إنك وأنت تقرأ “زياد حمّامي” ستحسّ بذاك الحبر الذي يجري في عروق سطوره، يبحث عن سطر أبديّ يحمل أولئك المسمّرين على نوافذ الغربة، الذين يحملون بلادهم على ظهورهم، ينتظرون قطع تذاكر الانتظار، عسى الأيام تقلّهم في حلم عابر.
حبرُ يحرر ثقل الكلمات، يلملم شتات النبض، يبحث عن جرعة شهيق، يسيل من صراخ المقهورين والمحرومين التائهين في بلاد الجليد، يرسم مع كل غيمة عابرة رسالة؛ يلقيها في ترسانة الحروف والمعاني العميقة والرموز ذات الدلالات البليغة؛ فتارة تسمع شكوى الأضواء الواقفة في منارة بعيدة تومئ لأشرعة ملونة لتعبر بلا هوية، وترى أصابع الضباب الساكنة في ذاكرة العيون، والسكاكين اللامعة في ضوء الحلم؛ وتارة تكتشف تلك الأرواح التائهة في أعماقها، التي لا يراها ولا يسمع أنينها أحد.
-كاتب التزم أوجاع الوطن وقضايا الإنسان والإنسانية، فماذا أراد أن يقول عندما كتب عن “قطط إسطنبول”؟
هل أراد أن يصوّر علاقة الأتراك بالقطط والحيوانات الأليفة وحجم التواصل بينهم؟ أم ليذكرنا بذاك الفيلم الوثائقي “القطة /”Kedi بالتركية “للمخرجة التركية “سيدا تورون”؛ الذي يعكس الثقافة الاجتماعية والدينية عند الأتراك فيما يتعلق بتلك القطط التي يعتبرونها “كائنات واعية بوجود الله وتعرف جيدا أن الإنسان يعمل وسيطاً لإرادة الله”؟ وتلك النحاتة التركية (سيوال شاهين) التي أقامت تمثالاً للقط السمين “تومبيلي” عام 2016 على الرصيف الذي كان يجلس فيه في منطقة “كاديكوي” في اسطنبول تخليدا لذكراه؟ وهل هو القط الذي يظهر على صورة الغلاف؟ وما سرّ تلك المرأة العارية التي تظهر بجانبه؟؟!
هل “قطط إسطنبول” التي سنقرأ عنها هي تلك القطط السبع الشهيرة التي مرت بتاريخ مدينة إسطنبول ومازالت حاضرة بذاكرة الشعب هناك والتي كانت تسمّى بأسماء ذات دلالات معينة مثل: (ساري المحتالة – بينجو العاشقة – سيكومات المجنونة – أصلان الصياد – دينيز الاجتماعي – دومان الرجل المهذب – جامسين اللاعب) وغيرهم؟ وماذا عمّا كُتب على الوجه الخلفي للكتاب، عن “شام” التي تحولت من داعرة شهية مدللة إلى سجينة أسيرة في غرفة صغيرة بلا نوافذ…؟ هل هي صاحبة صورة الغلاف؟ وما علاقتها بذاك القط؟ وماذا عن النيران التي تشتعل بداخل القارئ وهو يقرأ تلك الكلمات التي تلخص الرواية، وقبل أن يفتحها؟!! وما أن يلج إلى الرواية يتلقفه الكاتب بثلاث كلمات: “الإهداء إلى شام”.
تشويق وإدهاش من أول حرف وأول صورة حتى النقطة الأخيرة في آخر سطر.
-نلج إلى الرواية، وبين تحليق في فضاء الخيال الأدبيّ وارتطامٍ بقاع الحقيقة والواقع، يأخذنا الكاتب في سيناريو دراميّ مؤثر ليقدم مسرودةً دراميّة مذهلة تعجّ بصور وإسقاطات ورموز عميقة، وشخوص تلفها زمكانية الأحداث وواقعيتها فتسقط الأقنعة وتتعرى الوجوه. بين السطور نسمع صراخ المقهورين وأنين المغدورين وندم التائهين.
والبداية مع أهم شخوص الرواية.. “اللولو” -المتشرد السوري ومعاناته وكيف اختبر إسطنبول وكشف أسرار شوارعها ونوافذها وناسها- وتلك العصفورة التي أتعبت الريح جناحيها فحطت مترنحة في حديقة أشبه بغابة وحوش في بلاد الشتات؛ إنها السورية “شام” بطلة الرواية ومحور أحداثها، التي ستقودنا فيما بعد إلى (بيت الشابات) في اسطنبول لنتعرف على رفيقاتها العربيات (بتول اللبنانية – سماح العراقية – ياسمينة المغربية – جليلة اليمنية -…..) ، ونكتشف سبب اختيار الكاتب لعنوان الرواية ورمزية وعمق دلالة هذا العنوان وانغماسه في فحوى الأحداث والغاية التي رسم لأجلها. فنقرأ مثلا في الصفحة 9:
” في هذه اللحظة دخلت “ياسمينة” المغربية، هي شابة سمراء جميلة، عيناها صغيرتان مثل قطة إفريقية……..”
*في الصفحة 23:
” إنها لا تجيب نداءه لها إلا إذا لفظ اسمها كاملاً: آنسة “هند خانم”، هكذا هي، قطة مختلفة عن كل القطط التي تعج بها إسطنبول، وتعتبر نفسها أميرة على مملكة القطط، اعترفت بها المدينة أم لم تعترف ……..”.
*”قطط إسطنبول” ليست فصلاً مسرحيّاً للتسلية، وليست لوحة تجمع بشراً وحيوانات أليفة؛ هي حكاية وطن أعماه جنون العتمة، وشعب تقاسم رغيف الحزن والذل والعار. حكاية أرض ماتت جذور أشجارها وتعرّت أغصانها، بلاد الفاجعة والدماء الصاعقة، وطرق مفتوحة إلى المنافي والغربة والضياع، وآثار أقدام الموجوعين المطبوعة على رمال الشواطئ قبل الرحيل. هي صندوق من الكلمات والصور والألوان، والذي لا يملك مفتاحه إلا كاتب جريء ملتزم، مثقف وصاحب قضية كما هو “زياد كمال حمّامي”.
-“قطط إسطنبول” رواية تعكس صور الحروب ونتائجها التي تلقي بظلالها على الإنسان اجتماعيا ووجدانيا واقتصاديا، سياسيا وثقافيا ودينيا؛ حكاية انقلاب المفاهيم وتشوّه القيم وتلاشي الأخلاق وفساد المجتمعات. رواية تحكي عن الإذلال والمهانة التي يُعامل بها الإنسان في بلد اللجوء كما في اسطنبول، أولئك الواقفين امام مديريات الأمن والهجرة للحصول على بطاقة حماية مؤقتة (الكيمك)، (صفحة 22: “خروف أمام شاة وجدي خلف نعجة…”)، وصعوبة الحصول عليها مما دفع بالبعض للانتحار كما فعل (عمرو الأشقر) الذي رمى بنفسه من الطابق السادس بعد يأسه وفقدانه لحلمه بالارتباط بحبيبته (غفران). والفتيات العربيات في “بيت الشابات” اللواتي تم استغلالهن بأبشع الطرق وأقذرها بعد خروجهن من بلادهن التي اجتاحتها الحروب؛ ناهيك عن تجار الرذيلة الذين يمتهنون الاتجار بالبشر والتجسس والغش والخداع.
صور قبيحة بشعة حوّلها “زياد حمامي” إلى لوحة مذهلة تشدنا للتمعن بتفاصيلها، تأسر حواسنا، تلهب ذاكرتنا وتفجر بداخلنا بركان غضب ضد اغتصاب الإنسانية فينا من ناحية، وتعاطف مع أولئك المسجونين في ساحات اللجوء ينتظرون مراكب الموت للعبور إلى الضفة الأخرى بلا هوية ولا أوراق ثبوتية تُعرف بهم، من ناحية أخرى؛ أولئك المنبوذين من الشعب التركي، المحاربين من المرشحين السياسيين الذين يحرضون على طردهم، وهذا ما ظهر في اللوحات التي كانت ترفع في الساحات (والتي نقل الكاتب صورة إحداها في الصفحة 55). أما جوهر الحكاية فهي “شام” الذي غرر بها زوج أمها واغتصب طفولتها، ثم أغراها “تاجار” بوعود كاذبة وسهل هروبها إلى الموت والدمار، فنسمعها تصرخ: “كلكم ضد امرأة واحدة، يا لعظمة النساء، إن روحي وجسدي لم يقبل أن أكون داعرة، لقد خدعوني واحتالوا عليّ، الموت أشرف من أكون داعرة “.
-“شام” التي سمّاها الكاتب ليشير إلى بلده المسلوب سورية، و “اللولو” هو ابن حلب حملها وحمل أبوابها التسعة في وجدانه، والذي دافع عن شام وأخذ على عاتقه تحريرها مما هي فيه بكل السبل حتى النهاية. أما “ياسمينة” المغربية التي أعلنت تضامنها مع شام في الإضراب عن العمل، هي رمز للأشقاء الذين حاولوا التعاضد معها ولو بالكلام .
” صفوح الهدلة” الشيخ المزيف الذي يختبئ في ظل جمعية خيرية أسماها (بر الشام) لجمع الثروات تحت مسمى تبرعات للاجئين؛ ما هو إلا رمز من رموز الذين ساهموا في تدمير الوطن وتزييف القيم .
وهكذا، في يد كل شخصية رسالة، كتبها “زياد حمامي” بحبر وريده وسكب حروفها على وسائدنا وفي أفئدتنا، فعمّدتها السماء لتضيء شموع الليل القاتل.
-**الترميز في رواية “قطط إسطنبول :”
لقد ارتكز الكاتب في سرده لأحداث الرواية على نقل كل ما هو متخيّل وملموس من واقع الحياة المحيطة، والمفارقات التي تمثل مواجهة بين الفضاء الذهني والواقع الإدراكي، وإخفاء الكثير من الدلالات بين السطور ليشغل القارئ بالكشف عنها؛ وهذا ما تقتضيه لغة الترميز بالوصول إلى الدلالة التي يتم تأويلها، وبالتالي يمكن الكشف عن مضمرات كينونة النص ومتخيلات السرد انطلاقاً من أنطولوجيا التفكير. فنقرأ مثلا..
-ص 49: في مقهى “أيام شامية”
قالت السيدة “دينيز” بحزن ونواح شديدين: “-مات الأشقر، لكن روحه لم تخرج من المدينة.”
-(نلاحظ كيف اختار الكاتب اسم القط التركي) “دينيز الاجتماعي” لهذه السيدة بمنهجية رائعة لتحصيل المعنى المراد من ذكره.
*ص105: “…..قد يحكمون عليها بالإعدام: “آه.. ه.. يا اللولو النحس، سيعدمونك لامحالة”. فكر كثيرا، نعم، انها غاية في السحر والجمال، قد تجذب قططاً أخرى، فتتجمع وتتكاثر، ويتحول سجن الترحيل إلى مزرعة واسعة للقطط.”.
وهكذا استمر الكاتب بطرح مفارقاته والمواقف التي تعتمد القراءة التأويلية والكشف عن المخفي وراء مكنون الكلام، بداية من القناع الذي ألبسه للعنوان حتى النهاية التي تركها مفتوحة للقارئ ليجد لها ما يلبسها، موجها رسالته من خلال تأطير الأحداث بزمكانية متناسبة وتعالق الشخصيات بعمق الفكرة. ولم يستخدم الكاتب تقنية الترميز إلا لإبراز الإيحاءات النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي وظفها ليعكس مرجعيته الواقعية ، والعلاقة الرابطة بين المكان الروائي والمتخيل السردي ، وهذا ماتحدث عنه ” رولاند بارذس/ Roland Barthes ” بقوله : ” عناصر العمل الفني لاتكتسب دلالتها إلا ضمن الخيوط الدلالية للرواية ، ولاتقوم بوظيفتها إلا داخل البنية الروائية ، وأن وظائف الفضاء وقيمه ودلالاته مختلفة عما هو في الواقع الخارجي لأنه في النص الروائي يخضع لاستراتيجية الخلق الفني التي تهتم بما هو دال ووظيفي .”.
خاتمة ..
قطط إسطنبول، لم تكن بالنسبة ل “زياد حمامي” إلا ومضة أشعل بها خيوط حكايته؛ حكاية شباب مشرد يحاول صنع مساءات تطل على الحياة، حكاية وطن كسرته الحلكة والعاصفة والشاطئ وأرصفة الطريق، يئن في غابة جرداء لم تثمر غير الرحيل، تتقاطر عليها دعوات الأخوة وكلماتهم ووعود بلقاء تحت ظل شمس تترنح فوق برج هدمته أصوات الموتى التي لم تجلب إلا حافة الهاوية وغصات ملأت البئر بالآهات و الدموع. حكاية وطن يتنزه به المشردون في شتاء موحش تحت قصف الكلام في وحل الأسلاك الشائكة وبين صفوف المقنعين.