قراءة نقدية في قصة “مكان فارغ” للأديب أحمد الوارث / بقلم: د. مصطفى سلام / المغرب


النص:
في امتلاء الفراغ: هامش على قصة “مكان فارغ”
يعرف المشهد الإبداعي القصصي في العالم العربي عامة و المغربي خاصة حضورا قصصيا مهما، يعرف تنوعا من حيث الموضوعات أو المضامين القصصية، إضافــة إلى اختلاف و مغــايرة طـرائق الإخــراج السردي، دون أن ننسـى حضور أقلام نسائية أبانت عن كفاءات إبداعية مهمـة. ومن بين النصوص القصصية التي سأقف عنـدها في هذه السلسلة النقدية: “مكان فارغ” للقاص المغربي أحمد الوارث الذي يحمل مشروعا إبداعيا مهما في القصة القصيرة من خلال عدد من النصوص التي نشرها في كثير من المواقع.


في المتن :
ركبت الحافلة، كان الجو حارا، والركاب؛ بعضهم ضاق صدره من طول الانتظار، وراح يـــَلْعَن الحافلة وأهلها، وبعضهم غارق في دخان سيجارته غَير عابئ بِشيءٍ ولا بأحد، وبعضهم منكب على أكله، بينما اِنْزَوى بعضٌ على بعض يتضاحكون. ما إن أخذت مكاني حتى شـرع البـاعة المتجولون في الظهور؛ كانوا يصعدون من الباب الأمامي وينزلون من الخـلف، وهم يحملون بَضَائِع وسـلعا محـلية ومهـربة، ومـأكولات معـلبة وغيـر معـلبة، وأدويـة صينية وهنديـة… ثم جاء دور المتسولين، الذكور والإناث؛ كان بعضهم يسْتَجْدِي المعـونة بالنـوح والبكـاء، وبعضهم بالعـزف أو بالترنُّم والإنشـاد، وبعضهــم بقـراءة القرآن وأدعية السفر. ولا أحد منهم يكترث لاستفزازات المسافرين أو لإهمالهم، ولا لصراخ السائق أو معاونيه.
انعقد في الحافلـة سـوق شعبي، وكثر الهـرج والمـرج، واشتد ارتجاج الحافـلة وعـم أزيـز محركهـا، واختلـط الغبار والدخان بأشعة الشمس، فبدأت رؤوس الصبية والضعـاف من الرّكـاب تتمايل يمينـا وشمـالا كـأنهم سكـارى. وأنا… قابــع في الصف الخلفي، أنتظر، وأنظر بين الفينة والأخرى في جريدة، بينما وضعت أخرى في المقعد المجاور.
من وسط ذلك الزحـام، ظهرتْ امرأة شابـة، علـى محياها مَسْحة من جمال ذابـل، وهي تبحث عن مكـان فارغ. مددت يــدي بسرعة، وأزلتُ الجريدة، ففَهِمَتِ الإشارة، وجلسَتْ إلى جواري.
انشرح صدري، وارتاح بــالي، حتى إني لــم أدر متى انطلقت الحافلة. وبعد إبـاء وعنـاد منـها، وإصرار وعزم مني، طابت نفسُها للحديث، وصرت أتمنى لو طالت بنا الرحلة.
قبيل بلوغ المنتهى، غادرت المرأة الحافلة، وأنا أتابع خطاها من نافذة الاستغاثة. كان في انتظارها كهل بدين، وصبية شقراء جرت نحـوها بمجرد أن رأتـها، وهـي تـنادي: مامـا، مامـا.. حمَلت المـرأة ابنتها بيـن يديها، وألقت على الرجـل سلامـا فاترا، ومضت وراءه في تثاقل واضح… ثم التَفَتتْ، ونظرت إليّ بإمعان.
كان في عينيها حسرة ذات لهب، ولسان حالها يردد: أنا عانس، كما أخبرتك، يا أحمد، ولو أني متزوجة.


في الإخراج السردي:
اتخذ النص عنوانا له “مكان فارغ” مما يوحي بأن تمثيل مضمون الفـراغ هو موضـوع الحكاية في النص. حيث يحكي السارد عن رحلته في حافلة ويشير إلى مقعد فارغ جواره في حالة فراغ. فماذا يحمل هذا الفراغ من دلالات؟
انتظم الإخراج السردي لمتواليات النص السردية وفق التسلسل التالي:


1- وصف وضعية انتظار الحافلة .
2- أخذ السارد مقعدا و حجز آخر مع متابعة الوصف .
3- ظهور امرأة و جلوسها جوار السارد استجابة لتلميحه .
4- حوار السارد مع المرأة بعد ممانعتها .
5- نهاية رحلة المرأة و أثر ذلك على السارد.


انتظمت هذه الأحداث سببيا من خلال تبئير مضمون الفراغ :
الانتظار
التدمر
الانشغال الفراغ
التعويض
التدمر 


هكذا، كان انتظار الحافلة فـراغا، حيث من كان ينتظر يسعى من خـلال حركاته و أفعــاله و انفعـالاته إلى الانفلات من سطوة الفراغ (……) و هذا ما جعل كثيرا ممن كان في محطة الانتظار يتدمر من تأخر الحافلة عن موعدها، الشيء الذي يدفع المستاء إلى الانشغال بأمور مثل القراءة أو الحوار أو المشي ذهابا وجيئة أو التأمل في الفراغ المهول .


الفضاء و الفراغ :
يدل الفراغ على خلو حيز من أي مادة. كما أن من معانيه الوسع والرحابة…. والفـراغ حيز لا تراه العين المجــردة ولا يدرك إدراكا ماديا. لكن الفراغ يستوعب كميات من الأجساد والأشياء. و هذا إمكان من إمكانات الفراغ، أي القابلية للملء أو الامتلاء.
إن الفراغ امتداد أفقي و عمودي في الفضاء و المساحات، فكيف تجسد الفراغ دلاليا و رمزيا في النص / القصة؟
يمكن الوقوف عند ثلاثة أنواع من الفضاء في القصة شكلت مرجعا لأحداث النص و بالتالي كانت أفقا لدلالاته:


1- الحافلة :
تمثل فضاء متحركا أو متنقلا، و حيزا يقبل الامتلاء من طرف المسافرين أو البضائع. إن الحافـلة تنتمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه بالفضاءات العـابرة أو الرابـطة بـين فضاءات وأمـكنة أخـرى مـثـل القطـارات و السـيارات و الطـائرات… لـقد أصبحت هـذه الوسـائل ببعدها النفسـي و الفنـي و الـجمالي و التقني فضاءات للحيـاة أو الوجود… و قـد اشار النـص كـيف أن الحافلة أصبحت مسرحا لأنشطة متنوعة: التسـول و الكـدية و الـتجارة و الدردشة و النصـب و السرقة…. و هذا يكشف عن وضعية وسـائل النقل العمومية و ما يطبعها من مظاهر تعكس خصوصية البيئة الاجتماعية. و قد جعـل السارد من الكرسي فضاء فارغا قابلا لأن يشغر أو من الممكن أن يجلس فيه مسافر أو مسافرة ..


2- السارد :
يمثل السارد أهم محـفل تفيض عنه الحكاية و تخـرج إلى الوجـود في صيغة او شكـل حكائي ما. و هنا السارد يحكي عن جزء من تجربته في الحياة، أي ما تعـلق بالسفـر عبر حافلة من مكان إلى آخر. و الارتحال لـدى الإنسان يـحمل مـعاني و رموز كثيرة، كما يتضمن كثيرا من أبعاد الإنسـان النفسية و الاجتمـاعية و الثقافية، و هنا يمـكن أن نـنظر إلى الإنسان / السارد باعتباره فضاء متنقلا، متضمنا لأشيـاء و محتويات فكـرية و نفسيـة و وجدانيـة و ثقافيـة. أي أنه فضـاء مركـب من أكثر من عنصر. السارد يحكـي هنا عن فراغه، عن حيز فيه خال مما يلبي حاجته و يستجيب لرغبتـه. و نلاحظ أنه انتقل من الحديـث عن فـراغ مـادي إلى فراغ نفسي عاطـفي فكري. و يبحث عمن يشعـره بالامتلاء او يعوض ذلك الإحساس. فحجز مقعد فارغ جــواره و عرضه علـى المرأة لتقعد جانبـه إشارة إلى رغبـة لديـه في من يملأ الفراغ المحيط به. كما أنه دليل على مقعد أو حيز فارغ في نفسه. و هذا جزء من خطته في التعويض:


فراغ في الرفقة، لأن السفر يحتاج إلى رفيق أو رفيقة .
فراغ في الحديث أو الكلام: لأن السفر يحتاج أيضا إلى من نتحاور معه أو نتبادل معه أطراف الكلام حول أمور مختلفة واللغة حيز للأفكار، و غيابها يدل على الفراغ.
فراغ في العاطفة: أو الحاجة إلى الأنوثة، إلى المرأة. السـارد هنا لا يرغب أن يملأ الفراغ جواره رجـل أو ذكر، و لكن يرغب أن يكون من نصيب امرأة تملأ عليه فراغه الداخلي و تؤثث بحضورها وجوده الذي ينهكه الفراغ.


3- المرأة :
رغم زواجها و إنجابها، فهي تشعر بالفراغ و تعبر عنه بالمقال و الحال. تشعر بفراغ حياتها من معنى الزواج أو من غيـاب الزوج المناسـب أو الكفؤ. و ذلـك للمفارقة التي تشعر بها أو تحسـها اتجاه زوجـها. و هـذا ما يمـكن أن نعبر عنه بالطلاق العاطفي (أنا عانس يا أحمد، كما أخبرتك و لو أني متزوجة).
تلامس هذه القصة من خلال مقوماتها الفنية بعضا من معاني الفـراغ، و هو هنا لا يتعلق بالفضـاء أو الحيز المـادي فقط، بل يتعداه إلى الجوانب النفسية و العاطفية، حيث يمكن اعتبارها بنيات تقبل الامتلاء و الاحتواء، وهي لا تملأ بما هو مادي و لكن بما هو معنوي، أي ما يمثل قيمـة و معنى عند الإنسان: قيمـة الامتلاك هي معنى ضد الفراغ. و الإحساس بالمعنى و القـيمة و الاعتـراف و الاعتبار هي معاني ضـد الفراغ. أن تحيـا حياة و تعيش وجـودا تتوفـر فيه الشـروط الضرورية و المناسبة للحياة في مختلف تجلياتها هي معنى ضد الفراغ.

د. مصطفى سلام / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *