قراءة في كتاب “حنين مبعثر” للكاتب والإعلامي اليمني الأستاذ حميد الرقيمي / بقلم: ذة. باسمة العوام / سوريا


أدب الرسائل هو أحد الألوان الأدبية المميزة، التي انتشرت في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
هو فن نثريّ يُظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وأساليبه البيانية والتصويرية القوية. ونراه اليوم في عصرنا الراهن، بشكل جديد ورقيّ والكتروني ..
والرسالة هي مخاطبة الغائب بلسان صاحب القلم مخبراً بها عن أحواله والمكتوب إليه بأسلوب الكاتب أو المتراسلين فيما بينهم.

-( حنين مبعثر) كتاب خالف أدب الرسائل في كونه يضمّ رسائل من كاتب واحد دون ردود عليها، مما يجعله أقرب إلى سرد اليوميات أو رواية حكايات، ضمن رسائل موجّهة وبأسلوب نثريّ ووجداني عميق، وبالتالي نحن نتحدث عن رسائل وليس مراسلة.
ثمان وثلاثون رسالة ( 3) في(116) صفحة، وتحت تلك العناوين:
“إليك فقط – ملامح وطن – منفى آخر – ندوب .. ونصف حياة – طفلك الكبير – أطياف تشبهنا – رائحة خوف – سوماني – صباحات القرية – ملامحي هناك – شرود وطن – كوخ قابل للترميم – حياة مسروقة – لن أخون أبي – أنا.. أنتِ – بوصلة دون اتجاهات – أبي.. لا أكثر – هل تراها مثلي؟ – شظايا على الطريق – تجاعيد طفل – لاأزال واقفاً – الوطن أغلى – سأعود قبل أن أنسى – نهاية قبل البدء – نظرة أخيرة – كعك العيد – مائدة دافئة بالضحك – الجحيم ينتظرك – حكاية طفل – بقايا – كابوس – بقايا حياة – عذابات – ماذا لو!! حكايات صباحات تائهة – تغريبة اليمني – صديقي أيلول”.

-رسائل كلّها معنونة ب “إلى أمي العزيزة”، ومذيّلة باسم الكاتب (حميد الرقيمي).. والبداية ثلاثة حروف منفصلة (أ م ي) متبوعة بالمقدمة :
“ثلاثة أحرف، كأن كل حرف تسبيحة مجنحة، هتاف صاعد إلى السماء، ترنيمة متبتلة، وجع دامٍ، عزف دامع، نزف مديد، وحنين مبعثر ..
هذا أنا، أعود إليك من اللامكان، شجناً ضارعاً أفتش عني وعن عالم كوجهك وقلبك.
أودع كل هذا الشجن بين يديك كي لا ينفرط عقد الأبجدية، فتقبليه خالصاً لقلبك الكريم.
ابنك حميد

-ثمّ كلمات مقتبسة:
“لقد ذهبوا إلى الجنة ياأمي.. لا تحزني، إنهم يتمشون الآن تحت أشجار مزهرة ويتحدثون مع الملائكة وقد نسوا عذاباتهم كلها”.
(نيكوس كازانتزاكيس)
***

-حنين مبعثر: سطّره كاتبنا في رسائله التي حملت ذكريات طفولة في أحضان الأم، وهذا مارأيناه في صورة الغلاف. ثم حنين وذكريات في أحضان وطن مشظّى، باعدت الحرب والجوع والقهر بين أبنائه، وهذا مادلّت عليه حروف ثلاثة مبعثرة، منفصلة ومجموعها أمي كما وردت في المقدمة. والرسائل جميعها إلى الأم بكل تفاصيلها، أم ولدت مازالت تضيء عتمة الطريق دون استياء أو ضجر، ووطن احتضن.. ثم صار عنوان قصة وإمضاء قلم، ذرفه كاتبنا وابلاً من صراخ صامت، بعد أن تركه عند حدود المتاهة والضياع، وكلّ المضامين: حنين مبعثر من طائر تغرّب عن فضاءاته، أنهكه ليل التشرذم و اكتوى بنيران الحرب، فطار يرفرف خذِلاً يداوي الجرح بالألم، ينثر حروفه على الندى علّها تزهر بأبجدية الوطن الغالي.

-ابن اليمن الجريح (حميد الرقيمي) يفتتح رسائله إلى أمه فيخاطبها قائلاً:
“إليك فقط
سأكتب إليك وحدك، ولن أخاطب أحدا دونك ولن تكون هذه الرسائل إلا جسراً يحملني إليك……”
“هذا هو قدرنا ياعزيزتي، قدري وهذا الجيل الذي كُتب عليه مواجهة الموت بالموت، على جبال المعارك المشتعلة وفي ضياع الصحارى الواسعة، على ضفاف البحار التي تلتهم الغرباء دون رحمة…… “

-ثم يعود مع ملامح وطنه وصور أمه وذكريات نحتها الألم على جدران قلبه بكل قسوة فيكتب:
“كان عليّ أن أحتضن في أحشائي الكثير من تراب مدينتي حتى أصير أقوى، لكنني اكتفيت بالقليل وعبرت على جثث الذكريات……”

-و من بلاد أخرى ومن منفى آخر (من القاهرة)، رسالة يقول فيها:
“أكتب إليك، من غرفة تنكرني وسرير يتأوّه من ثقل حمولاتي……”
“أجد الكثير من اليمنيين هنا، ولايمكن أن تخفى ملامح بلادي في أعينهم دون أن أعانقها، تهرع روحي إلى مواساة هذا الجرح الطويل……”

-** ونمضي مع كاتبنا، في رسائل من صفحات ذكريات مشردة، ولغة تسبح على السطور وفي محراب الحنين المبعثر صلاة معانيها، وقلم يكتب الألم في ليالٍ بلا وطن، وفجر يتنهّد عمق المسافات، وأيام غربة هزمت كلّ سنين العمر.
حروف تثور، فيجيبها الدمع صامتاً في عيون تتأمل زوايا الغربة، تمتطي صموداً وصبراً فوق موج هارب من الزبد، تبحث عن شواطئ للأمان والبوصلة دون اتجاهات…
“عشت في بداية الأمر كغريب تائه، لم أكن أعرف أين ستستقر بوصلة روحي وأنا أطارد حلما أعرفه وينكرني…”

-** نتابع القراءة في بعض ماورد في سطور هذه الرسائل:
*”صباحات القرية
……. والآن بعد كل هذه السنوات لاأزال أتحسر على أوقات كان يجب أن تلتصق فيها روحي وكل وجداني وجوارحي بالريف..”
*” ملامحي هناك
أمي العزيزة
أكتب إليك من مطار اسطنبول، أنا في طريقي إلى العاصمة التونسية للمشاركة في أحد المؤتمرات الإعلامية، يعيش الناس هنا في عالم مختلف، وأنا وحدي أصارع عوالم كثيرة، الرياح تصفعني وتذرُّ على ملامحي حبات الغبار القادمة من أقصى بلادي……”
*” سأعود قبل أن أنسى
أمي العزيزة
اليوم سألني صديقي مستغربا: لم لا أحنُّ إلى رمضان المنزل والأم والأهل؟
لقد صفعني بطريقة لايعرف ثقلها على قلبي……
سألت نفسي: هل حقا نسيت كل شيء ياحميد؟ لكنني كنت على يقين بأنني لم أنس، اكتفيت بالرد على صديقي بابتسامة باهتة……”
*” …..أتيتك لأنني لم أجد دفئا في المنافي البعيدة المفرغة من رائحة الحياة.. تلك النسمات التي عهدناها على تلال فصولنا الخضراء تاهت، وبقيت أنا، أنا الذي لم يبق منه إلا أنتِ. تقبّليني حتى لاتنطفئ بقاياك، بقايا طفلك التائه الموجوع.”
*”تغريبة اليمني
أمي العزيزة:
ماسأضعه هنا، قصة عاشها اليمني قبل خمسين عاما، ويعيشها اليوم، وأخشى أن يعيشها في المستقبل، أليست تغريبة اليمنيّ شبيهة بالتغريبة الفلسطينية؟……”
*”صديقي أيلول
أمي العزيزة:
أيلول بطل يمنيّ وضع لي هذه الرسالة، ثم أخذني إلى عالمه العظيم. قد تبكيك هذه السردية قليلا لكنها ملحمة من الشخصية اليمنية التي ننتمي جميعا إليها……”
“ماكان أضعفني عندما سألته: ما الذي تريده مني يا أيلول؟
فرد مبتسماً:
أن تبقى يمنياً حقيقيّاً وللأبد.”
***

هكذا كانت رسائل (حميد الرقيمي)، نصوصاً نثرية رائعة، حملت أبعاداً سياسية، اجتماعية، اقتصادية وأدبية. اعتمدت أسلوب السرد المتضمن لبعض الحوارات والاقتباسات النثرية والشعرية أحيانا، وتضمنت تفاصيل واقعية دقيقة عن حياة الكاتب والأوضاع السائدة والمفارقات التي واجهته في كل محطة من حياته وحال الأماكن التي تواجد فيها. وبالتالي يمكن اعتبار هذا العمل الذي جمع بين أدب الرسائل والأحداث التي تنتمي إلى الواقعية النقدية، عملا أدبياً مميزاً يروي قصصاً واقعية موثقة في رسائل.

ذة. باسمة العوام / سوريا




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *