دلالات العبور إلى سفينة الشاعر والولادة الجديدة.
عبر قصيدة السفينة تحمل زوجين للشاعر المغربي مصطفى ملح / بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب



1- البنية التركيبية الدلالية لنص السفينة حملت زوجين

• الاختيار المعجمي:
إن الكشف عن معاني الكلمات وإبراز خفاياها له أهمية كبرى في تحقيق الخصائص الدلالية التي يحتضنها المعنى العام لأي نص أدبي، وللوصول إلى ذلك لابد من تجاوز البنيات السطحية الصوتية والنحوية والمعجمية للجملة إلى الغوص أعمق في مستوى أعلى من التفكيك والتحليل لما تتضمنه من ألفاظ ورموز وإشارات ذات سمات مختلفة لا يمكن الوصول إلى دلالتها فقط بالاقتصار على بنية الجملة العادية.
إن التغيير الذي يطرأ على المعنى دون اللفظ يأتي من عدم ارتباط اللفظ بالمعنى ارتباطا طبيعيا، وهذا ما أكد عليه العالم اللغوي الشهير فرديناند دو سوسير حينما أشار إلى طبيعة العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول، مما يعطي للغة مرونة في ملاءمة أوضاع مختلفة ومسايرة أحوال متغيرة، يقول الجرجاني في ذلك: “لو كانت المعاني تكون تبعا لألفاظ في ترتيبها لكان محال أن تتغير المعاني و الألفاظ بحالها لم نزل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة”(1)
فمن مميزات الخطاب الشعري العربي المعاصر أنه يجعل من النص بنية واحدة منغلقة على ذاتها شكليا لكنها منفتحة على عدة نصوص موازية له أو متوارية فيه، متجاوزا فيه اللفظ معناه، ليتحول إلى معان متعددة عبر سلسلة من العلاقات الداخلية أو الخارجية التي تساهم في توليد دلالات و خلق فضاءات نصية جديدة، فالإيحاء يوفر إمكانية التعبير المتعدد عـن المعنـى الواحد الذي يمكن أن يتلـبس بصـور شـتى.
ولا بد من دعم دلالة اللغة بغيرها من وسائل الإيضاح والتجلي كالرمز والإشارة وغيرهما لتحقيـق غايـةﹰ الإبلاغ وإيصال المقصود والخفي وراء الكلمات، إلا أن للإشارة دورا أوّليا في ميلاد الظاهرة اللغوية، فعملية التفكير لا تتم إلا باللفظ..
يعدُّ بحث دلالات الألفاظ من أهمّ المباحث التي حظيت بالاهتمام الكبير سواء من قِبل علماء أصول الفقه واللغويين لما لها من فضل في استنباط الأحكام أو الوصول إلى المعاني الخفية وراء الألفاظ المبهمة التي لا يمكن الوصول إليها إلا بعد جهد عميق.
وقد قسم الفقهاء الدلالة إلى دلالة المنطوق ودلالة المفهوم.(2)

وكان يقصد بالدلالة سابقا المعنى، إلا مِن أهل اللغة مَن رأى أن المعنى أوسع من الدلالـة لاقتصـار الأخير على اللفظة المفردة، ومنهم من رأى أن الدلالة أوسع من المعنى فكل دلالـة عنـدهم تتضمن معنى، وليس كل معنى يتضمن دلالة، فبينهما عموم وخصوص.(3)

ولسنا هنا لخوض غمار التنقيب عن هذه الأمور، فليس محله هنا، أو التعرض لدلالات الألفاظ وتوضيح معانيها، وإنما القصد من ذلك الوصول إلى البنيات العميقة لنص “السفينة حملت زوجين” بالاعتماد على علم الدلالة الذي يساعد ليس فقط في دراسة المعنى من حيث الألفاظ، بل يتعداها إلى فك كافة الرموز من أصوات وإشارات.. غير اللفظية، التي أتى بها النص للكشف عما يبطنه من دلالات تسهل علينا الغوص مع هذه السفينة حتى الوصول إلى بر الأمان.
والحديث عن الدلالة يتجاوز البنية التركيبية للنص لتمتعها بحركية التوالد والنمو والتكاثر في محور المعاني.(4)

• بنية العنوان: البعد النفسي والدلالي
السَّفينَةُ حَمَلَتْ زَوْجَيْنِ
جاء العنوان على صيغة جملة اسمية مركبة من مبتدإ وخبر جملة فعلية زمن الماضي، وقد استعمل القرآن الكريم الاسم والفعل استعمالاً فنياً: الاسم يدل على الثبوت والاستقرار والفعل يدل على الحدث والتجدد. وكأن السفينة قدر عليها أن تظل عائمة في دنيا البشر، توالدٌ وتجدد دائمان لا ينقطعان ما دامت الأرض قائمة.
فبمجرد الانتهاء من قراءة العنوان سرعان ما يحشرنا النص في تناصّ درامي مع قصة نوح عليه السلام، وهذا ما يترك أثرا نفسيا منذ الوهلة الأولى باستحضار فكرة الطوفان وغرق قومه ونجاة من ركب السفينة. ذاك المشهد الرهيب الذي يصور مدى طغيان البشر وعواقب تجاهلهم لأوامر الله ونواهيه، وكيف أن العاقبة للمتقين المصدقين بيوم الدين،
فهل من امتداد لهذا الحدث الذي لا يكاد يفارق مخيلتنا كلما تلونا القرآن الكريم؟
هنا سيحضر في ذهنك بلا شك عدة تساؤلات.. ما الذي يريد الشاعر إخبارنا به؟، ولم أعاد إحياء هذه الصور في نفوسنا؟، وعن أية سفينة يتحدث؟، وما وجهتها وغايتها؟.
هذه القصة معروفة لدى جميع الأديان والبشر، تكلم عنها الشعراء والأدباء والمفكرون منذ القدم، كان آخرهم الشاعر السوري أدونيس، إلى جانبه الشاعر المصري أمل دنقل، عاشا زمن النكسات وخيباتها 1967 و 1973، فتمثلا وقائعها في أشعارهما، أدونيس من خلال “أغاني مهيار الدمشقي” وأمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، ما وجدا خيرا ولا أفضل من الرجوع إلى تمثل سفينة نوح، فزمنهما كان مليئا بالغيوم، والطوفان حينها كان على وشك القدوم. فهل من طوفان على الأبواب يقترب من الشاعر المغربي؟، أم أن هناك شيء آخر جعل الشاعر يستحضر هذه الواقعة ليعبر من خلالها عمّا يشعر به من تهميش لهذه الفئة المبدعة من الشعراء؟
جوابا على سؤال وُجه للشاعر من طرف الكاتب ميلود لقاح بتاريخ: 12/05/2018 -نقل الحوار بجريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية- يقول “أمّا الشّعراء المهمّشون الذين بالكاد يعيشون، فلهم رهانات أخرى، أهمّها أن يوجدوا: بمعنى أنّ الكتابة في حدّ ذاتها هي تعبير عن وجودهم، ومحاولة لتأجيل موتهم إلى وقت غير معلوم. فعندما أكتب أقلّل من نسبة إصابتي بالعدم الذي يسكنني، كما لو كنت أصرخ في كهف، اسمه الكون، ها أنذا، ما زلت موجودا رغم محاولات الاغتيال اليوميّة التي أتعرّض لها..”، وليس غريبا أن يستفتح الشاعر قصيدته بهذا الكلام:

الوُجودُ المُطْلَقُ لَيْسَ مِنْ صِفاتي.
نِصْفُ وُجودٍ يَكْفي لِكَيْ لا أَنْعَدِمَ كُلِّيّاً.

2- أهمية التناص في قصيدة السفينة تحمل زوجين:

وهذا يقودنا إلى سبب اعتماد الشاعر هذا النوع من التناص، وهذه ميزة أساسـية فـي شعر “مصطفى ملح” شاعر يحمل همّ الكتابة، وقلق البحث عن شكل وأسلوب جديدين للقصيدة العربية المغربية، فنصف الوجود خير من العدم كما يقول. وقد اتخذ من التناص قناعا، ومن الرمز شكلا من أشكال التعبير عما لا يستطيع الإفصاح عنه أو الجهر به، أو لأن الشعر نفسه يقتضي هذا النوع من الاسترسال، بهذا المعنى فإن التناص يعد من أبرز العناصر التي يمكن أن يمرّر منها ما تمرّ به التجربة البشرية عبر التاريخ مـن معاناة وشرور وقهر وقمع.. لتعزيز بناء نص شعري قادر على رصد ما تمر الإنسانية في الزمن المعاصر.
ولفهم المقصود يمكن الاستعانة بالنظرية اللغوية التي تبناها جاك لاكان Jacques Lacan الطبيب والمحلل النفسي الفرنسي -عاش ما بين (1901-1981)-، والتي تعد من أهم النظريات في علم النفس كونها أظهرت العلاقة بين النفس واللغة بطريقة تدفعنا للغور في أعماق النفس الإنسانية ونحن مطمئنين للوصول الى بعض النتائج التي قد لا يظهرها الشاعر مباشرة، ففي الشعر غالبا ما تتخفى حقيقة المشاعر وراء اللغة، فالشكل الظاهر للغة لا يظهر بشكل واضح جوهر الحقيقة لاعتمادها الكثير على الرمزية والانزياح وقوة التكثيف.
يرى لاكان بأن اللاشعور كيان لغوي متكامل وبنيته لغوية بالدرجة الأولى، فمن ناحية التكثيف يرى لاكان بأنها “تشبه المجاز الأدبي والذي من خلاله يمكننا تحويل دلالة خاصة غير مناسبة لاسم ما إلى دلالة أخرى”، أما التحويل فهو يشبه “الكناية تُؤخذ فيه النتيجة كسبب والسبب كنتيجة والحامل بصفته محمولا والاسم على أنه مكان” بمعنى أن المفهوم تتشكل دلالاته من بنيات لغوية، فكما يقول لاكان: “حيثما توجد الرغبة يوجد اللاشعور. واللاشعور لغة تفلت من سلطة الذات، لها بنيتها الخاصة والمستقلة وآثارها في الذات، إن اللاشعور لغة توجد وراء الشعور، وهنا بالضبط تتموضع وظيفة الرغبة…
-ما الرغبة إذن؟ إنها، بمعنى من المعاني، ترفع، إلى أبعد حد درجة اللذة والاستمتاع، خارج منطقة الوعي والإرادة، لكن بطريقتها الخاصة. وهي طريقة استيهامية، يلعب جانب التخيل وسجله دورا أساسيا في عملها… فالرغبة استمتاع الجسد الموشوم بالتوترات والضغوطات الجنسية الدفينة والمنسية.”(5)

فغالبا ما تكون الميولات والرغبات الداخلية مضطربة، ولكن على مستوى الظاهر تبدو الأمور كأنها مستقرة، ومن خلال اللغة ذاتها يمكن تجاوز هذه الفجوة بين ما هو ظاهر للعيان، والباطن الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بكشف المستور وراء السطور، فالالتحام القوي بين نزيف داخلي وتمزق خارجي يولّدان معا نوعا من الطوفان المتجسد في حركية الحياة بكل تداعياتها من وجود وعدم، ثنائية ضدية اقتضتها طبيعة هذه الحياة التي تسري في عروقنا وفي كل ما يحيط بنا كما هو الشأن بالنسبة للحياة والموت، والخير والشر، والحسن والقبح، والنور والظلام، والبياض والسواد، والحزن والفرح، والحب والكره،..
ثنائيات تنصهر بكل تلقائية لتتولد لدى الإنسان كافة المشاعر المتضادة التي يحملها القلب من كل زوجين اثنين برؤيـة شـاعرية إزاء هذا الطوفان المنتظر أن تخوض غماره سفينة مصطفى ملح، وأن يبحر حاملا هذين الزوجين اللذين يشكلان طبيعة الجنس البشري، والذي قدّر عليه أن يحيا في هذه الدنيا تتجاذبه قوتان تتماثلان مع موقـف نوح الرافض للظلم والاستبداد، وبدل التمرد وممارسة العنف فضل النجاة والهروب من براثين الظلم والجهل، وهذا هو أساس وجوهر مضمون القصـيدة وغايتها، ويعتبر الشاعر هذا النوع من الكتابة شفاء له من العدم حين يسكن الحرف الروح وما إبحاره في سفينة تحمل زوجين إلا رغبة في التخلّص من أوهام كل ما من شأنه أن يعيق حركة القصيدة وأن تحميلها ما لا تطيق سيحول دون المساهمة في رقي الإنسان ونضجه، فصارت بذلك الكتابة جزءا من وجوده، وإن كان يرى أنّ القصيدة لا يمكنها أن تغيّر المجتمع:

أَكْتُبُ الماءَ والخَشَبَ والطّوفانَ وسيرَةَ الجَبَلِ.
أُحاوِلُ أَنْ أَكونَ مَوْجوداً قَدْرَ الإِمْكانِ،
أَمّا الوُجودُ التّامُّ فَلَنْ يَسْمَحَ الطّوفانُ بِهِ.
الوُجودُ المُطْلَقُ لَيْسَ مِنْ صِفاتي.
نِصْفُ وُجودٍ يَكْفي لِكَيْ لا أَنْعَدِمَ كُلِّيّاً.

وهذا ما يفسر أيضاً استخدامه الكثير لهذه القصة، والتي باتت تشكل حقلا دلاليا خاصا به، فنجده مثلا كتب قصيدة بعنوان الطوفان وأخرى باسم السفينة التي يعد هذا النص الذي نحن بصدد دراسته امتدادا له، ولربما ضم كل شاكلة هذه النصوص في ديوانه “آخر الناجين من الطوفان “.
وعلى الرغم من هذا التباين الزمني في القصائد نجد أن الحالة المقترنـة بكـل طرف منها ثابتة، ومن هذا الثبات تولد لدى الشاعر نوع من الإحساس والتماثل ليجمع كل إبداعاته رغم اختلافها الزمني المتعـدد الأطـراف تمثل موقفا متحدا للحالة التي عليها والتي تأبى الاستقرار، وهذا ما يؤكد امتداد دلالة الخوف والترقب لديه رغم تقلب الزمن بـين الماضي والحاضر والمستقبل، ويمكن تمثيل العلاقات السابقة على النحو التالي:

الأمس ــــــ اليوم ــــــ الغد
الطوفان ــــــ السفينة ــــــ آخر الناجين من الطوفان
الكتابة ــــــ القصيدة ــــــ الشاعر

وخير من سيوضح هذا المسار الشعري هو الشاعر عينه، فلنستمع إليه جيدا -والمقتطفات من كلامه:
1- الطوفان = بداية تشكل الوعي بالكتابة “في منتصف التسعينيات نشرت قصائدي في المغرب وخارجه، بعدما شعرت بأنني كنت سجينا للمتحف الشعري المفتوح في ذاكرتي؛ ذلك المتحف الذي أسسه أدونيس وأمل دنقل ومحمود درويش. هؤلاء الثلاثة شكلوا مرجعية شعرية حقيقية بالنسبة لي؛ أدونيس منحني القدرة على الخرق الناسف المقصود لنسق العبارة وبنية المعنى، ودعاني إلى الانتقال من التقرير إلى التكثيف. أمل دنقل حفّزني على الانفتاح على التاريخ الإسلامي ليكون دعامة شعرية، ودفعني إلى الانتباه إلى الجملة التصويرية البسيطة. محمود درويش ساقني إلى ترصيع الجملة وبذل مجهود أكبر لتكون أيقونة ذات إيقاع آسر.”

2- السفينة + (تحمل زوجين) = الرغبة في الخلاص تجسد مرحلة المخاض من عمر الكتابة الشعرية لدى مصطفى ملح، يقول: “بدأت أفكر في الخلاص من الهيمنة والتبعية اللتين كان يمارسهما عليّ كلّ من أدونيس وأمل دنقل ومحمود درويش. بدأت أفكر في قصيدة على مقاس إحساسي، وجملة شعرية تقول ما أشعر به أنا وليس ما يشعر به الآخرون. وفي خضم هذا القلق الشعري ألفيتني أكتب نصوصا فيها قدر كبير من التّعالقات النصية مع الميثولوجيا والنص الديني والأسطورة الإغريقية. وهكذا كتبت قصيدة (طروادة) و (عيسى ابن النخلة) و (طبعة منقحة من إصحاحات موسى المغربي) و (يوسف)، وغيرها.”

3- آخر الناجين من الطوفان = بداية مسار كتابة جديدة تجسدت في نصوص “لا أوبخ أحدا”: “… توالت مجاميعي الشعرية الأخيرة مترجمة هذا الوعي الشعري الجديد. فأصدرت (أمواج في اليابسة) و (سماء لا تسع السرب) و (لا أوبخ أحدا) و (آخر الناجين من الطوفان). وهي تجربة أزعم أنها تمثلني أكثر من غيرها، إذ أحسست بأن الجملة في متناول اليد، وأن المجاز لم يعد سماويا وإنما يمكن لمسه وقطفه مثل وردة في بستان، وأن التفاصيل لم تعد مهملةـ بل يمكنني أن أكتب سيرة حبل، أو ظل، أو فراشة، أو قوس قزح، أو عمود كهرباء، أو بغل، أو شاة، أو ذئب.. وقد حدث هذا حقا في ديواني الشعري: (لا أوبخ أحدا).
وبالتالي تمثل هذه المحطات الثلاث نموذجا لشاعر مغربي مسكون بهاجس الكلمة للخروج من برانين الاغتراب النفسي والوجودي، والتقليد لكل من سبقوه.. من هنا شرع الشاعر ملح يكتب عن ذاته، وعن كل ما يتعلق بسيرته الذاتية. وحسبه من كل هذا الزخم الإبداعي المتواصل أنّه يجسد حياته هو.

ولقد حافظ الشاعر على التسلسل الإبداعي حتى في نظرته العامة للحياة، يقول في إحدى قصائده:

إِنْ كانَ قَدَرُنا أَنْ نَموتَ يَوْماً،
فَلِماذا لا نُنْجِزُ التَّمْرينَ الصَّعْبَ:
تَدْريبُ الجَسَدِ على الحُبِّ؟!
ولكي يحقق هذا الوعد،
ميلاد القصيدة:
لا يُمْكِنُ أَنْ أَكونَ فَوْضَوِيّاً أَوْ عُدْوانِيّاً،
ولا يُمْكِنُ أَنْ أَكونَ سَيّافاً في قَصْرِ الخَليفَةِ،
وللاستمرارية يتطلب إثبات الذات،

الشاعر :
يَلْزَمُكَ أَنْ تُقيمَ خارِجَ القَطيعِ لِتُحِبَّ.
فالمطلع على نص السفينة تحمل زوجين سيدرك من خلال ما تقدم كيف أن الشاعر يسعى جاهدا لإيجاد أسلوب خاص به دون غيره فكأنه نوح جديد بمعنى مجازي همّه الأول والأخير أن ينقذ كتابته من هاجس التبعية والتقليد الأعمى .
الشاعر يقر منذ مطلع القصيدة أن همه الأساسي من ممارسة الكتابة هو إثبات للذات، والرغبة في فرض وجوده بالساحة الأدبية:

الوُجودُ المُطْلَقُ لَيْسَ مِنْ صِفاتي.
نِصْفُ وُجودٍ يَكْفي لِكَيْ لا أَنْعَدِمَ كُلِّيّاً.

فجاء لينبئ القارئ أن الشاعر حالة ثالثة تختلف عما كان عليه من قبل:

أَنا حالَةٌ ثالِثَةٌ،
لِذَلِكَ لَمْ أَرْكَبِ السَّفينَةَ،
لأَنَّني كَنْتُ مُنْعَدِماً.
ما زِلْتُ مُنْعَدِماً!

لذا، وجدنا أسلوبه الجديد بدأ يعطي أكله، وبدأ يتحرر من الشكل الذي كان يعتمده سابقا، فاختار شكلا سرديا يتماشى وميوله الشخصية ورغباته الذاتية

السَّفينَةُ حَمَلَتْ زَوْجَيْنِ، مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثى،
ومَضَتْ تَشُقُّ العُبابَ شَقّاً.
لَمْ يَسْتَسْلِمْ نوحٌ.

لجوء الشاعر إلى هذا النوع من التناص ليس من باب الاستنساخ أو إعادة نفس المعنى المتداول من قصة السفينة، بل نجد أنها تحمل بعدا آخر ودلالة جديدة، تكريرها المتواصل في أشعاره، وحتى في هذا النص بالذات يظهر أنها صارت تشكل رمزا خاصا بالشاعر، يقول مصطفى ملح: “لاح في أفقي الشّعريّ مفهوم ثانٍ، وهو التّناصّ مع النّصّ الدّينيّ، وهو أمر مطروق من قبلُ مع شعراء آخرين، غير أنّني حاولت أن أحدث نوعا من التّطابق بين الشّخصيّة الدّينيّة وبين ذاتي.
التّناصّ لم يكن لعبا استعاريّا مجّانيّا، بقدر ما كان جزءا مقنّعا من عملية البحث عن الذّات. ذاتي التي بتّ لا أعرفها. ذاتي الواحدة المتعدّدة”.
حملها للزوجين دلالة على بعث حياة جديدة في القصيدة، ولا يمكن أن يتم هذا التكامل بين الأزمنة التاريخية إلا من خلال هذا التعارض، فالحياة مبنية على أساس هذا التكامل بين الزوجين، قال الله تعالى: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة الذاريات: 49.
قال بعض المفسرين أي نوعين متقابلين كالذكر والأنثى. والليل والنهار، والسماء والأرض، والغنى والفقر، والهدى والضلال .
ومضى في طريقه دون استسلام رغم الصعوبات التي كانت تعترض طريقه وما زالت، موظفا فعل شقّ الذي يدل على المشقة والتصدع: (ومَضَتْ تَشُقُّ العُبابَ..)، ولزيادة التأكيد أتى بالمفعول المطلق شَقّاً لإزالة أيّ شك في ذهن القارئ الذي قد يظن أن الشاعر سينهار أمام هذا التدفق الهائل لعباب البحر:

عُباب: من فعل عَبَّ
▪العُبَابُ: أَوَّلُ الشيءِ،
▪العُبَابُ: كثْرَةُ الماءِ والسَّيْلِ
▪عُباب القوم: أجمعهم
▪جاءُوا بعُبابِهم: بأَجْمَعِهم
▪عُباب البحر: مَوْجُه
▪عُباب الموج: ارتفاعه واصطخابه.
والعباب مظهر من مظاهر حركية الحياة.

لذا نجده استعان بذكر الماء الذي هو أساس وجود الحياة وأهم عنصر في الكون:

كانَ الماءُ بارِداً.
صارَ الماءُ بارِداً.

ذلك لما للماء من أهمّيّة كبيرة في حياة الإنسان، يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، فهو ذو صلة وثيقة بالنظافة والطهارة والتحلّل من الذنوب والمعاصي، وقد وُصف في القرآن الكريم بالرحمة فهو من يهب الحياة للأشياء الحية، ويرمز أيضا للعلم والمعرفة لسعة تدفقه. ولا شك أن الشاعر تجاوز المعنى السطحي للماء وتحول عنده إلى معنى عميق الدلالة، جعل له امتدادا عبر الزمن للاستمرار في العيش.

3- الرمز بين الدلالة اللغوية والإحالة:

يقول: “جان كوهن في معرض حديثه عن لغة الشعر، بأنه لا يجب ولا ينبغي أن يفهم منها كل ما هو قادر على الإيحاء أو التعبير، ولكن ينبغي أن يفهم منها كل ما هو قادر على “الإحالة إلى”، وهو يتضمن تصاعد المحتوى، أو وجود ثنائية بين شيئين بينهما تراسل إشاري.(6)

وقد نبه القـرآن الكـريم إلى الإيحاء بالرمز في قوله تعالى لزكريا عليه السلام “آيتـك ألا تكلـم النـاس ﹰثلاثة أيام إلا رمزا”
والشاعر في هذه القصيدة وظف العديد من الرموز منها ما هو متداول كالسفينة والطوفان ومنها ما حاول أن يسقط عليها صبغة ذاتية خاصة به تكاد لا تفارقه في كافة نصوصه كالحبل والجبل والماء.
السفينة في الثقافة العربية والإسلامية تحمل عدة دلالات كما هو الشأن في قصة نوح عليه السلام وقصة السفينة التي ضرب بها مثلا رسولنا صلى الله عليه وسلم لطبيعة المجتمع الذي يسوده الاضطراب المتمثل في رغبة الكثيرين خرق السفينة مؤكدا فيه أن النجاة رهينة بالأخذ بأيديهم وإرشاد المنحرف إلى الصواب

قال تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) العنكبوت: 15.
وقال سبحانه: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يس: 41.
كما قال عز وجل: ( َأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الشعراء: 119.
وبعد الطوفان ستكون هناك ولادة جديدة.
قال سبحانه : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هود: 44
.

هكذا كانت سفينة نوحٍ عليه السلام حضورها حمل معها وجع الوداع لمن أبى اللحاق وفرحة النجاة لمن ركب معه، وظلت كل هذه التفاصيل حاضرة تتوالد مع مرور الوقت لمن ركبوا أمواج عالم النسيان.
وبهذا بات نوح عليه السلام رمز المنقذ بالنسبة للكثيرين من الشعراء والأدباء، وحين تقمص الشاعر شخصية نوح فما هو الدور الذي خصصه للسفينة:
وجدنا الشاعر كل مرة يحاول أن يرسم معالم جديدة لسفينته الخاصة، “أبني سفينة أخرى”
وهذا ما يؤكد أن الشاعر خص السفينة برمز خاص به تبحر معه في جل قصائده كأنها ملهمته التي توحي إليه بالشعر، فصارت تدل على مفهوم الكتابة لديه، منها يستقي أفكاره وينقش رموزه الخاصة به:
أَكْتُبُ الماءَ والخَشَبَ والطّوفانَ وسيرَةَ الجَبَلِ.
فكتاباته مرتبطة بهذا الكيانات المتعلقة بالسفينة من ماء وخشب وطوفان والجبل
صار الماء لدى الشاعر يرمز إلی المجتمع كما يرمز إلى الحياة، فهو لا يخفي مدى استفادته من رموز النص القرآني والاستعانة بها لإيصال صوته للقارئ، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بالماء فقال سبحانه: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) يونس: 24.
قالت الحكماء: “إنما شبّه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على حال واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب، كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يَدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، وكذلك الدنيا، الكفافُ منها ينفع وفضولها يضر”. رواه القرطبي في تفسيره.
إلا أن الماء الهائج رمز للباطل والغرور، فكان غرق ابن نوح بسبب الماء الهائج باعتبار تقلب حاله بما يتسبب تحوله إلى طوفان.
فالماء مزدوج الدلالة: من ناحية فإنه ينعش ويجلب الخصوبة فهو رمز للتطهير والتجديد، ومن ناحية أخرى فإنه ينطوي على خطر الغرق والموت
فحسب الأساطير الشرقية:
عندما يتمكن الشخص من عبور مجرى عاصف، فإن هذا يرمز إلى الازدهار الروحي؛
سطح الماء الهادئ هو مصدر الحياة، ورمز للهروب من الزمن والنسيان بلا هوادة.
الماء النقي الذي يروي العطش هو رمز للتطهير والتجديد وتحويل الأشياء البسيطة إلى شيء أكثر قيمة.(7)

والماء كما يراه شعراء التصوف هو امتداد في الوجود وفي الكون فيكون ” كمرآة تُجسد عظمة الخالق وجمال إبداعه.
أما الصفة التي ظلت ثابتة هي “باردا”، فأعطى بذلك للماء بعدا شعريا جديدا
“قال تعالى: (أرْكـضْ برجْـلك هـذا مُغْــتسلٌ بــاردٌ وشــراب). سورة ص: آية 44.
فالماء البارد كان سبباً لشفاء سيدنا أيوب عليه السلام، فهو منشط للجسم وزيادة تدفق الدم والتنفس ومنبه قوي للجهاز العصبي، وقد ذكر في السنة النبوية الشريفة أن الاغتسال بالماء البارد أو الماء مع الثلج ينفع لعلاج الوسواس، والخوف، والقلق، والحزن والهم والاكتئاب، وشرور النفس ، وضيق الصدر”.(8)

والماء في علاقته بالفلك التي تجري في البحر هو وسيلة للنجاة، لذا وجدناه في القصيدة قرنه بالخشب
أَكْتُبُ الماءَ والخَشَبَ
فالخشب يساعد الإنسان الطفو على سطح الماء، لذا تمت صناعة السفن من الخشب، وقد جعل منهما الشاعر وسيلة لتحقيق الرغبة في البوح والإبداع والتعبير عن مشاعر الألم التي يعيشها ويحس بها في قضايا ذاتية غير معلومة أو ظاهرة للعيان:
أَكْتُبُ……. الطّوفانَ وسيرَةَ الجَبَلِ.
سيرة الشاعر تحولت إلى جبل يقف في وجه الطوفان، لكن هذا الوقوف لن يصمد طويلا أمام أنياب الطوفان القوية التي لم يعد ينفع معها أي ترياق…:

الجَبَلُ لا يَعْصِمُ العالَمينَ من الغَرَقِ،
والأَرْخَبيلاتُ تَصيرُ زَبَداً مُتَراكِماً في الأُفُقِ.
ولا تَميمَةَ تَضَعُها امْرَأَةٌ في عُنُقِها،
طَلَباً للنَجاةِ من أَنْيابِ الطّوفانِ وهِيَ تُغْرَسُ في الرّوحِ.
ولا تِرْياقَ في قارورَةٍ بِخِزانَةِ المَلابِسِ،
لا تِرْياقَ مُضادٌّ للسُّمِّ الذي يَسْري في الشِّرْيانِ.

ذكر الله الجبل في القرآن الكريم العديد من المرات، تشير إلى قدرة الله في شكل تكوينها، وشدة بنائها، وعن مصيرها ومآلها يوم القيامة، وكيف ستتحول مع عظمتها وقوة خلقها هباء منبثاً، لذا تجد أن كل الأنبياء والفلاسفة والمتصوفة الذين ارتبطت قصصهم بالجبل قصدوه للعبادة والخلوة والتدبر والتفكر في عظمة الخالق، فكان الجبل بذلك سببا في تفريج كربهم، وحل ما أشكل عليهم، وفي الجبل نزلت أولى آيات الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي جبل ثور نجا صلى الله عليه وسلم من المتربصين به بمساعدة الحمامة والعنكبوت، وفي الجبل أيضا كانت فدية إسماعيل.. ومعظم مناسك الحج ارتبطت بجبال الصفا المروة عرفات… وفي جبل موسى أو جبل طور كلّم موسى ربّه وتلقى الوصايا العشر.. وهو نفسه الجبل الذي أقسم به ربنا سبحانه وتعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ..) سورة التين الآية: 1 و 2.
ويرجع ذلك إلى كون الجبال تحمل العديد من الدلالات والآيات على عظمة الخالق
وحين يقول الشاعر:
الجَبَلُ لا يَعْصِمُ العالَمينَ من الغَرَقِ،
يكون بذلك قد استحضر ثانية قصة نوح عليه السلام، ولكن هذه المرة مع ابنه، قال تعالى: (قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ). هود الآية: 43.
أي نوع من الطوفان الذي تعرضت له سفينة الشاعر فلم يسلم منه لا الجبل ولا حتى الأرخبيلات (مجموعة من الجزر المتقاربة في البحر)، لا تنفع تمائم ولا دواء أمام أنياب الطّوفانِ الذي توغل إلى أعماق الروح التي أنهكها السم الذي يسري في العروق.
الطُّوفانُ: عموما هو ما كان كثيراً أو عظيماً من الأَشياء أو الحوادث بحيث يطغَى على غيره
انطلاقا من المقطع الأول من القصيدة يتبين لنا أن الشاعر وظف مجموعة من الوقائع والأحداث التاريخية والدينية لقصة نوح عليه السلام على نحو مغاير لأصلها، ووضعها في سياقات دلالية وتعبيرية مخالفة تماما لها:

كُنْتُ أَعْرِفُ مُنْذُ نوحٍ أَنَّني لَسْتُ مَغْضوباً عَلَيَّ،
ولَسْتُ، كَذَلِكَ، مَرْضِيّاً عَلَيَّ.
أَنا حالَةٌ ثالِثَةٌ،
لِذَلِكَ لَمْ أَرْكَبِ السَّفينَةَ،
لأَنَّني كَنْتُ مُنْعَدِماً.
ما زِلْتُ مُنْعَدِماً!

فالشاعر منذ البداية يريد أن يُنبهنا إلى حالته الخاصة، وأن الأمر لا يستدعي الغرق في تأويلات التي لا جدوى من ورائها، يقول الشاعر في إحدى مداخلاته:
“أنا لا أكتب الآخر الذي لا أعرفه. أنا أكتب (الأنا) الذي أزعم انّني أعرفه. لهذا فمعظم نصوصي تنخرط في السّيرة الذّاتيّة. لكنّني، وأنا أكتب عن نفسي، فإنّني في الوقت نفسه أصير (آخر)، وبالتّالي يندغم وجود الذّات بوجود الآخر اندغاما يسمح، شعريّا، بأن تصير قصيدتي سيرة للكائن أينما وجد.”
ولكي نفهم جيدا ما يسعى إليه الشاعر سواء شعر بذلك أم لم يشعر، فمَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ، كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يمكن الاستشهاد بما ورد في قصيدته/

أَكْتُبُ الماءَ والخَشَبَ والطّوفانَ وسيرَةَ الجَبَلِ.
أُحاوِلُ أَنْ أَكونَ مَوْجوداً قَدْرَ الإِمْكانِ،
أَمّا الوُجودُ التّامُّ فَلَنْ يَسْمَحَ الطّوفانُ بِهِ.
الوُجودُ المُطْلَقُ لَيْسَ مِنْ صِفاتي.
نِصْفُ وُجودٍ يَكْفي لِكَيْ لا أَنْعَدِمَ كُلِّيّاً.

فقد ورد هذا القول بين مقطعين مهمين يشكلان الركيزتين اللتين بُني عليهما النص، ولا يمكن اعتبار هذا المفطع حشوا، بل أرى فيه تدخلا مباشرا من الشاعر ليعبر عن نواياه الحقيقية من الاهتمام بتيمة السفينة وما يتعلق بها.

ولتوضيح الأمر يمكن الاستعانة بالتقطيع الشكلي لمضامين النص:

1- المقطع الدلالي الأول: انطلاق السفينة: السفينة حملت زوجين ومضت..؛
-الشاعر خارج السفينة- منعدم
استعمل فيه الشاعر العديد من الكلمات والأدوات التي تتلاءم مع العدم وبكثرة:

تكرير لعدة مرات أدوات النفي لا ولم
تكرير الأفعال الناقصة وفي صيغة الماضي كان وصار – ليس
تكرير الدلالات التي تؤدي للفناء والعدم: لا ترياق مضاد للسمّ – أنياب الطوفان تُغرس في الروح – مضتْ – لا يعصم – تصير زبدا… كَنْتُ مُنْعَدِما – ما زِلْتُ مُنْعَدِما

2- المقطع الدلالي الثاني: وصف خارج السفينة: السفينة تواجه الطوفان..؛
-الوُجودُ التّامُّ فَلَنْ يَسْمَحَ الطّوفانُ بِهِ:
كقول الشاعر: أنا حالة ثالثة – لم أركب السفينة – أُحاوِلُ أَنْ أَكونَ مَوْجوداً قَدْرَ الإِمْكانِ – أَمّا الوُجودُ التّامُّ فَلَنْ يَسْمَحَ الطّوفانُ بِهِ

3- المقطع الدلالي الثالث: وصف داخل السفينة وهي تحمل رسالة عن الأشياء العالقة بها؛
-نِصْفُ وُجودٍ يَكْفي لِكَيْ لا أَنْعَدِمَ كُلِّيّاً:
الحقل المعجمي السائد له صلة بذات الشاعر ورغبته في إثبات الذات: من خلاله الحديث عن الأم والأب، في ذلك إشارة خفية للزوجين اللذين حملتهما السفينة، والوالدين رمز للوجود والحضور الأولي-
تم الحضور الذاتي المتجسد في اللوحة (ترمز للذات) وساعة الحائط (ترمز للنفس)
زوجين اثنين تحملهما السفينة: الجسد والروح = الذات الشاعرة
تكلم عن زوجين آخرين: من الحيوانات والطيور (رمز البيئة المحيطة بالشاعر)
نستنج من هذا الكلام ما خلص إليه الشاعر نفسه حين تحدث عن الحبال الثلاثة:

لِروحي حِبالٌ ثلاثَةٌ؛
واحِدٌ لِرَبْطِ السَّفينَةِ،
وثانٍ لِتَعْليقِ السّاعَةِ،
وثالِثٌ لِرَبْطِ بَدَني.

الروح تدل على معنى الحياة
الحبال تؤدي جملة من الوظائف منها ما أشار إليه الشاعر
الحبل وظيفته الربط والتعليق والجر وأقساها حبال الشنق وأشده تأثيرا على النفس البشرية
وتعد الحبال أغلالا وقيودا كما هي وسيلة لمنح الاستقرار بدونها تتيه السفن المستقرة بالميناء، كما انها بمثابة أطراف للحياة .
تبين لنا مدى القيود التي مورست على الشاعر والتي يصعب التخلص منها فالشاعر اتخذ من السفينة هنا رمزا للحياة المضطربة المنفلتة من كل قيود والحبل بمثابة شط الأمان،

أُمّي تَعْرِفُ نوحاً لِذَلِكَ رَجَتْهُ بِأَلاَّ يُؤْذِيَ ابْنَها.
أَنا أَعْرِفُ نوحاً لِذَلِكَ رَجَوْتُهُ بِأَلاّ يُؤْذِيَ أُمّي.
نوحٌ قالَ: لَنْ أُوذِيَ أَحَداً،
لَسْتُ الطّوفانَ.. أَنا رِسالَةُ اللهِ!

“الصورة – الأم “
الأم هذه الكلمة وبكل ما تحمله من قيم إنسانية عميقة شكلّت تيمة جوهرية في الأدب شعراً ونثرا.
فالام تجسد صورة القداسة والنقاء، يقول عنها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: “الأمُ تلثم طفلها وتضمه / حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس”
وفيها يقول حافظ إبراهيم:

“الأمُ مدرسة إذا أعدَدْتَها / أعدَدْتَ شعباً طيبَ الأعراقِ
الأم روضٌ إن تعهده الحيا / بالريِّ أورَق أيمّا إيرَاقِ
الأم أستاذ الأساتذة الأُلى / شغَلَت مآثرهم مَدى الآفاق”

كما ترتبط صورة الأم أيضاً بمشاعر الحنين إلى الطفولة، وإلى زمن مضى
(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).
كل يوم يمر علينا به رسائل كثيرة من الله
كل ما تراه من أحداث تشير إليك برسالة، ولكن يبقى لك أن تعي وتفهم رسائل الله إليك.
المقطع الأول يتحدث عن وضع رهيب خارج السفينة الوقت متأزم والظرف عصيب وكثر الحديث عن الأهوال التي تحيط بالسفينة، لكن بعد انتقاله إلى الحديث عن السفينة في المقطع الثاني من القصيدة نجد الشاعر غير مكترث بما يجري خارج السفينة ولا متأثر بالأجواء الخارجية، ولعل ذلك له مبررات كون الشاعر منشغل أكثر بالحديث عن سيرته الذاتية والتي قد لا تخلو بدورها من أوقات متأزمة وهموم ذاتية،
لذا وجدناه يرجو من نوح ألا يؤذي أمه ، وهو نفس الرجاء الذي تقدمت به الأم من قبل، شخصية نوح المعروفة والقريبة منهما معا كان له دور آخر غير المنقذ كما ورد لدى العديد من الشعراء:

نوحٌ قالَ: لَنْ أُوذِيَ أَحَداً،
فدوره دور المرشد والموجه والمربي:
لَسْتُ الطّوفانَ.. أَنا رِسالَةُ اللهِ!

فهل اتخذ نوح هنا دور الأب، كون الطوفان بعيد عنهما لذا وجدنا الشاعر غير مبال بما سيحدث لها لأنه يعلم كما اخبرنا سابقا بأنه ليس من المغضوب عليهم:

كُنْتُ أَعْرِفُ مُنْذُ نوحٍ أَنَّني لَسْتُ مَغْضوباً عَلَيَّ،
لكن الرجاء جاء بناء على قوله :
ولَسْتُ، كَذَلِكَ، مَرْضِيّاً عَلَيَّ.

4- خلاصة:

إلى هنا نكون قد تمكنا من العبور إلى البنيات العميقة الواردة في النص عبر التقابلات الجسرية التي سلكها الشاعر للوصول بنا إلى الهدف الذي رسمه، بعدما تتبعنا العديد من الجزئيات والتفاصيل التي أوردها الشاعر كحلقات وصل بين الأفكار الأساسية التي زرعها الشاعر بين ثنايا النص، لينتهي المطاف بنا لفهم ما قد يشكل علينا تلمسه من الشكل الظاهر لبناء القصيدة، ولم تكن غايتنا فقط البقاء في حدود النص، بل تم استحضار العديد من العناصر الخارجية التي أعانتنا على تأويل وفهم بعض الإشارات المتكررة والدلالات الإيحائية، فالاكتفاء بظاهر القول الشعري لن يوصلك إلى أي نتيجة، فكان لابد من تجاوز القش للوصول إلى الجوهر، فهناك تكمن لذة النص والاستمتاع بانزياحات الشاعر التي تأخذك إلى أن تمتطي سفينته دون خشية من طوفان يزيحك عن إدراك المقصود الذي حملته سفينة الشاعر من زوجين اثنين بدءا من أصل الأشياء الذكر والأنثى، الأم والأب، والحيوانات والطيور التي ساهمت ولا زالت تساهم في إبعاد الوحشة عن الإنسان ومحاولة مشاركته هموم الحيرة، والركوب معه مخاطر الدنيا ومنزلقاتها.
زوجان من كل شيء بنى عليهما العديد من الثنائيات الضدية التي تقتضيها طبيعة الحياة والتي تسري في عروقنا وفي كل ما يحيط بنا:
الروح/ الجسد و الحياة/ الموت و الشعور/ اللاشعور و الأنا/ الآخر و المرأة/ الرجل و الحاضر/ الماضي و البياض/ السواد و النور/ الظلام و الخير/ الشر و الحزن/ الفرح و الحب/ الكره
ثنائيات انصهرت داخل سفينة الشاعر وهي محاطة بالعديد من المخاطر، ليعبر من خلالها عن كافة المشاعر المتضادة التي يحملها القلب من كل زوجين اثنين.
فكانت سفينة الشاعر مصطفى ملح حاملة للعديد من الثنائيات التي تطلبها بناء النص.

قراءة وتحليل: ذ. سعيد محتال / المغرب


(السفينة حملت زوجين)
الشاعر مصطفى ملح

السَّفينَةُ حَمَلَتْ زَوْجَيْنِ، مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثى،
ومَضَتْ تَشُقُّ العُبابَ شَقّاً.
لَمْ يَسْتَسْلِمْ نوحٌ.
كانَ الماءُ بارِداً.
صارَ الماءُ بارِداً.
الجَبَلُ لا يَعْصِمُ العالَمينَ من الغَرَقِ،
والأَرْخَبيلاتُ تَصيرُ زَبَداً مُتَراكِماً في الأُفُقِ.
ولا تَميمَةَ تَضَعُها امْرَأَةٌ في عُنُقِها،
طَلَباً للنَجاةِ من أَنْيابِ الطّوفانِ وهِيَ تُغْرَسُ في الرّوحِ.
ولا تِرْياقَ في قارورَةٍ بِخِزانَةِ المَلابِسِ،
لا تِرْياقَ مُضادٌّ للسُّمِّ الذي يَسْري في الشِّرْيانِ.
كُنْتُ أَعْرِفُ مُنْذُ نوحٍ أَنَّني لَسْتُ مَغْضوباً عَلَيَّ،
ولَسْتُ، كَذَلِكَ، مَرْضِيّاً عَلَيَّ.
أَنا حالَةٌ ثالِثَةٌ،
لِذَلِكَ لَمْ أَرْكَبِ السَّفينَةَ،
لأَنَّني كَنْتُ مُنْعَدِماً.
ما زِلْتُ مُنْعَدِماً!
أَكْتُبُ الماءَ والخَشَبَ والطّوفانَ وسيرَةَ الجَبَلِ.
أُحاوِلُ أَنْ أَكونَ مَوْجوداً قَدْرَ الإِمْكانِ،
أَمّا الوُجودُ التّامُّ فَلَنْ يَسْمَحَ الطّوفانُ بِهِ.
الوُجودُ المُطْلَقُ لَيْسَ مِنْ صِفاتي.
نِصْفُ وُجودٍ يَكْفي لِكَيْ لا أَنْعَدِمَ كُلِّيّاً.
في السَّفينَةِ رُصَّتِ الأَشْياءُ جَنْباً إِلى جَنْبٍ،
أُمّي ومَساميرُ اللَّوْحَةِ وأَبي وساعَةُ الحائِطِ،
وزَوْجانِ مِنَ الحَيَواناتِ والطُّيورِ.
اللَّوْحَةُ تَحْمِلُ وَجْهي،
وساعَةُ الحائِطِ مُعَلَّقَةٌ في روحي.
لِروحي حِبالٌ ثلاثَةٌ؛
واحِدٌ لِرَبْطِ السَّفينَةِ،
وثانٍ لِتَعْليقِ السّاعَةِ،
وثالِثٌ لِرَبْطِ بَدَني.
أُمّي تَعْرِفُ نوحاً لِذَلِكَ رَجَتْهُ بِأَلاَّ يُؤْذِيَ ابْنَها.
أَنا أَعْرِفُ نوحاً لِذَلِكَ رَجَوْتُهُ بِأَلاّ يُؤْذِيَ أُمّي.
نوحٌ قالَ: لَنْ أُوذِيَ أَحَداً،
لَسْتُ الطّوفانَ.. أَنا رِسالَةُ اللهِ!

*******

(1) منقور عبد الجليل، علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي، ص: 177-178.
(2) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت 1980م، ص: 94.
(3) الخصائص، ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، ج: 2/ ص: 152.
(4) محاضرات في علم الدلالة، خلفية بوجادي، الطبعة الاولى: الجزائر 2009، ص: 23.
(5) جاك لاكان، التحليل النفسي والطب، “رسائل المدرسة الفرويدية بباريس”، العدد الأول، مارس 1967، بتصرف.
(6) فريد تابتي: الخطاب، منشورات مخبر تحليل الخطاب، جامعة تيزي وزو الجزائر، ع 03-05/2008 ص: 170-171.


(7) https://hochunemogu.ru/…/simvol-izvechnoi-vody-chto…/
(8) https://www.islamfacts.net/…/benefits-of-washing-with…



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *