الصهيل (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. صالح هشام / المغرب


إلى كل نسيبة فلسطينية تلطم بالخمر الدبابات في زمن الهزائم العربية.
-الضياع… أقصى درجات الضياع: ضياع الضيعة… ضياع الهوية… ضياع الكرامة يا ولدي.
تأتيك كلماته متقطعة من ذلك البياض المستطيل، القابع، هناك، في ركن قصي من أركان الخرابة. يتجمد لسماعها دمك، تفرخ في دماغك ألف سؤال عريض، تبحث له عن إجابة، ماذا يعني بقوله؟: صن أرضك… احفظ عرضك… أرضك… عرضك، من يضيّع أرضه، يضيع عرضه، يصبح ذئبا أجرب بلا مأوى، يعوي في صحراء مقفرة الجنبات.
ويزفر زفرته الأخيرة، ثم يستوي عليه البياض، وفي حلقه غصة مكورة من وطن مسروق.
تتحسس عنقك، يركل قلبك في صدرك، يقتلك أبوك قبل أن يموت. تشعر بوصيته خنجرا مسموما مغروزا في رقبتك. تنبطح أرضا تلمسها بروحك، تنتشي بنعومة ترابها، تغْرف منها حفنة، تشمها، وتتنهد تنهيدة عميقة شبيهة بتنهيدة المرحوم، وتبحر في تفكير محموم. تنتابك تخاطرات مذعورة، تبحث عن ثقب للإفلات من ذاكرتك المتعبة.
حاسة شمك قوية، تلتقط رائحة المطر: ستمطر قريبا، فتورق الكروم، وتزهر أشجار الزيتون، وتستبشر خيرا. في مهبط الشمس، تلوح لك غيمة كبيرة، تسد عين البحر من الضفة إلى الضفة. تتماوج، تصعد، تهبط، ولا تستقر على حال. أسراب البلاء قادمة، تسقط على الزرع فتحيله قاعا صفصفا. يهولك أن هذا الجراد كائن مفترس، يفترس افتراس الضباع، مولعٌ بمص دماء الأطفال والشيوخ والنساء، ضَرَارَته زرقاء، لا يميز الألوان، يأتي على الأخضر واليابس، نار تخبط خبط عشواء، لا تختار من يشب فيه إحرقها.
أهل الضيعة منشغلون بسيوف- على أكتاف الرعاديد- ترقص رقصة الغباء، ولا تترنح نصالها في أيدي الصناديد. منشغلون بحروب الصهيل، تتناسل بينهم، كلٌّ يمتشق حسامه، يمتطي صهوة مطيته، فيغوصون جميعا مطايا وفرسانا في نوبة صهيل محموم، صهيل في ساحات معارك معتمة حمراء، لا تربو عن بضعة أمتار. يحز في نفسك ما آل إليه وضع السيف والسياف، الفارس والفرس، فتتورم شفتاك، وتضغط على حفنة التراب بقوة، تتكور، وفي قبضتك تتحجر، فتؤلمك حد الوجع، وتصيح فيهم:
-ويحكم! أ يُلهيكم قراد أصفر، ولحم أبيض عن سيوف تأبى الرقص على الأكتاف؟ وتضيق. -درعا -بالأغماد في سائر البلاد، وصهيلكم جيم جنس مجنون، لا صهيل ميم معارك وحاء حروب. ويحكم يا عرب! لقد غاض منكم ماء الوجه إلى آخر قطرة.
يؤلمك وجع التراب، وجع كل الأوجاع، تؤذيك رائحته، وفي قرارة نفسك فكرة شك خطيرة: لا أدهم ولا أبْجر، لا صهيل خيول، لا صليل سيوف في صحراء العرب، فقط صهيل من يحسنون الصهيل، لكن في مساحات ضيقة حمراء.
يهجم الجراد كجحافل يأجوج ومأجوج، يستف التراب، يمتص لُحِيَّ أشجار الزيتون، يعب ماء النهر والبحر، يدمر الحجر والشجر والبشر. يتحرش زعيمه بضيعة العرب، يعبث بضفائرها ضفيرة ضفيرة، يتلاعب بخصلاتها خصلة خصلة. تتمنع عليه، تستعصي عليه، يسل خنجر الغدر من غمده، يشرحها شرائح وقطع صغيرة، ثم يغتصبها، تستنجد بالأهل:
-وا عرباه! وا معتصماه! وا إسلاماه! وا عزتاه! وا شرفاه!
تنزل صرخاتها على مسمعك كرنين المطارق، كحصيات صغيرة ترمى في قاع بئر سحيقة، فيعانقها فراغ النفوس من العزة والكرامة. تتساقط الأقنعة تباعا، يتزاحم أهل– ماتت فيهم نخوة المعتصم- على فتحات الأبواب، عبر الشقوق، ومسام الحيطان، يتلذذون بتأوهاتها، وفي نَهم يستعذبون صرخاتها، ينتشون بانتهاك عرضها، فلا داحس… لا غبراء… لا بسوس…. خرافات من زمن مضى.
وتصيح فيهم بكل ما أوتيت من قوة معاتبة:
يا عبيد الصهيل، ومماليك الصُّهال ماذا دهاكم؟ ماذا أصابكم؟
ويجيبها صمت الصمت.
حينها، تندب حظها وحظك، وبدون صدى يتردد صوتك في الفضاء، فبرودة النفوس صمت الآذان:
كم كنت وحدك يا ابن أمي.
كم كنت وحدك.
يا ابن أكثر من أب.
كم كنت وحدك.
تكفكف الضيعة الضائعة دموعها، تغسل عارها بدم عذريتها وشرفها المدنس، تحبل سفاحا، تنتظر مولودها الجديد، يبحث له ماسحو النعال عن أصل وفصل، يمنحونه نسبا، يكسبونه الشرعية، ويدخلونه التاريخ من أبوابه الواسعة.
تتأجج سطوة الجراد، يعلو صريره، ويرتفع. يجتاح حقول الزيتون والليمون فيدمرها، ولا من يحفل. يهدد الكراسي المهترئة، يعقد اجتماع طارئ -على عجل -لتدارس سبل مواجهة الجراد، فماء الوجه نضب وغاض. يصفق كبيرهم ليشد انتباههم، وبصوت غير متحمس، ما يزال فيه من الصهيل أثر يرن في آذانهم، ويزعق:
-كيف نمسح عارنا يا قوم؟ الجراد تمكن من الضيعة، فضعنا، وسيقبح أولادنا وجوهنا، سيعري عوراتنا تاريخ لا يرحم، فلنتدارك أمرنا.
أحدهم يدُحُّ كرشه مكورة متدلية أمامه حتى ركبتيه، يطبطب عليها متخمة بالصهيونية، ويعتلي منصة الخطابة:
-أتسمعون بقوم عاد وثمود؟ هؤلاء العظام الشداد الغلاظ يا قوم؟
يتبادلون نظرات حيرة واندهاش، ورغم ذلك، يبالغون في التصفيق:
-ما علاقة هذا الذي يحدث يا رجل، بقوم عاد وثمود، أ تطلب النجدة من الأموات؟
-قرأت في كتب صفراء قديمة: أن هؤلاء الأقوياء حاربوا، في زمن مضى، جحافل الجراد بالدجاج، وكانت الديكة تقود الجيوش، فما رأيكم يا سادة؟
آخر يغوص في أريكة جلدية، ولا يظهر منه إلا رأسه المتوجة، تفوح منه روائح النفط والخذلان، يرد عليهم بعصبية:
-في أي الكتب ورد ذلك يا رجل؟ إنك تكذب.
-أنا لست كذابا، أما أنت، فيخيفك الورق الأصفر، تخيفك خربشات التاريخ.
يتراشقون بالشتائم ويتبادلون الاتهامات، ثم يتحول الأمر إلى عراك بالأيدي والأرجل، وتقع الفؤوس في الرؤوس، ويصيح كبيرهم بقوة:
يا قوم، ألم تسمعوا بأن الجراد كان وجبة مهمة على موائد أجدادنا أيام القحط والمجاعة؟ فما علينا إلا إحكام قبضتنا عليه، فنقتات به كأسلافنا.
يحبس الجراد النفس في الضيعة، ويفاجئ قاعة اجتماعهم، يعيث فيها فسادا، تسيح الأجساد الرخوة أرضا، توضع الرؤوس تحت الكراسي كنعام يحتمي برمال صحراء مكشوفة، تدمر سطوته كراسيهم، تلتهمها، تقزقزها كحفنة لُبّ.
تضغط على حفنة التراب، تتصلب في قبضتك، تتحجر، تتحول جلمود صخر، تلوح به في وجه الجراد، وتقذفه به، وأنت تصرخ:
أنا لك أيها الجراد القادم من وراء البحر، شرف الضيعة في عنقي أمانة، لن أخون وصية المرحوم، لن أخون التاريخ، لن أكون ذئب الصحراء الأجرب.
وينفلت منك صراخك خافتا مبحوحا، وقلبك ينبض بقوة.

ذ. صالح هشام / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *