السيميائيات الرمزية في قصيدة “حطام قصائدي” للشاعرة منى قجيع: تفكيك الانهيار وإعادة تشكيل المعنى / بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب


في عالمٍ تكتنفه الرموز والإشارات، يبرز علم السيميائيات أو السيمولوجيا كأداةٍ أساسية لفك شفرات المعنى الكامن في كل ما يحيط بنا، بدءًا من اللغة والثقافة وصولًا إلى قوانين الطبيعة والعلوم.
فكما رأى الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس، لا يمكننا فهم أي ظاهرة -سواءً أكانت رياضية أم أخلاقية، طبيعية أم اجتماعية- إلا من خلال عدسة العلامات والأنظمة الدلالية التي تشكلها. ومن هنا، تأتي أهمية هذا العلم الشامل الذي يربط بين مختلف المجالات، ويكشف عن البنى الخفية التي تُشكّل إدراكنا للواقع.

مفهوم الدليل اللساني عند دي سوسير
elearn.univ-oran1
ففي إطار نظريته السيميائية الثاقبة، يميز بيرس بين ثلاثة أنواع أساسية من العلامات -الأيقونة والإشارة والرمز- معتبراً إياها أنظمة متداخلة تُشكّل نسيجاً دلالياً معقداً. هذا التداخل بين العلامات لا يبقى حبيس التنظير الفلسفي، بل يجد تجلياته الأكثر إشراقاً في النصوص الأدبية، وخاصة الشعرية منها.
ففي قصيدة “حطام” التي نستحضرها هنا، تتحول الكلمات إلى حقل دلالي خصب تتقاطع فيه العلامات البيرسية بطرق بالغة التعقيد:
-فـ”أورشليم” و”نبات تموز” تعمل كـرموز ثقافية تحمل شحنة تاريخية ودينية،
-بينما يأخذنا “الجرح” المتكرر إلى عالم “الإشارات الوجودية” التي تربط الألم المادي بالمعاناة النفسية،
-فيما يمكن قراءة الصور الشعرية المجازية كـ”أيقونات” تعيد تشكيل الواقع عبر التشابه الفنّي.
هذا التمازج العلاماتي لا يخدم الجمالية الشعرية فحسب، بل يصبح أداةً لفهم التناقضات الإنسانية الكبرى. فكما تتداخل العلامات البيرسية في تشكيل المعنى، تتعالق في القصيدة مفاهيم الفناء والبقاء، الذاكرة والنسيان، في علاقة جدلية تذكرنا بتداخل العلامات الأيقونية والإشارية والرمزية في النظرية السيميائية.
وهكذا يصبح النص الأدبي مختبراً عملياً لنظرية بيرس، حيث تتحول العلامات من مجرد مفاهيم مجردة إلى كائنات حية تنبض بالمعاني المتناقضة. فـ”الحطام” الشعري ليس سوى دليل على أن العلامات -مثل الذكريات والأماكن المقدسة- تظل قادرة على توليد معانٍ جديدة رغم تناقضاتها، تماماً كما تصور بيرس أنظمة العلامات المتداخلة التي تنتج المعنى من خلال تفاعلها الديناميكي.
وقد ميّز بيرس Pierce ثلاثة أنواع من العلامات، هي العلامة الأيقونية، والعلامة الإشارية، والرمز. حيث يؤكد أن هذه العلامات لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتداخل في سياقات كثيرة.
قصيدة “حطام قصائدي” ليست سوى حطام يبحث عن معناه في غربة العلامات… فكلُّ رمزٍ فيها -من أورشليم إلى نبات تموز الضار- هو جرحٌ يُفتح على جرح، وكلُّ دلالةٍ تُولد من رحم تناقضها..
حيث تُمثِّل القصيدة لوحةً سيميائية غنية بالعلامات التي تتناغم فيها الذاتُ مع المكان، والزمانُ مع الأسطورة، لترسم مشهداً وجودياً يعكس صراع الإنسان بين الفناء والبقاء، بين الذاكرة والنسيان، بين القداسة والدمار.
وتأتي هذه الدراسة لتفكيك شبكة الرموز المتلاطمة من خلال تحليل العلامات الرئيسية المُتشابكة فيه، والتي تتراوح بين ما هو تاريخي (أورشليم، حائط المبكى)، وما هو طبيعي (الزهر، الغسق، المطر)، وما هو ديني (النبوءة التوراتية، صكوك الغفران). ليتحول الحطامُ إلى استعارةٍ للذات الممزقة، والمنفى إلى وطنٍ بديل لهذا الوضع المأساوي.

1- تقسيم العلامات في القصيدة:

أ- علامات مكانية:
لا يقتصر دور المكان في هذه القصيدة على كونه مجرد إطار أو خلفية للأحداث، بل يتحول إلى فاعل نصي يشكل وعي الذات، ويُعبّر عن أزمتها الوجودية. حيث تنوعت العلامات المكانية بين:
-أماكن مقدسة (أورشليم، حائط المبكى)
-أماكن غريبة (السماء الغريبة)
-أماكن افتراضية (المنفى كوطن ثان)
-أورشليم: هي مدينة مقدسة، ترمز للصراع بين الوجود والعدم، الذاكرة والنسيان. تُستخدم كمرآة للذات المهددة بالزوال..
-أما حائط المبكى: علامة دينية/ تاريخية، يحوّل المكان إلى كائن حي ينزف الذكريات، وشاهد على التاريخ الدامي.. في المنطقة.
-الخرائب: دليل على الزمن الذي يحوّل كل شيء إلى ركام، وربما ترمز إلى ذكريات مهدمة.
-السماء الغريبة: تُنتج شعوراً بالاغتراب عبر تناقض المطر في تموز، لتخلق مجازاً مكانياً للعالم المعكوس، وللتعبير عن فقدان التوازن الوجودي..

فتتشابك العلامات المكانية في علاقات جدلية:
-أورشليم ⇄ المنفى: صراع بين الجذور والاغتراب.
-حائط المبكى ⇄ الخرائب: حوار بين الصمود والانهيار.
-السماء ⇄ الأرض: انفصال بين الذات والعالم العلوي.

بهذا تتحول الأماكن في القصيدة إلى متاحف للجرح تعكس الذات المدمرة، كما ترسم حدوداً بين ما كان وما صار. تروي لنا ما لا تقوله الكلمات مباشرة. فيصبح المكان في القصيدة لغة ثانية تعبّر عما يعجز عنه اللسان، حيث تتحول الحجارة إلى دموع، والخرائب إلى قصائد، والمنفى إلى موطن مؤقت للروح.

ب- علامات زمنية:
يُشكّل الزمن في هذه القصيدة إلى جانب المكان نسيجاً وجودياً معقداً، حيث يتجاوز كونه إطاراً زمنياً ليصبح هو أيضا فاعلا في الأحداث، يتحكم في مصير الذات والشخوص، وكأداةَ تفجيرية للثنائيات الضدية (الموت/الحياة، الذاكرة/النسيان) تُختزل فيه أزمة الإنسان المعاصر.
-الغسق: لحظة بين النهار والليل، ترمز إلى اللايقين أو الانتقال من حياة إلى موت، يُنتج شعوراً باللااستقرار.
-الفصول: رمز للتكرار والدوران الأبدي للمعاناة (كل الفصول شهدت موت الزهر).
وفصول الموت التي تجسد دورة المعاناة التي لا تنتهي..
-تموز (يوليو) مع مطر: خرق للتوقعات (المطر في الصيف)، يرمز للاضطراب أو المشاعر التي لا تتبع منطق الزمن.
مما أعطى للزمن بنية خاصة تدور في فلك مغلق على ذاتها:
-زمن دائري:
-تكرار “موت الزهر في كل الفصول”، يُعبّر عن عجز الذات كسر حلقة المعاناة.
-زمن مبتور:
-الحد الفاصل بين “أورشليم التاريخية” و”تموز الحاضر”، يُجسّد انفصام الهوية بين الماضي والحاضر
-زمن محطم متهالك:
“النبوءة التوراتية” كزمن مقدس يتجاوز التاريخ
ليُقابل زمن “صكوك الغفران” الزائف.
فصار بذلك الزمن مرآةً تعكس أزمة الإنسان المعاصر في مواجهة الألم الذي يأبى ان يتوقف.
-التفاعل بين الزمن والمكان:
تتشابك العلامات الزمانية مع المكانية في علاقات دلالية عميقة:
-أورشليم + الغسق = مدينة تحتضر في وقت الغروب
-حائط المبكى + فصول الموت = ذاكرة متحجرة تتآكل بالزمن.
-السماء الغريبة + تموز الممطر = وضعية شادة..

ج- علامات طبيعية:
تتحول العناصر الطبيعية في النص من كائنات محايدة إلى رموز ناطقة تعكس حالات الذات الداخلية، استطاعت الشاعرة أن تخلق منها أنساقاً من التوازي والتناقض الحاصل في الوجود، تنقل لنا الأبعاد الفلسفية للنص.
-الزهر/ الرحيق: يرمز للحياة والجمال، لكن موته يشير إلى فشل دورة التجدد.
-النبات الضار: قد يرمز للذكريات المؤذية التي تلتف حول الشاعر كالقيود.

د- علامات دينية/أسطورية:
-النبوءة التوراتية: تشير إلى قدر محتوم، كأن الألم جزء من سيناريو مقدّر.
-صكوك الغفران: إشارة إلى محاولة التكفير عن ذنب أو خطيئة، أو استعارة لمحاولة الفرار من العقاب.

2- الثنائيات الضدية وتوليد المعنى:

من خلال هذا التعدد العلاماتي، جعلت القصيدة تعتمد على ثنائيات متناقضة تُنتج دلالات عميقة:
المعنى الظاهري/ المعنى المضاد/الخفي
العوم (النجاة) / طريقة للغرق (استسلام)
الرحيق (الحياة)/ الرحيق الأخير (موت)
المنفى (الغربة) / وطن ثان (تأقلم)
السماء الغريبة (الاغتراب) / اكتشاف الذات
هذه الثنائيات تُظهر صراعًا بين البقاء والاندثار، بين الانتماء والغربة، وبين القداسة والدمار.

3- الانزياحات الشعرية وتفجير الدلالة:

-المفارقة:
“-العوم أليق طريقة للغرق” → النجاة تصبح وسيلة للهلاك.
“-كل المنافي وطن ثان” → تحويل الألم إلى قبول.
-التناص:
-التوراتي (أورشليم، النبوءة) يُضفي بعدًا تراجيديًا.
-الأسطوري (بلعم الطرس البليل) قد يُشير إلى شخصية بلعم بن باعورا في التراث، الذي حوّلت لعنته إلى نبوءة.
-المجاز:
“-تمطر في تموز” → مجاز عن المشاعر التي لا تتبع منطق الزمن.
“-تلتف وحشتها على قدميَّ مثل نبات ضار” → تشبيه الغربة بكائن حي مؤذٍ.

4- النظام السردي والأبعاد الرمزية

-المتكلّم (الشاعرة):
-يبدو كشاهد على الدمار، يحاول تحويل الألم إلى قصيدة.
-يتقمص دور النبي أو الكائن المكلَّف بنقل النبوءة المحتومة.
-المكان:
-أورشليم تمثل الجرح الجماعي، بينما السماء الغريبة تمثل الغربة الفردية.
-الزمن:
-زمن مقدَّس (توراتي) × زمن شخصي (تموز، الغسق).

الخلاصة:

القصيدة تُبنى على علامات التناقض بين:
-الخراب والبناء: أورشليم كرمز للدمار، لكن المنفى يصبح وطنًا.
-القداسة والتدنيس: النبوءة التوراتية تُقابل بصكوك غفران مزيفة.
-الحياة والموت: الزهر الذي يموت في كل الفصول.
العلامات السيميائية في النص ليست مجرد حزن، بل بحث عن معنى في الفراغ. الشاعرة تحوِّل “حطام القصائد” إلى لغة جديدة، حيث الغرق وسيلة للعوم، والمنفى وطنٌ مؤقت.
هكذا، تتحول العلامات من رموز ثابتة إلى كائنات حية تتنفس التناقض، لتُظهر أن الشعر ليس سوى “حطام يبحث عن معناه في غربة العلامات”.

ذ. سعيد محتال / المغرب


حطام قصائدي
ساحرةٌ فَزِعة..
أضحت ” أورشليم”
غادرتِ الخرائب مع الغسق
على حائط مبكى
بعدما انتظمت في فصول الموت،
ونمّقتْ قصيدةً للرحيق الأخير،
حتى أينعت
بلعم الطرس البليل
ثم أعلنت تحت شمسٍ كالحة:
العومُ ألْيَقُ طريقةٍ للغرق.
لم يبق شيء
يا حياة فأغلقي
باب الغرام وأسرفي
في الهجر
كل الفصول، شهدت موت الزهر
كصوت ذاهل بالحزن.
كل وجع
تنبأ بنبوءة توراتية
صكوك غفران
أباح القدر
ان لا يلوي الغسق
أتظنّ أنني أتسّمر في عليائي معتدّا
مزهوّا بكامل انتصاراتي
ولا أحد يدرك حقيقة انكساري
تحت سماء غريبة
ما زالت تمطر في تموز
تلتفّ وحشتها على قدميّ مثل نباتٍ ضارّ
وجوه بلا ملامح، يبتلعني لونها الرمادي
أعيش غريبة
وكلما تحمّل الهواء برائحة ياسمينة قريبة
تذكرتُ أن وقتاً طويلاً مرّ
الأرضُ التي هاجرتْ إليّ
منحتُها جوازاً دبلوماسيا
وقبل الإصدار ختمتُ:
كل المنافي وطنٌ ثان.

الشاعرة منى قجيع / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *