استهلال
أصبح الزجل واقعا ابداعيا معاشا، وأصبحت الكتابات الزجلية تفرض نفسها على المتلقي عبر الأغاني والشعر والحكايات والحلقة والمسرح وغيرها من الأجناس الأدبية.
ولا نخفي انتصارنا للروح الحداثية في كتابة القصيدة الزجلية، هذه الروح تزلزل الثابت وتستنهض المتحول، وتخرج عن رتابة البوح العادي والعشق والخيانة بأسلوب رتيب ممل.
يقول المفكر الروسي الكبير جورج طرابيشي: (إن الانفتاح على الحداثة هو الذي يمكن أن يطرح على التراث أسئلة جديدة.. وأن يستنطقه أجوبة جديدة.. وأن يعيد صياغته في إشكاليات جديدة.)
ولهذا يجب النظر الى الزجل الراقي بعين ثاقبة وناقدة، فيؤكد جورج طرابيشي بصفة عامة: (العقل لا يكون عقلا إلاّ إذا كان نقديا).
جورج أورويل: (ربما يموت الإنسان عندما يتوقف دماغه، أقصد عندما يتوقف دماغه عن استيعاب أفكار جديدة.)
يقول الأستاذ عمر العسري: (لقد انفردت القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة بجماليات خاصة وجديدة تضيف إلى منجز الزجل المغربي الشيء الكثير، فشعرية هذه القصيدة لا تتوقف عند مسألة الريادة.) [1]
ويواصل الأستاذ عمر العسري في نفس المقال :(لقد استفادت هذه التجربة من السرد ومن فنون السينما والمسرح في استخدام التقطيع الشعري، واشتبكت تيماتها باليومي والهامشي، ومزجت بين الصورة المجازية المبتكرة الطبيعية أو الواقعية التي تستمد عناصر بنائها من الواقع لا تعيد إنتاجه، بل تعيد تشكيله حسب رؤية الشاعر له). [1]
ان القصيدة الحداثية المغربية عرفت تحولات جدرية وراكمت أنفاسا هائلة من المعرفة الإنسانية واستفادت من الفكر الفلسفي والتاريخي والابداعي العالمي، وفي هذا الصدد يعلق عمر العسري قائلا: (تكمن حداثة القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة في قيامها على تراكم نصي ومعرفي) [1]
ينشد الشاعر المتميز كمال جنبي، في بوح ابداعي شعري عن عشقه لفن الزجل، فينشد:
(كنعشق الزجَل
حيث كل مّا نزل
ضبابه ؤ كتبني
على وراق الكَلِبتوس
خلاني.. نعشَق تفاصيل مُمِلّه
روآيِح،.. بلا صوت
شميتْها، ؤ سمّيتها رِيحة امل
قبل ما يفوت لأجل
ؤ تهرب مني
شوفةْ كولومبس
ك ترشق ليا ع لْحياة المًطله
على حافة لموت)
1- في العنوان ((معاودة))
يقول الشاعر كمال جنبي عن نصه الإبداعي الزجلي ((معاودة)): (هي تبوريدة الى بغيتي تݣول ديال الذات ولحظة تأمل قد يجدها البعض مخاض القصيدة. على العكس هي انفلات وانقلاب على الذات في نفس الوقت).
انه بوح بطعم الحكي اذن، وهو بوح حكائي بديع، وكما يقول عبد الفتاح كيليطو: (كل الحكايات الجميلة حقيقية.).
حيث يتقمص الشاعر كمال جنبي دور الحكواتي ليحكي لنا ميلاد قصيدته ((معاودة))، عبر التوهج ومخاض التفكير والسباق من أجل كلمات إبداعية حقيقية وبمعاني صادقة وكاشفة. انه (حَكَّاء)، حيث يقص حكاية وقصة ميلاد قصيدته عبر البناء الشعري من اختمار الفكرة والتفكير فيها وكتابتها، وهي عمليات متشابكة متداخلة ومعقدة وصعبة ولا يمكن تجزئتها عن بعضها البعض.
فالمعاودة: يقصد بها شاعرنا كمال جنبي: التذكير والحكي، والحكي، والحكاية كما يقول المثل الروسي: (يصنع العمل بتؤدة، وتروى الحكاية بحيوية.)
2- في السباق المتعب لكتابة القصيدة
ذات كبرياء وبهاء، أنشد أبو الطيب المتنبي:
(الخيل والليل والبيداء تعرفني***والسيف والرمح والقرطاس والقلم)، لأن الخيل عنوان النخوة العربية والسباق، فالسباق عنوان الشجاعة والفروسية معا، ولهذا كتب
إبراهيم نصر الله: (وتذكر انّ من تعرفه الخيل لن يجهله الناس.)
ولهذا يدخل كمال جنبي في سباق مع الابداع، ويريد لمعانيه أن تسبق كل شيء كعود حقيقي. انه سباق حقيقي للمعاني التي يجب أن تخرج قوية، فيفوز الشاعر بكتابة قصيدة بهية وراقية.
قال نابوليون بونابارت: (ان الرجل الذي عقد النية على الفوز لا ينطق كلمه مستحيل). ولهذا كتب الصحفي بيس ترومان: (من الجميل أن تفوز.)
يقول زجالنا كمال جنبي:
(بغيت المعنى راكبه
ڭُمري
سْبڭِي، حَط الريَال
ؤ جري
ؤ خلي لزرڭ عاڭب
بكري)
3- في الاختمار
ان القصيدة لا تأتي من فراغ. فالشاعر يطلق العنان لخياله ولفكره، فتختمر الأفكار وتتشكل معالم قصيدته خطوة خطوة، فكرة فكرة، بيتا بيتا، ولهذا قال محمود درويش: (حين تكون القصيدة واضحة في ذهن الشاعر قبل كتابتها، من السطر الأول حتى السطر الأخير، يصبح الشاعر ساعي بريد والخيال درّاجة.)
يكتب الأديب غوته: (ينبغي أن يسمع الإنسان كل يوم قليلاً من الموسيقى، ويقرأ قصيدة جيدة، ويرى صورة جميلة، ويقول إذا أمكن كلمات قليلة معقولة.)
ولهذا ينشد كمال جنبي بحكمة:
(خَمْري يا قصِيدتي
فحَمْرِي)
4- في ميلاد القصيدة
ان ميلاد النص الإبداعي ((معاودة))، يأتي عبر معاناة الشاعر الذي يتعب ويجد كثيرا، ولهذا يردد مع أدونيس: (عش ألقا وابتكر قصيدة وامض.. زد سعة الأرض.)
ولهذا للشاعر كمال جنبي مواقف شجاعة في كتابة نصه الإبداعي، لأنه كما يقول محمد الماغوط: (أحاولُ أن أكون شاعراً في القصيدة وخارجها، لأن الشعر موقفٌ من الحياة، وإحساسٌ ينسابُ في سلوكنا).
5- في مميزات الكتابة
في النص الإبداعي ((معاودة))، استعمل كمال جنبي عدة تقنيات من سرد وحوار وبوح وصور شعرية وانزياحات وتناص، فكان نصه الزجلي هذا بمثابة لوحة فنية متكاملة، ولهذا علق صلحي لطفي على نصه قائلا: (حوار جاد وازن ومتزن مع القصيدة… من الاشكالات التي يواجهها الابداع والذات المبدعة.. قضية توليد القصيدة الزجلية في ظروف ابداعية سليمة جميلة الشكل والمضمون. تتوفر فيها كل الشروط والمعايير الأدبية والفنية والفكرية والثقافية.. تحياتي شاعرنا الكبير بالتوفيق والسداد).
حضرت الذات الشاعرة بقوة في النص الإبداعي (معاودة)، وهي ذات فاعلة ومتفاعلة، متحركة ونابضة بحب الحياة، والحياة اختمار وابتكار.. ولذلك كما يقول:
(فهي التي يمكن إخضاعها للنظر والتحليل فضلا عن كون هذه الذات الشاعرة، إنما تمثل في حقيقة الأمر، ذات الشاعر الحداثي، وقد دخل هذا الأخير في تجربة مباشرة مع إمكانات وجوده شعريا، ومن ثم مع إمكانات التحول الشعري، وعندما يدخل الشاعر الحداثي في تجربة مباشرة مع إمكانات الوجود، أو التحول الشعري، فذلك يعني أنه قد صار في جدل مع العالم في كليته، وأنه، من ثم قد أخذ يتحول في العالم بمقدار ما يحول العالم، يتغير فيه بمقدار ما يغير في نظامه ونظام العلاقة بين أشيائه) [2]
خاتمة
وأجمل ما نختم به هو نص زجلي لكمال جنبي بصيغة السؤال.
لبقى السؤال مفتوحا على غد زجلي وكتابة راقية بهية.
يقول كمال جنبي:
(خليني كلمه
تدوي ؤ تداوي
ملي لمعنى
تكون ليها همّه
ؤ الشّآن ل الشعر مساوي
خلي بيني ؤ بين الشِعر
….. مسافه….
لا تݣابلنيش معاه ،
نخآف تطيح الكلمه
وانا ف هاذ الدݣ
بغيت نكون راجل
حتى انت تقدر تكون،
واعدتيه
بلحق نهار كتبتيه
كان مخالف
و عرفتيه خيال واسع مقصّح،
اصل لعلاقه
جمعات بين الحب… ؤ عادت رساله ..
مكتوبين
ل الشِعر
ݣلت نبدآها ب حرف ضاوي
ؤ انت؟؟)
ذ. مجد الدين سعودي / المغرب
احالات
[1] عمر العسري: القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة.. التراكم النصي والوعي الكتابي. جريدة الاتحاد الاشتراكي
[2] عبد الواسع أجمد الحميري (كاتب واستاذ جامعي من اليمن): الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية. مجلة نزوى 01 يوليوز 1997
(معاودة)
(خَمْري يا قصِيدتي
فحَمْرِي
بغيت المعنى راكبه
ڭُمري
سْبڭِي، حَط الريَال
ؤ جري
ؤ خلي لزرڭ عاڭب
بكري
خمري يا قصِيدتِي)
كمال جنبي