قراءة في المجموعة القصصية “جني الأكفان” للكاتب العراقي “واثق الجلبي” / بقلم: ذ. باسمة العوام / سوريا



كما تُختَصر “الحياة” بكلمة، يَختصِر “واثق الجلبي” عالماً من الثقافة الاجتماعية والتاريخية، الدينية والفكرية، السياسية والفلسفية العميقة، في كلمتين: “جني الأكفان”.
أسئلة وجودية محورها عبثية هذه الحياة، وأجوبة يحملها غوّاص من أعمق أعماق بحور المعاني والترميز والدلالات، وما على المتلقي والناظر لذاك المشهد إلا أن يكتشف الدرّ المكنون فيما يخرج ويطفو على السطح.
-“جني الأكفان” عنوان لمجموعة قصصية تضمنت مائة وأربع عشرة قصة قصيرة (114)، تحت عناوين عميقة مميزة تثير الدهشة والاستغراب أحيانا والتشويق الهائل للقراءة؛ وليس ل “جني الأكفان” قصة بينها. هذا العنوان الذي عنون به الكاتب مجموعته هذه ليترك لنا تخيّل قصته؛ رغم أن العناوين الفرعية لا تبتعد بمعناها ودلالاتها، بل جميعها متشابك بخيوط نسجها الكاتب بهذا الثوب الجميل، منها مثلا (حفرة نوم – أخرس الرجال – صندوق العراء – شفة بابل – أرض الغرق – ثقوب المطامير – كسرة ندم تكفي – نبي – بكاء – نعش الفم – زحمة رثاء……).
فإلى أين سيأخذنا واثق الجلبي؟ وفي أي مكان سيتركنا؟ تحت الأرض أم فوقها؟ مع أجساد ميتة، هي كل ما يجنيه الكفن؟ أم مع أرواح تهيم في فضاء هذا الكون، يعجز الكفن عن احتوائها؟؛ ومن هذا/ هذه صاحب/ صاحبة الصورة التي احتواها الكفن، تحت العنوان، على الغلاف؟؛ ثم بالنظر إلى الوجه الخلفي للغلاف، نجد نصاً عن لسان الكاتب يلخص فيه الأسلوب واللغة التي اختارها لسرد مجموعته، وهذا النص هو المقدمة التي تبدأ بها هذه المجموعة؛ والتي يتساءل فيها الكاتب قائلاً: “هل فهمنا أنفسنا؟ هل تواددنا مع ذواتنا؟ هل أفصح كل منا للآخر عن رغباته في أخذ المزيد من الشهقات المتكررة؟ أسئلة الطين هذه لن تتوقف. عندما يكون السؤال رداء، لن تجد لرغبتك متّسعاً”.
-“واثق الجلبي” لا يكتب للعابرين فوق الحروف، بل لأولئك الغارقين بين السطور، الذين يجدون أنفسهم بين الشخصيات المستترة تحت مجهر الأسئلة المتعلقة بإمكانية الأحداث وواقعيتها، وكل الأشياء الكامنة وما ينعكس عنها إلى أعماق الذات الإنسانية.
كاتب تفرّد بأسلوبه السرديّ، وامتطاء متن الحكاية بكل أبعاده الدلالية والبنائية؛ أمسك بمفتاح أحدث الأبواب الذي يفتحه على مجموعته التي أسماها قصص السرد الشعري وأسلوبه في “السرد الشعري”، والذي ذكره في مقدمته قائلا: “ربما لأني متيقن بعدم وجود شيء ميت سارعت بعملية احتكاك الحروف لإيقاد شرر لغوي يكون مفتاحاً مستقبلياً لفهم طبيعة الإدراك البشري. الغوص عميقاً عملية حتمية وجدلية يجب فك رموزها وفق منهجية الفهم والاستيعاب من منطلق الكشف والبحث عن الجديد الذي يصبح قديماً بعد وقفة قلب أو إتلاف معنى”.

إلى السرد الشعري، والحس السردي، ودلالية البنى السردية التي يتماهى فيها الشعر والسرد لتشكيل علائق جديدة في آلية السرد وتقنياته وخصائصه البنائية والأسلوبية، وواثق الجلبي الذي أنشأ عرش حروفه فيها ….
-يقول “تودورف”: “السرد هو الطريقة التي يتبعها السارد في نقل الحكاية واحداثها؛ هذه الطريقة التي تتعلق بالجانب الصياغي للغة أو الشكل اللفظي، والتتابع الزمني/ المنطقي، والجانب التركيبي (السردي) بحضور مقولات الصيغة والزمن والشخصيات وغيرها، فتسهم في بناء النص السردي وتقوم بدورها في عملية تشكيل الحكاية التي ترتكز على أدوات السردية”….
أما “واثق الجلبي” فيتمرد ويثور كالبركان مفجراً أسئلته، متجاوزا كل الأساليب الخطابية والتصويرية التقليدية ليتبنى أسلوباً يتميز بالإيجاز وعمق المعنى وكثافة الإيحاء والترميز الذي يوظفه بكل مهارة في تحقيق مشهدية مثيرة ومدهشة تستفز القارئ، تحيّره، تسائله، تتعبه وتدهشه وتأخذه خارج ذاته إلى العالم الذي يحتويه؛ فيصير الوضوح صعباً والغموض مفتاحاً للحس السردي العميق الذي تجلّى بين سطور هذه الحكايات وتمازجها بعناوينها وتموّجها بين التصوير المبطن والتحليل والتقرير والتأويل والإيقاع الشعري الذي يرتد صداها من العمق، فنقرأ مثلا :
*-من قصة “صندوق العراء”:
“ربما كان الدواء داء.. منطق أخرجه من الزيف، من عتمة ظل يُخرج من رأسه النوافذ، فلا لسان ولا شفة تستطيع أن تلفظ طعم رعونته الفارغة، خمسون عاما قضاها منتحرا يمشي جذلا بالخيبة، يعصره الطين فتخرج من قلبه آه الأدوية الملقاة حول طابور سنينه اللاهثة نحو صندوق في العراء…”.
*-من قصة ” شفة بابل”:
” أسماها زهرة، أطلق عليها ليلى، سعاد، سلمى، استعار لها أسماء الكواكب والنجوم، لكن ذلك لا يكفي، لماذا لا يقول اسمها؟ خوف أم جبن أم أنه يشق بذلك عصا النائحين؟ ….. “
*-من قصة “زحمة رثاء”:
” لم يُرد إحياء الموتى، مائدته غثيان أحجيات الأزمنة، لم يعرف صيادا أمهر من الزمن، فمشى بلا تسخير رياح ولم يرغب بتعلم لغة الطيور، ما أراده ان يعيش بحب في زمن لا تصنع المعجزات فيه شيئآ”.
*-من قصة “بكاء”:
” لماذا صار يشعر بالألم فجأة؟ لماذا أخفق في آن يعيش كما هؤلاء؟ سيلان توبة أم موتة من عنف فكرة تستغيث؟ لم يُبطئ في كل شيء، حتى الطعام كان ينزل بلا تذكرة، يمشي كالبرق لأن حياته لا تساوي كسرة حلم ……”.
*-من قصة ” خرافة خرافة”:
” أحال شكواه إلى صانعه الحكيم وأدرك أن اختباره الشديد كان نارا تذيب عن بصيرته الغشاوة، رغم ضراوة اشتباك الأسئلة إلا أن عذوبة الاطمئنان لم تفارقه، مضى مصدقاً قلبه مكذباً أصباغ الناس ومقتنياتهم الفكرية الميتة.”.
*-من قصة ” نبي”:
” دخل فرأى العجب، وجد حبيبه جالساً على كرسيّ من خشب عتيق والناس لا تعبأ به، وهم يتصارخون ويتصارعون من قديم الزمن إلى هذا الوقت. عرف بعضهم لكنه جلس أمام من أحب، أعطاه حبيبه قلبه بعد أن انتزعه من صدره، كان الدخان يلفّ فؤاده فبكيا وهما يشبكان الأيادي”.
*-من قصة ” نيس بوك”:
” ما الذي أتى به إلى هنا؟ صوت خافت وقلوب خرس ومساحيق تنتشر كالغبار، هذا هو الحلم الذي ربط الجميع بواقع الظهور…….
نيسٌ على نيس، كمٌّ من نوازعه تطايرت حتى ما عاد يعلم من يكون ذلك النيس، مات الوعظ العتيق واستمرت حواجز القهر تعلن توبة النقاء من النزول إلى بعض القلوب “.
*-من قصة ” حريق في برميل ورد”:
” تأهب جنّيّ الأكفان وهو يدحرج رأسه فوق برميل الورد وما من دافع له ليوقف جنون الجان، تلة زئبق ورحيق خرف يتدفق عباءة عطش في صحراء بابل، نسيم يورث الأمل جيث السفر عبر الأبواب إلى تخوم ذوي البصائر، توقف ضاحكا وقد رمى كل أشيائه المخزونة في بقايا رمشة طائر، تنفس افكاره وطرقت باب قلبه نوافذ النوارس وهَدهدَ ماتبقى من توابعه الهائمة……”.

-خاتمة …
طرق يصلها الكاتب بحواسه وفكره ومداد حروفه، يأخذنا فيها معه أيضا بحواسنا وفكرنا؛ منه المداد ومنا التمعن والتأمل، ننظر بعيون الأرض كلها لنلتقي آخر السطر في مساءات تطلّ على الحياة، تسري بنا بمائها، تختبرنا ونختبرها، ونترك للريح حمل أصوات الموتى، صمت الأكفان، سكون المقابر، وعفاريت الجن تتلاطم بين أمواج الظلام. وعند نهاية أخرى، سلام يبلل ريق الحياة، وأرواح تذكّر الأبجدية بقول كل ما قيل وما يجب أن يقال، وعلى حافة الدهر حيّ وميت يتسامران.
هذا هو الخيال الممزوج بالواقع، وهذه المشهدية التي تستفز ذواتنا من خلف نوافذ الإيحاء والتلميح والترميز، وبركان الأسئلة الذي لا يخمد، وهذه هي رحلة التجديد والتثاقف والانفتاح على الذات وعلى النفس البشرية وكينونتها، التي نعيشها مع “واثق الجلبي” ونقف على مكنوناتها، انفعالاتها، انعكاساتها وكل مفاهيمها في نصوص استثمرت فيها كل الأبعاد الدلالية في بنية سردية رائعة.

ذ. باسمة العوام / سوريا



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *