قراءة للمجموعة القصصية “وشم في ذاكرتي” للأديبة ليلى عبد الواحد المراني / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



توطئة:
راقني و راقني جدا أن أكتشف على الصفحة العامة للفيسبوك إصدارا جديدا للصديقة ليلى المراني عن دار المختار للنشر والتوزيع تحت عنوان “وشم في ذاكرتي”، و تم تصنيف الكتاب “قصص قصيرة”…

و في غمرة فرحتي بهذا المولود الجديد الذي جاء لإغناء المكتبة العربية، من ديار الغربة، أثار فضولي اختيار العنوان “وشم في ذاكرتي”… و مرد هذا الفضول كون صياغة العنوان تشبه إلى حد التوأمة عنوان إحدى أعظم و أشهر الروايات المثيرة للجدل للكاتب و عالم الاجتماع المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي “الذاكرة الموشومة” (بعنوانها الأصلي باللغة الفرنسية La mémoire tatouée التي حاولت رصد بعض الأحداث التي عاشها كاتب الرواية خلال طفولته في مرحلة الاستعمار الفرنسي بشكل خاص والتي انتقد فيها في العديد من المرات بطش هذا الاستعمار وجبروته وعنفه…)

لكن معرفتي بالأستاذة الكاتبة ليلى المراني كأديبة عربية متشبعة بالأدب العالمي الأنجلوساكسوني و قلة احتكاكها بالأدب المكتوب بالفرنسية، تؤكد أن تشابه العنوانين مجرد صدفة ليس إلا…
لكن، و الصياغة (صياغة العنوان) مشحونة بحمولة ثقافية و جمالية و وجدانية، جعلتني مجبرا على التوقف عند “عتبة النص” هذا (المجموعة القصصية)..

1ـ قصص قصيرة هي وشم في ذاكرة مكلومة:
الوشم “هو شكل من أشكال التعديل الجسدي ويتم بوضع علامة ثابتة في الجسم وذلك بغرز الجلد بالابرة ثم وضع الصبغ عن طريق هذه الفتحات والجروح ليبقى داخل الجلد ولا يزول”…
ثقافيا (بالمعنى الأنطربولوجي) في الوقت الحالي، متداول عند الأمازيغ و (شمال أفريقيا)، وعند الماوري في نيوزلندا، والهاوسا في شمال نيجيريا، والعرب في شرق تركيا، والبدو في سوريا… و غالبا ما يحيل على انتماء إثني، أو عرقي، أو عقائدي، أو حتى طبقي…
و للوشم دلالات و إحالات و إيحاءات… لغويا قد يعني الغرز، أو الوخز، أو النقش، أو النبش، أو الهبش، أو حتى الضرب (“هبش فلانا: ضربه ضربا شديدا مبرحا”)…
و نتوقف هنا عند معنيين متداخلين: الأول بمعنى الوخز لأجل نقش على أطراف من الجسد بغية التجميل… و هذا المعنى يذكرنا بما أنشد ثعلبة:
“ذكرت من فاطمة التبسما، غداة تجلو واضحا موشما، عذبا لها تجري عليه البرشما”
و معنى الوشم في هذا السياق حاضر بقوة في قصص ليلى المراني في أبعادها الفنية و الجمالية الراقية، كما سنرى ذلك من خلال بعض النماذج من مجموعتها القصصية التي نحن بصددها هنا…
و يوحي المعنى الثاني ـ بعيدا عن أية مفارقة أو لبس ـ على كون الوشم “نبش في الذاكرة” (كناية على شكل تركيب يقصد فيه معنى آخر لصفة ما..)
وشم أو نبش في الذاكرة هو (هما معا) تلك الكتابة الأدبية حيث تتقمص الذات الساردة “أنا” ثانية/ أخرى، تجد ملاذها في عوالم موازية (آليس في بلاد العجائب)، تستحضر مقامات (أمكنة، أزمنة، أشخاص، عواطف، أحداث…)، و هي تخاطب دب على شكل دمية:
نقرأ: ” احتضنت دب (الباندا) الذي تضعه قرب وسادتها منذ عشرين عاما، قبلته، و في أذنه وشوشت “أنت صديقي منذ الأزل، أعرفك و تعرفني، أسراري كلها معك… مطمئنة أنا، ليس لأنك لا تنطق، و لكن العشرة بيننا جعلتنا صديقين، بل و أكثر، ضاقت أنفاسي في صدري، و أريد أن أسرك بأمر يعذبني”… (قصة “الأرجوحة الحمراء”).
“أريد أن أسرك بأمر يعذبني”… صياغة جميلة ل “النبش في الذاكرة” بدعوة غير مباشرة موجهة للقارئ لينتظر سرد حكاية.. هي تقنية “الفلاش باك” كما في السيرة الذاتية… رؤية من زاوية “تبئير داخلي” يغلف رواسب متراكمة باستحضار ومضات من مواقف مؤلمة عاشتها و عايشتها الذات الساردة:
نقرأ: “أصبحت اللقاءات في مدينتي تأخذ طابعا جديدا… نساء يتلفعن بعباءات سوداء، و ظلال لهفة و شوق للوصول إلى المكان للقاء يكاد يتكرر يوميا، الأمر كان مختلفا عند أول جنازة ل ـ شهيد ـ تحمله سيارة عسكرية، و موشح بالعلم، بخشوع اصطف المارة على جانبي الطريق، يلوحون بأيديهم، مودعين بالدعاء، و بجنات الخلد، بعضهم بكى، و نساء زغردن للشباب ـ العريس ـ يزف إلى قبره قبل أن يكمل دينه..” (قصة “ميراث حزن”).

2ـ قصص قصيرة هي وشم في ذاكرة عبور:
تجدر الاشارة إلى أن الكتابة القصصية بقلم ليلى المراني مرتبطة كما أسلفنا الذكر عضويا و جدليا بالذاكرة، أي بتلك المسافة الملموسة بين حاضر زمن الكتابة هنا/ الآن، و زمن موضوع الكتابة… هي قصة عبور بين معيش واقعي حقيقي، و أحداث من الماضي البعيد أو القريب يتم سردها من وجهة نظر كاتبة مبدعة رهينة قواعد لغوية، و انزياحات أسلوبية، و صيغ بلاغية، و تمثلات لهوية و انتماء، و تعبير عن مشاعر و مواقف شخصية…
و كما عند شكسبير في “هاملت” و “حلم ليلة صيف”، يتعلق الأمر في قصص ليلى المراني بقصص عبور بين عالم “الغابة”، و عالم قد يبدو أكثر “تمدنا” و “حضارة” سمته الكاتبة “أرض الأحلام”… لكن بين العالمين لابد من رحلة.. لابد من هجرة سرية.. لابد من عبور باسم اللجوء غير المشروع…
نقرأ: “يوم و نصف… و غابة مرعبة، تسمى الغابة السوداء، من يدخلها، لايخرج منها (…)، و أنا القادمة من أرض نخيلها الباسقات، بساتين تلعب بها الشمس نهارا، و القمر يغفو على سعفها ليلا. (…). خمسة عشرـ كيلومتر، و نصل إلى الطرف الآخر من الغابة السوداء، ثم خطوة أخيرة و تتلقفنا أرض الأحلام…”. (قصة: “فصل من رحلة موت”).

3 ـ قصص قصيرة هي وشم في ذاكرة أنثى:
و إن كنا نتحدث عن العبور، فهو في المجموعة القصصية ليلى المراني، هو أيضا و خاصة قصة عبور من “شيء” اسمه “أنثى” (مجرد جسد جميل و مثير) إلى “كائن” اسمه “امرأة”/ إنسانة ذات وجود و كنه و ماهية و مواقف و دور إيجابي و طلائعي في المجتمع و الحياة…
العبور الأول في هذا السياق، ثورة الكاتبة على الكليشيهات الذكورية السلبية المسيئة لسمعة المرأة “العانس”، و تهميشها، و اعتبارها غير مؤهلة للزواج أكثر من مرة كما هو شأن الرجل الشرقي… و العبور أو التحدي هنا ليس للافتخار أو التباهي بغرور امرأة تحدت العنوسة و تزوجت عدة مرات.. الرسالة كما سنقرأ، أبلغ بكثير: فشل المؤسسة الأسرية مقرون عند الكاتبة بفشل المجتمع كمؤسسة غيبت قيمها و أسس قيامها و استقرارها و استمراريتها…
نقرأ: “أنا لست عانسا كما يتوقعون (…)، لقد تزوجت عدة مرات، هم لا يعلمون، و لا يهمني أن أخبرهم. أنا يا صديقي أخوض كل أسبوع تجربة زواج… زواج فاشل، أخرج منها نادمة، و أقسم ألا أعيدها… و رغما عني أقع في فخ الزواج ثانية، و ثالثة، و رابعة… و العدد مفتوح.. (…). فأنت الوحيد الذي يسمعني بصمت، و يصدق ما أقول عن كل زيجة لي من بين العشرات…” (من قصة:” الأرجوحة الحمراء”).
و تعدد الزيجات هنا، لا يحيل مطلقا على اعترافات من سيرة ذاتية كما قد يتوهم القارئ العادي… الكاتبة ليلى المراني مثقفة ملتزمة و صاحبة مواقف فكرية و فلسفية و سياسية… المرأة في قصصها ليست مجرد أنثى… هي كما عند الكاتب الروسي العالمي مكسيم جوركي صاحب الرواية المشهود بثقلها المتنور “الأم”، و كما في رواية الأديب الفرنسي فيكتور هوغو “93”، رمز الأرض/ الوطن/ الأم… كل يومن أو في كل محطة، أو عند كل ظرفية، تغير أوطاننا العربية معطفها، و من حضن حليف إلى آخر كما أنثى تغير عشيقها أو زوجها… منتهى الاستهتار…
لذا نستشف من وراء السطور هذه الغضبة من وضعية محفزة للثورة عن واقع ميؤوس منه، لما نقرأ:
“الجمال لعنة حقيقية، لم أدركها إلا لاحقا…” (من قصة “و كشر أنيابه من جديد”).
و نقرأ من نفس القصة:
“قوة خارقة تفجرت في عروقي فجأة، و تحديت خوفا عتيقا سكن أعماقي، و أعلنتها مواجهة مفتوحة لأول مرة، أسلحتي كانت حقدا دفينا، و صرخة مكتومة ظلت تعذبني سنين و سنين”…
و لنا لقاء مع المبدعة الكاتبة ليلى المراني في مناسبة أخرى… قراءة ممتعة أتمناها لكم أعزائي القراء لمجموعتها القصصية المتميزة، و سنة جديدة مباركة أتمناها لكم و كل عام و أنتم بخير.

د. بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *