الصمت بوصفه خطاباً: من الغياب اللغوي إلى الفعل الدلالي، قراءة نقدية لقصيدة “صمتي لا يشبهني” للشاعرة المغربية عائشة التاقي / بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب


يُعدّ الصمت أحد أكثر المفاهيم إشكالية في الحقل الشعري، لكونه يُفهم تقليديًا بوصفه نقيضًا للكلام، أو علامة على العجز اللغوي. غير أن الشعر الحديث – بخاصة في تجلياته الوجودية والنفسية – أعاد النظر في هذه الثنائية، محولًا الصمت من غياب إلى آلية تعبير موازية للغة المنطوقة.

تنطلق هذه الدراسة من قصيدة “صمتي لا يشبهني” بوصفها نموذجًا دالًا على هذا التحول، حيث لا يُستحضَر الصمت كخلفية شعورية، بل كطرف حواري، وفاعل دلالي، ومرآة وجودية للذات الشاعرة. وتسعى الدراسة إلى الإجابة عن السؤال المركزي الآتي:
كيف يتحول الصمت في النص الشعري من حالة سلبية (غياب اللغة) إلى خطاب فعّال يُنتج المعنى ويؤسس لحوار داخلي متعدد الأصوات؟
الصمت بطبيعته غياب أو انقطاع للغة، بينما الشعر هو تجسيد للغة.
فكيف يمكن تعريف الصمت الشعري وتحديده؟ هل هو غياب تام للكلمة، أم هو فراغ دلالي، أم هو نوع من الإيقاع الداخلي أو التوقف الإجباري؟
الصمت في الشعر ليس مجرد انقطاع، بل هو علامة (Signe) أو شكل من أشكال التعبير. يُنظر إليه كـعلامة تغني عن الكلام،
فهل الشاعر(ة) التي لجأت للصمت قد وصلت إلى نقطة عجز اللغة، أم أنها اكتشفت طريقة جديدة لاستخدامها؟
إذ ماذا يعني صمت الشاعرة بالنسبة للقارئ؟
وبما ان الصمت علامة فارغة نسبيًا، فإن تأويله يقع بشكل كبير على عاتق القارئ.
قد يراه المتلقي نقصًا أو عيبًا، وقد يراه آخر دعوة للمشاركة في صنع المعنى.
بمعنى آخر إن دراسة الصمت في الشعر تتحول من دراسة غياب إلى دراسة وظيفة الغياب، وكيف يتحول العدم إلى وجود دلالي، مما يتطلب من الناقد أن يكون مستمعًا بقدر ما هو قارئ.

“صمتي لا يشبهني” جملة اسمية تقوم على مفارقة لغوية؛ فالإضافة (صمتي) تفترض علاقة ملكية وانتماء، بينما ينقضها فعل النفي (لا يشبهني). هذا الخلل التركيبي يؤسس منذ البداية لانقسام الذات، ويطرح الصمت بوصفه جزءًا من الأنا، لكنه جزء مغترب عنها.

لتحليل ظاهرة “الصمت كمخاطَب” في النص الشعري، يمكننا الاعتماد على مفهوم “الحوارية” عند الناقد الروسي ميخائيل باختين، الذي يرى أن النص لا يوجد في فراغ، بل في حوار دائم مع نصوص أخرى وأصوات متعددة. في حالتنا هذه، يتجلى هذا الحوار بشكل استثنائي حيث يصبح الصمت ذاته طرفاً في الحوار:
“بالله عليك يا صمت”
نلاحظ كيف انتقل الصمت من حالة مجردة إلى كيان مخاطَب باستخدام أداة النداء “يا” التي تختص عادةً بمن ينطق أو يُخاطَب، الشيء الذي منح الصمت صفات إنسانية: يحتاج، يفتقد، يحب، يقرأ، يؤلف..
لنجد أنفسنا أمام انزياح من وظيفة الصمت التقليدية (الغياب، السكون، الخواء) إلى وظيفة الصمت الجديدة (الحضور، الفاعلية، العلاقة)، حيث تحول الصمت من خلفية سلبية إلى شخصية فاعلة في النص الشعري.
الشاعرة ↔ الصمت
(المتكلم) (المخاطَب)
ليست علاقة أحادية بل تبادلية
الصمت “يحتاجني لكنك لا تطلبني”.
الصمت “تفتقدني لكنك لا تبحث عني”.
الصمت “تحبني لكنك لا تعلنني”.

فنحن أمام تعدد الأصوات الداخلية:
-صوت الشاعرة الواعي المتألم
-صوت الشاعرة الباحثة عن ذاتها
-صوت الصمت ككيان مستقل
-صوت الذات الممزقة بين البوح والكتمان

وهذا ما خلق عدة وظائف للصمت، على سبيل المثال:
وظيفة نفسية:
تحويل الصراع الداخلي إلى حوار خارجي·
تجسيد اللاوعي والشعور بالاغتراب·
“أعيش صمتاً لا يشبهني… لا يسمعني”

وظيفة وجودية:
البحث عن الهوية عبر الحوار مع العدم·
الصمت كمرآة للذات المفقودة·
“سأظل أبحث عن صمتي الذي يشبهني”

وظيفة جمالية/فنية:
خلق دراماتيكية شعرية·
الانزياح بالإمكانيات التعبيرية·
تحويل السكون إلى حركة سردية·

لذا، في هذا النص لم يعد الصمت غياباً، بل حضور مختلف. ولم يعد فراغاً، بل امتلاء مختلف. كما أنه لم يعد سلبياً، بل إيجابية من نوع جديد.
هذا التحول يعكس رؤية عميقة للوجود الإنساني في عالم يزداد ضجيجاً، حيث يصبح الصمت ملاذاً وليس هروباً، فاعلية وليس عجزاً، لغة وليس غياباً للغة.
يشهد النص تحولاً نوعياً في تصوير الصمت، من حالة سلبية جامدة إلى كيان فاعل ديناميكي. هذا التحول ليس مجرد تقنية أدبية، بل رؤية فلسفية تعيد تعريف علاقة الإنسان مع صمته.
فهناك في النص ما يجسد الصمت كفعل مبادرة
-“تَحْتاجني” – رغبة وفعل·
ـ”تُفَتِّقدني” – شعور ومبادرة
ـ”تُحِبُّني” – عاطفة فاعلة

وكفاعل متحرك ديناميكي:
ـ”بإيقاع كاتم الصوت تنفيني”

كما أن الصمت له إيقاع وحركة:
ـالصمت “ينفي” = فعل تحويلي

فيتحول الصمت من اللاوجود إلى الوجود، ليصبح الصمت كياناً قائماً بذاته “يا صمت”. أداة نداء تمنح الوجود.
فينتقل من الغياب إلى الحضور: حضور مؤثر في حياة الشاعرة:
“تفتقدني لكنك لا تبحث عني”: تفاعل عاطفي متبادل بين الصمت والشاعرة.
معتمدة في ذلك الشاعرة على آليات بلاغية لتحقيق هذا التحول،
1- الانزياح اللغوي:
يتجلى فيما يلي:
ـاستخدام أفعال الفاعل مع الصمت
-تحويل الصمت من مفعول به إلى فاعل
مثال: لا “أعيش في صمت” بل “أعيش صمتاً” (علاقة ندية)

2- الانزياح الدلالي :
نذكر منه؛
إعادة ترميز مفهوم الصمت:
ـمن دلالة الفراغ إلى دلالة الامتلاء
ـمن السكون إلى الحركة الداخلية

3- الانزياح الوظيفي :
ـالصمت كمادة للحوار
ـالصمت كطرف في علاقة
ـالصمت كفاعل إبداعي
أعطى لتحول دلالات الصمت بعدا فلسفيا:
ـالكلام ≠ الصمت (ثنائية تقليدية)
ـكلام الصمت ≠ صمت الكلام (ثنائية جديدة في النص)
ـالصمت يصبح لغة، والكلام قد يصمت
تحويل الشعور بالعجز إلى حوار فاعل
ـتحويل الضعف إلى قوة تعبيرية
ـ”سأظل أبحث عن صمتي الذي يشبهني”
الحوار مع الصمت كمحاولة لفهم الذات
ـتحويل العزلة إلى مساحة للاكتشاف
ـالصمت كمرآة للذات

وهذا من شأنه تحطيم الصور النمطية عن الصمت، مع إعادة تعريف العلاقة بين الكلام والصمت،
لإحداث ثورة نفسية وجودية من خلال تحويل العزلة من عقبة إلى فرصة، لاكتشاف أبعاد جديدة للوجود في فضاء الصمت.
الملاحظ أن الصمت يحضر كفكرة، لكنه يغيب ككيان مادي. هذا التناقض يعكس حالة الشاعرة النفسية، فهي تتوهم حواراً مع ما لا يمكن محاورته فعلياً.
يُنادى مباشرةً “يا صمت” لا يرد على النداء حوار من طرف واحد
يُخاطَب ككيان حاضر يظل غائباً غير ملموس “تفتقدني لكنك لا تبحث عني”
له صفات إنسانية يفتقد الإنسانية الفعلية تجسيد غير كامل
نموذج التناقض العاطفي:
الحاجة = “تحتاجني”
الرفض = “لكنك لا تطلبني”
الافتقاد = “تفتقدني”
التجاهل = “لكنك لا تبحث عني”
الحب = “تحبني”
الإخفاء = “لكنك لا تعلنني”

هذا من شأنه الإحالة إلى أبعاد نفسية:
ـالصمت كعلاقة عاطفية فاشلة
ـالحب غير المُعلن = خيانة صامتة
ـالافتقاد بدون بحث = استسلام للفراق
الشيء الذي يعزز فكرة تناقض الفهم والإلغاء
الفهم: “رُبَّما تَقْرَأُني”.
الإبداع: “رُبَّما تُؤَلِّفُني”.
الإلغاء: “تَنْفِينِي”·
المفارقة: الصمت يقرأ الشاعرة ويؤلفها (يعرفها ويخلقها) ثم ينفيها (يلغيها).
هذا يعكس:
ـصراع الهوية: من أكون إذا كان صمتي هو من يحددني ثم يلغيني؟
ـأزمة الوجود: الخلق والإفناء في يد الصمت.
تناقض الانتماء والعزلة
ينفي الشاعرة: “تَنْفِينِي”.
باتجاه انتماء: “صَوْب انتماء”.
الذي يتجاهلها: “يَتَجاهَلُني”.

لنصل إلى معادلة صعبة:
ينفي → نحو انتماء → الانتماء يتجاهلني
(العزل) (الوعد) (الخيبة)
أما عن مستويات التناقض البنيوية، فتتضح من خلال:
1- المستوى اللفظي:
-الألفاظ تدل على القرب (“تحتاجني”) ولكن السياق يدل على البعد (“لا تطلبني”)
-التناقض بين الدلالة المباشرة والدلالة السياقية

2- المستوى العاطفي :
-عاطفة موجودة (الحب، الافتقاد)
-تعبير غائب (لا يعلن، لا يبحث)
-صراع بين الشعور والتعبير

3- المستوى الوجودي :

-الصمت كمساحة وجودية

-لكنها مساحة تنفي الذات

-الوجود في فضاء يلغي الوجود

4- المستوى العلائقي :
-علاقة ثنائية (أنا – صمتي)
-لكنها علاقة غير متكافئة
-حوار مع طرف صامت

فما هي الأسباب العميقة لهذه التناقضات؟!
1- طبيعة الصمت ككيان مجازي:

-الصمت في الواقع ليس كياناً قائماً بذاته
-التجسيد يخلق تناقضات حتمية
-الصمت الحقيقي لا “يحب” ولا “يحتاج”

2- تعقيد التجربة النفسية :
-الشاعرة تعبر عن تناقضات داخلية
-تسقط هذه التناقضات على صمتها
ـ”صمتي لا يشبهني” ← تناقض أساسي

3- إشكالية العلاقة مع الذات :
-كيف أحاور جزءاً من ذاتي؟
-الصمت هو أنا ولا أنا في نفس الوقت
-“تبحث عن صمتها الذي يشبهها” ← البحث عن ذاتها عبر صمتها

4- أزمة التعبير في العصر المعاصر :
-الرغبة في البوح مقابل الخوف منه
-التواصل الفائق مقابل العزلة المتزايدة
-الضجيج الخارجي مقابل الصمت الداخلي.
هذا كله عزز من الوظائف الفنية للنص
التناقضات تصنع صراعاً داخلياً
-تخلق توتراً شعرياً مستمراً
-تجعل القصيدة حواراً درامياً

تعمق الشخصية:
الشخصيات البسيطة لا تناقضات لها·
التعقيد يخلق العمق النفسي·
الصمت المجسَّد يصبح “شخصية” حقيقية·

إنتاج دلالات متعددة:
كل تناقض يفتح آفاقاً تأويلية·
الغموض يثري النص·
القراءات المتعددة ممكنة·

تعكس تعقيد التجربة الإنسانية:
الحياة الإنسانية مليئة بالتناقضات·
الشعر الحقيقي يعكس هذا التعقيد·
الصمت المجسَّد مرآة للذات الإنسانية·

فهل هذه التناقضات تعكس
1- أزمة التواصل:
-نتواصل أكثر ولكننا نكون أكثر عزلة
ـالصمت وسط الضجيج الرقمي
ـ”أصوات عابرة تستبيح لحني” ← التواصل السطحي

2- أزمة الهوية :
-من أكون في عالم يفرض عليَّ صوراً متعددة؟
-البحث عن الذات الحقيقية
-“صمتي الذي يشبهني” ← الهوية الأصيلة

3- أزمة الوجود :
-الوجود في زمن العدمية
-البحث عن معنى في عالم لا معنى له
-الصمت كملاذ وكمصدر رعب معاً

ليصبح الصمت المجسَّد بطل تراجيديا وجودية، يحمل في داخله كل تناقضات الإنسان المعاصر؛ يحب لكنه لا يعبر، يحتاج لكنه لا يطلب، يقرأ الذات لكنه ينفيها، يبحث عن الانتماء لكنه يدفع نحو العزلة.
في نهاية المطاف نحن أمام نص لم يتحدث عن الصمت، بل كتب بالصمت، جاعلاً منه لغة ثانية، وشخصية رئيسية، وفضاء وجودياً. هذه الرؤية تفتح آفاقاً جديدة للشعر العربي المعاصر، وأن الشعر ليس في الكلمات فقط، بل في الصمت الذي يحملها ويحيط بها. الصمت في هذا النص لم يكتفِ بأن يكون خلفية، بل أصبح نصاً موازياً، وشاعراً مشاركاً، وقارئاً أولاً.
الصمت الذي “لا يشبهني” في بداية القصيدة، يتحول عبر فضاء القصيدة إلى الصمت الذي “أبحث عنه”، صمتي الذي يشبهني، صمتي الذي أخلقه ويخلقني، في حوار وجودي لا ينتهي إلا ليبقى صداه في فضاء القصيدة المفتوح.

ذ. سعيد محتال / المغرب


صمتي لا يشبهني..
أقف على حافة القلق
والكرى آخذ بمعاقد أجفاني
أراقب أحزاني المعتقة
من مسافة لا تُرى إلا مني..
أرصُد بعين مُسَهَّدة
دهرا يتدفق مني..
يروي قصة نَعَتها الليالي
فأكتفي بظلي حين يحتويني..
أصوات عابرة تستبيح لحني
تُحلِّق بعيدا
فوق شُخوص لا تعرفني
فأشد الرِّحال..
حيث لا شيء يزعجني
أعيش صمتا لا يشبهني..
لا يسمعني..
بالله عليك يا صمت
هل للبوح لديك متسع
لثقل يُجهِدني؟
بل عجبا لك يا صمت…!!
تحتاجني لكنك لا تطلبني!!
تفتقدني لكنك لا تبحث عـني!!
تحبني لكـنــك لاتُعلِنني!!
ربما تقرأني..
ربما تؤلفني..
بإيقاع كاتم الصوت تنفيني
صَوب انتماء يتجاهلني..
فلا تعتقد يا صمت
أنك بلغت قِبلة ظني ويقيني
وأنك تسربتَ كجراح السطر
تفضح ما أَبقَت عليه الأشواق
من لواعج حرماني
ما أقساك!
وما أقسى أن يُعدَم القلب رَميا
بحروف الخذلان
نعم سأظل أبحث عن صمتي الذي يشبهني
تَدُلّه أنفاسي على خرائط شجني
صمت بأعذار أزماني لا يقايضني

الشاعرة عائشة التاقي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *