَابِ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «طَالِبُ الدُّنْيَا مِثْلُ شَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا حَتَّى يَقْتُلَهُ» كتاب الوعد لابن أبي الدنيا، رقم الحديث 322.
وقد شبه الشاعر تبرير تصرفاته لنفسه بنفسه بمن ينتظر المستحيل للوصول إلى الحقيقة، فلا يعقل أن يتعرى البحر حتى يكشف قاعه للشمس والأمطار، أو يثبت للأسماك أن مغادرتها للبحر او الاقتراب من الرمل فيه هلاكها.
وقد أتى بهذه الصور التمثيلية لا لشيء سوى أن يقرب أمرا بيّنا بالضرورة للمتلقي في شأن سلوكات غير منسجمة مع الأفعال، تحت ضغط الإكراه او الاستسلام، مما يزيد من الاستغراب لفداحة الجرائم او المعيقات التي لا يمكن إخفاؤها عن الأنظار؛
أو كمن يسعى إلى تكسير المفاتيح التي هي الوسيط للوصول إلى خلاصه:

كَــ تكسيرِ الـمفاتيحِ التي تُفضي
إِلى العنوانِ
كي تَـتخلَّصَ الطرقاتُ
من إِحساسها بالذنبِ
إِنْ تاهَ العشيقانِ

ولعل في ذلك نقد لواقع مترد كان سببا في إفشال أقوى العلاقات التي لا يمكن أن تتيه من غير علة أو سبب..
ويستمر الشاعر في ضرب الأمثلة والتشبيهات التي توضح طبيعة الجرائم المرتكبة محتميا بموصوفات ذات صلة بالطبيعة:

وكَــ الذوَبانِ في كأْسٍ بلا ماءٍ
لأَفهمَ كيفَ ذابَ العمرُ
في الدنيا
برغمِ جفافها الـمتروكِ
في حلقي
لأَني لـم أَمتْ غَرقاً

حرقة الذوبان مست كل جسم معرض إلى الإهمال وعدم المبالاة في غياب المذيب الحقيقي، فيجعل المرء يتساءل عما ضاع من العمر وانقضى، وهو صابر على قسوة ومرارة الحياة، وقد أكثر الشاعر من التعليلات لعله يقتنع بما يجري في هذه الحياة وما خلفته من جفاف وعطش في حلقه الذي لم يستسغ ما يجري حوله في الزمن الحاضر ويظهر ذلك في ورود الأفعال بصيغة المضارع بكثرة؛

أو
كَــ نومٍ فوق طاولةٍ
لأَفهمَ قسوةَ الأَقلامِ
والأَوراقِ
حين تقولُني صُبحًا
بِــ كُلِّ كآبةِ الدنيا
وقد نامتْ على خشبٍ
طوالَ الليلِ متعبةً

إحالة إلى طول السهر الذي قضاه وهو يفكر في قسوة الواقع الذي عبر عنه بقسوة الأقلام، والشاعر بذلك يواصل تهكمه على الجرائم التي تحدث ولا زالت، ولم يجد لها أي مبرر سوى السخرية من وضعية شاعر مستلق على مكتبه طوال الليل حتى تفاجئه كلماته بما سطرته أنامله وهو في حالة الأرق والتعب؛
أما إذا لم يقتنع القارئ بعد بهذه الحال المتعبة المريرة، فعليه أن يخصص وقتا لمشاهدة من يرقص على اوتار الوجع دون التلذذ بإيقاع يخفف آلامه:

كَــ رقصٍ دونَ موسيقى
لأَفهم ما يقولُ الغصنُ
عن عبثيةِ الأَرياحِ
في هزٍّ بلا سببٍ
ولا معنى

الضرر امتد حتى إلى الأغصان التي تهتز بلا سبب، والتي لم تسلم من عبثية تقلبات الزمن وقسوة الحياة،
صورة تمثيلية قوية تبين مدى قذارة الاوضاع التي تجعلك كالطير المذبوح الذي يرقص من شدة الألم، وكأغصان الأشجار التي تداعب نفسها من غير علة أو سبب..
والنتيجة عليك انتظار موت الفجأة:

كَــ موتي فجأَةً في الريحِ
مثل زوابعِ الأَحلامِ
دونَ وصيةٍ تصحو
لـتُخبرَنا
بأَنَّ الـحزنَ قَـتَّـالٌ

تصريح واضح بأن مشاعر الحزن والقلق هي الغالبة والمهيمنة على نفسية الشاعر، فنحن إزاء قلق وجودي مسّ كل أركان الحياة من بحر وما احتوى والعمر الذي انصرف دون إذن، والعبثية التي لوّنت كل أشكال الحياة وأصبحت مهددة بالموت والدمار القادم بزوابعه التي لا تسبب الا الانهيار.
والمتأمل للتشبيهات الواردة في النص يجد أن كلا الطرفين المشبه والمشبه به جاءا عبارة عن صور مركبة (تشبيه تمثيلي) وهو تشبيه صورة بصورة ووجه الشبه فيه صورة منتزعة من أشياء متعددة.
والعلاقة التي تجمع الطرفين هو اشتراكهما في مجموعة من الحالات الوجودية التي تطابق حالته النفسية والوجدانية، وفق مبادئ منطقية وتصورات عقلية، ولكنها تتباعد عن ذهنية الشاعر تباعد كاف التشبيه عن مشبهاتها، ولم يأت هذا العزل عبثا بل تلميحا من الشاعر للإشارة أو لإبراز الحالة النفسية التي تتفاعل بعمق مع واقع مترد وقابل للانهيار في أي لحظة..
لكن عقلية الشاعر وتفكيره، غير راضيين عن هذه الانهزامية، من هنا يأتي الشوط الثاني من التشبيهات التي تسعى جاهدة أن تعيد روابط الصلة بين المشبه والمشبه به:

كأَنـي أَرسمُ الدنيا بفنجانٍ
لأَشربَـها
كأَني أَهزمُ الدنيا
بروحٍ حطَّمتْ سقفاً
لكي ترقى
كأَنَّ جرائمي اتَّسعتْ
لتشملَني

حضور كثيف لياء المتكلم أي الذات الشاعرة التي تسعى إلى الارتقاء بعيدا عن الانهزامية والاستسلام للجرائم التي اتسعت دائرتها حتى أصبحت تشمل كل ما يحيط بالشاعر، لكن روحه تأبى أن تظل سجينة لهذه الجرائم التي تلاحقه كل حين.
إنها الغواية التي ظلت حاضرة من بداية النص حتى نهايته،
فالغواية استنادا إلى الآية (والشعـراء يتبعهم الغاوون…) الشعراء، 224،
تجعل اللغز يحير الناس، بل يحير الشعراء أنفسهم:

فقد أَغويْـتُني باللغزِ
حتى صرتُ مـخفيًّا

ثمة إغراء في هذه الدنيا من الصعب مقاومته، يتمثل في معرفة ما إذا كان الشاعر حينما يكتب الشعر هل معنى ذلك أنه يرغب في الابتعاد عن واقعه المزيف ليعيش حلمه الجديد، أم رغبة منه في رسم معالم واقع بعيد عن المضايقات وحصار التفكير المثمر الجاد:

فَــ لـم تَرَني ابتساماتي
التي انذبـحتْ
على بوابةِ الآتي

انفصال ثان بين الحرف واسمه أي الشاعر ليبين غياب البسمة عن محياه منذ زمن،
ووصال بين الشاعر وأحزانه التي صنع منها حقولا (قصائد) يرويها بدمعه الذي يأبى أن يتوقف، والذي لم ييأس من انتظار الفرج ولو بعد حين:

ولـم تَرَني حقولُ الدمعِ
حينَ زرعتُها ملحًا
لكي تبقى مـجمَّدةً
على بوابةِ العينينِ
حتى
ينزلَ
الـمطرُ.

وقد ارتأينا أن تقتصر وجهتنا عند هذا الحد، دون الخوض في العديد من التفاصيل، غايتنا هو إبراز مدى قدرة الشاعر محمد مثقال الخضور على خلق صور شعرية بديعة من صميم حياته اليومية وبيئته الاجتماعية، دون تكلف أو عناء، يلونها بخياله الواسع، مما يجعل منه أحد رواد القصيدة الشعرية المعاصرة الذين ظلوا أوفياء لحياتهم اليومية، ملتزما بقواعد اللغة، مجددا في أساليب البيان من تشبيه ومجاز، فعدل عن الصور المعروفة لدى القارئ ليقدم له صورا شعرية جديدة من نسيج خياله.

ذ. سعيد محتال / المغرب



تعليقات على “بلاغة التشبيه في قصيدة “أُحبُّ جرائمي الكبرى” للشاعر الأردني محمد مثقال الخضور /بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب”

  1. كل الشكر والتقدير لأستاذنا الفاضل الدكتور سعيد على هذا العمق والسخاء في العطاء
    أنا مدينٌ لك دكتور بهذا الدعم الكبير
    احترامي الشديد

اترك رداً على محمد مثقال الخضور إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *