امرأة وبوصلة…؟
يا حامل الشوق وجدا بين أضلعه
كفاك.. فالود في عمق الحشا نارُ
هلا عرفت بأن النور موعده..
في الفجر حيث لقاء الحبِّ أنوارُ
والله لا.. لم يعد في القلب متسع
أرجو ولا في ثنايا الروح إيثارُ
يا من غدا هدهدا.. في نيل مقصده
ما كان في سبأ.. حولٌ وإخطارُ
تدنيك مني، أشعار وعاطفة
وأحرف وهجها نثرٌ واشعارُ
ثم اِستحالت إلى بوح أنوء به
أراك فيه، ودمع العينِ موارُ
تهمي عيوني حرى في نواظرها..
تحدو بمؤتلق التهيام أوتارُ
أفق معارجه، ريح وعاصفة
أيرتضي من رؤاك البوحِ إعصارُ
(لات) الشرائع ما زلت معظمة!!
(نيرون) فيهنَّ حراق وسمسارُ
وذي (مناة).. لها في الدار شارعة..
وجرح خلقِ دماء الحبِّ أنهارُ
(أزلامها) رغم فجر الحقِّ شامخةٌ
وللطغاةِ برغم الكتمِ وإظهارُ
مهما تماديت في التهيام.. وانشعبت
منك الأماني.. ففي الاعماقِ أغوارُ
معارج الهم تترى وهي وامضة..
فقد وثكل وإعلان وإسرارُ
لم أنس أمسي.. ولا وقع العداة بنا
نحن السبايا وقد عجت بنا الدارُ
تذيبني وحشة، دمع ألوذ بها..
لا يضمحل.. وفي الآماق مدرارُ
يافرحة لم تدم، يا غربة بدمي
غثاؤها أبدا كالغيث موارُ
كانت رؤايَ وقلبي بعض أمنيةٍ
تهتزُّ والروحُ عند الوجد قيثارُ.
الشاعرة مارينا أراكيليان أرابيان / Marina Arakelian Arabian
تُعدّ قصيدة “امرأة وبوصلة” للشاعرة العراقية مارينا أراكيليان أرابيان نموذجاً شعرياً معاصراً يمزج بعمق بين التجربة الوجدانية الذاتية والترميز الحضاري التراثي. هي رحلة مكثفة لـ”الذات الشاعرة” التي تتأرجح بين قيود الواقع وطموحات التحرر، مستخدمةً الشاعرة في ذلك تقنيات فنية متقدمة، أبرزها نسج شبكة من التقابلات الدلالية العميقة.
البناء والدلالة: دائرة المعاناة المغلقة
تتميز القصيدة ببنائها الحلقي الذي يبدأ بمحفز الشوق وينتهي بإدراك الحلم المكسور، مما يشير إلى دائرة المعاناة الوجودية المغلقة. يعتمد التنقل بين المقاطع على تقنية التدفق الشعوري الذي يحاكي اللاوعي، مما يوحد بين الأفكار والانفعالات.
العنوان نفسه يحمل مفارقة: “البوصلة” أداة لتحديد الاتجاه، لكنها هنا مرافقة لامرأة في حالة تيه. هذه المفارقة تمثل جوهر القصيدة: البحث عن اتجاه في عالم فقد بوصلته الأخلاقية والفكرية، حيث تتحطم الرموز وتفقد معانيها.
استخدمت الشاعرة لغة موحية تجمع بين الرقة في التعبير عن العاطفة والقوة في نقد الواقع. وقد أسست القصيدة لصور بيانية توحّد بين مظاهر الطبيعة (الغيث، الإعصار) والرموز التاريخية/الدينية (نيرون، مناة، لات)، لتجسيد حالة التذبذب النفسي بين الهدوء والحركة.
المحاور الأساسية للصراع:
-ثنائية الحب والألم: يشكل الحب المحور الأهم، حيث يتحول من مصدر بهجة إلى مصدر وجع مُحرق.
-التحول الداخلي: “الود في عمق الحشا نار”.
-عمق المعاناة: “جرح خلق دماء الحب أنهار” (صيغة مبالغة توضح فداحة الألم).
-صراع الذات مع المحيط: يتجسد الاصطدام بين توق المرأة/الشاعرة للتحرر وجمود المجتمع وقيوده.
-النقد المرير: “لات الشرائع ما زلت معظمة” (تهكم على الجمود الفكري).
-الغربة الوجودية: “نحن السبايا وقد عجت بنا الدار” (مفارقة تعكس الإحساس بالاستلاب داخل الوطن).
-توظيف الرمزية التاريخية: توسيع لدائرة الدلالة عبر تناصات مكثفة:
*نيرون: رمز للطغيان والاستبداد السياسي.
*مناة و لات: رموز للوثنية الفكرية والاجتماعية المعاصرة.
*الهدهد: رمز للحكمة والسعي النبيل نحو الهدف والمعرفة. (قصته مع نبي الله سليمان)
التقابل الدلالي: العمود الفقري للقصيدة.
تشكل التقابلات الدلالية شبكة من التوترات التي ترسم ملامح الحوار الداخلي والمعاناة الوجودية، وتتمحور حول ثنائيات رئيسية:
النور/الظلام،
الحرية/الأسر،
البوح/الكتمان،
الماضي/الحاضر.
تقابلات دلالية خلقت حواراً داخلياً ومعاناة وجودية:
- الشوق/الألم:
“حامل الشوق”، “لقاء الحب أنوار”، “عاطفة” مقابل “الود في عمق الحشا نار”، “جرح خلق دماء الحب أنهار”، “دمع العين موار”
الحاصل = تحويل الحب من مصدر بهجة إلى مصدر حرقة ووجع داخلي مستمر. - الأمل/الظلام :
“النور موعده في الفجر”، “أنوار”، “مؤتلق” مقابل “لم يعد في القلب متسع”، “أفق معارجه ريح وعاصفة”، “إعصار”، “وَحشة”
الحاصل = صراع بين إمكانية النور (النجوم، الفجر) وغلبة الواقع العاصف واليأس الداخلي. - الكتمان/البوح :
“الكتم”، “إسرار” مقابل “بوح”، “أشعار”، “أحرف”، “إعلان”
الحاصل = صراع بين الإلزام بالكتمان ورغبة الذات القوية في التعبير والتحرر عبر البوح. - الماضي/الحاضر :
“لم أنس أمسي”، “كنا السبايا”، “فرحة لم تدم” مقابل “لم يعد في القلب متسع”، “غربتي بدمي”
الحاصل = مرارة الحاضر المثقل بالغربة والألم مقابل ماضٍ كان يحمل، رغم ألمه، لمحات من الأمل والفرح العابر. - الطموح/الأسر :
“هدهدًا في نيل مقصده”، “أماني”، “معارج” مقابل “لات الشرائع ما زلت معظمة!”، “نحن السبايا”، “أزلامها شامخة”، “الطغاة”
الحاصل = التوق إلى تحقيق الذات والحرية (الهدهد) في مواجهة قيود المجتمع المتحجرة (لات، مناة) والسلطة الطاغية. - الغربة/اللقاء :
“ألوذ بها”، “فرحة لم تدم”، “غربة”، “وحشة” مقابل “لقاء الحب”، “رؤايَ وقلبي بعض أمنية”
الحاصل = الغربة والوحشة هما الحالة الدائمة التي تطغى على لحظات الفرح العابرة، وتُروى بدم الذات. - الوجدان/العقل (السلطة) :
“الشوق”، “القلب”، “الروح”، “العاطفة” مقابل “لات الشرائع”، “نيرون”، “أزلام”، “الطغاة”.
الحاصل = اصطدام العالم الداخلي الجياش بالشوق والعاطفة بواقع خارجي متصلب تحكمه أصنام فكرية واجتماعية.
التقابل الدلالي والوزن:
عمل الوزن في القصيدة والذي يتمثل في البحر البسيط كحامل طبيعي للتناقضات والتقابلات، طبيعة بحر البسيط يجسد الأرضية المناسبة للتقابل
مُسْتَفْعِلُن فاعِلُن مُسْتَفْعِلُن فاعِلُن
(تكرر 4 مرات في الشطر)
إيقاع متوازن بين الثقل والخفّة
(مستفعلن = ثقيلة، فاعلن = خفيفة)
يحمل تنوعاً إيقاعياً يسمح بالتعبير عن المشاعر المتضادة
فالتوازي الإيقاعي يعكس فعلا التوازي الدلالي:
-التقابل: الشوق (خفّة) ← النار (ثقل)
الإيقاع: نفس التفاعيل تحمل معنيين متضادين
-المرونة مع قوة تدفق المشاعر:
-“وَاللهِ لا.. لَمْ يَعُدْ في القَلْبِ مُتَّسَعُ” (يأس)
“أرْجُو وَلا في ثَنَايَا الرُّوحِ إيثَارُ” (تمرد)
–التناسب:
-مستفعلن: ثقيلة تناسب الألم، القيود، الظلام
-فاعلن: خفيفة تناسب الأمل، الحرية، النور·
إن البحر البسيط في هذه القصيدة لم يكن مجرد وعاء لنقل المعاني، بل كان:
شريكاً فعّالاً في التعبير عن التناقضات·
إطاراً مرناً يستجيب لتقلبات المشاعر·
نظاماً موسيقياً يعزز تأثير التقابلات الدلالية·
هذا التكامل بين الشكل العروضي والمضمون الدلالي هو ما يجعل القصيدة تحقق هذه القوة التأثيرية، حيث يصبح الوزن ناطقاً بالمعنى قبل حتى أن تنطق الكلمات!
الخاتمة:
صرخة وجودية وهوية جديدة، ترسم التقابلات صورة مكثفة لامرأة (تمثل الإنسان الحساس والطموح) تعيش في حالة انزياح داخلي وصراع ثلاثي الأبعاد: قلب يحمل شوقاً حارقاً، روح محاصرة بواقع قاسٍ (طغيان فكري واجتماعي)، وبوح يتحول إلى إعصار مُؤلم بدلاً من أن يكون تحرراً.
القصيدة هي صرخة وجودية ضد القيود، ومحاولة لتحويل المعاناة الشخصية للمرأة المبدعة إلى قضية جماعية تخص الهم الإنساني العام. بفضل التوازي التركيبي والعمق الفكري، تمثل “امرأة وبوصلة” نموذجاً متميزاً للشعر النسوي العربي الذي يزاوج بين الجمالية الفنية وعمق الرؤية النقدية.
ذ. سعيد محتال / المغرب
منشورات ذات صلة

