دراسة نقدية ذرائعية مستقطعة: “بوصلة زمن السرد: من التوثيقية إلى التخييل “رواية” “الموت في زمن كورونا” لمحمد مهداوي نموذجا. الدراسة النقدية من إعداد: عبد الرحمان الصوفي / المغرب



مقدمة:
يؤكد معظم النقاد على أن زمن أبعاد الخطاب السردي يتقسم بين ثلاثة أسس تفوق أهميتها الأبعاد الأخرى، وهي زمن السرد ومؤشرات زمن الحكاية و وتجليات زمن الشخصية الروائية، فإذا كان زمن الحكاية هو الماضي، فإن السرد هو زمن الحاضر في الرواية، وللتمييز بين الزمنين ينبغي البحث في المؤشرات السردية والحكائية في النص الروائي ليتبين دورها في تجسيد الرؤيا العامة التي تستهدف البعد الجمالي. أما زمن الشخصية الروائية فيرتبط بعلاقة جدلية مع الزمن، فزمن الشخصية يمثل الوجه الثاني من مستويات الزمن الروائي.
تتميز الروايات التي ألفت زمن جائحة كورونا، وكتبت حولها دراسات نقدية بالمزاوجة بين حاضر الشخصية وماضيها باتجاه الموت، وبين حاضر الشخصية وماضيها لاستشراف الآتي، كما نجدها تزاوج أيضا بين الزمن الذاتي والزمن الجمعي وفق حركة الشخصية باتجاه المستقبل، وكذلك حركة الزمن الحاضر في اتجاه الموت. أما تقنيات زمن السرد في هذه الروايات التي كتبت زمن جائحة كورونا، فتختلف من رواية إلى أخرى، من تسريع السرد عبر الخلاصة والحذف، وفي إبطاء السرد، كما يظهر ذلك في المشاهد والوصف والمونولوج والتوثيقية…، ومن سرد موجز يكون فيه زمن الخطاب أصغر بكثير من زمن الحكاية، يلجأ الروائي فيه إلى عمق العلاقة بين أشكال بناء الزمن الروائي ووجهة نظر الروائي في التعبير عن واقعه وقضاياه ومشاعره الشعورية واللاشعورية (زمن الجائحة)، إضافة إلى هيمنة المفارقات الزمنية وسيطرة مفارقة الاسترجاع.
سنركز في دراستنا النقدية الذرائعية المستقطعة (آلية الاستقطاع النقدي الذرائعي) لرواية “الموت في زمن كورونا” ل “محمد مهداوي” على المحاور النقدية التالية:
-مؤشرات زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا”
-زمن الشخصية المحورية الروائية في رواية “الموت في زمن كورونا”
-زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا”
*توضيح: طموح مشروعنا النقدي الذي يهتم بدراسة الروايات التي اتخذت جائحة كورونا محور إبداع، أن تجمع هذه الدراسات في مؤلف إن شاء الله. لذلك أنوع مداخل دراساتي النقدية الذرائعية الاستقطاعية لتجاوز التكرار المدخلي الذرائعي.
الروايات التي درستها هي:
-الجسد الجريح زمن كورونا/ للمصطفى الزواوي
-رحيل بلا وداع/ لمحمد الخرباش
-الموت في زمن كورونا/ لمحمد مهداوي

أولا- المدخل البصري الذرائعي لرواية “الموت في زمن كورونا” ل “محمد مهداوي”.
*الطبعة الورقية للرواية من الحجم المتوسط، تضم 118 صفحة، وهي مبوبة حسب العناوين الصغرى الداخلية التالية: (-ضيف ثقيل – قبر للسكن – أحلام في مهب الريح – دعاء للوزير فقط – ليلة الفحولة – مقبرة للبيع – عدوى كورونا – الحب في زمن كورونا – رمضان في زمن كورونا – كورونا في كل مكان – كورونا في المهجر – أعمال مشبوهة – الكمامة لمن؟ – الأبوة المفقودة – الموت في زمن كورونا – هواء للبيع – ثورة البطون الجائعة – العالم يحصي قتلاه – الاغتصاب – عام الحزن – تجار الموت – العالم يحتاج للعزاء – الفحولة ماتت مرتين – أخيرا توقفت عقارب الساعة).
تتشكل الواجهة الأولى للغلاف من لوحة فنية يظهر فيها رمز فيروس كورونا وهو منتش أمام امرأة مفزوعة ومرعوبة، كما تمت الإشارة في هذه الواجهة للغلاف لجنس الرواية واسم المؤلف “محمد مهداوي”. أما الواجهة الخلفية للغلاف فحوت صورة المؤلف وسيرته الذاتية مختصرة.
يستوقفنا بصريا مدخل الرواية المعنون ب “ضيف ثقيل”، وهو مدخل مستفز يطرح علينا آلاف الأسئلة كما طرحها علينا ظهور وانتشار فيروس كورونا (كوفيد 19).
…”سأبحث عن ملاجئ آمنة بين ضلوعكم، تتنفسونني كالهواء، وستستقبلني أجهزة تنفسكم غصبا عنكم، وقتئذ سأدمر خلاياكم، سأنشر الرعب بينكم…”.

ثانيا- في الجنس الأدبي (رواية)/ الذاكرة التوثيقية في رواية “الموت في زمن كورونا”.
لغة الرواية ومفرداتها وأساليب سردها داخل المتن الأشمل، يأخذ فيها لسان الراوي لغة الأسلوب الصحفي التوثيقي، ولكن هذه اللغة تحمل دلالاتها في سياق درامي (الموت في زمن كورونا). فتنجح هذه اللغة في الرواية من الانفلات من التوثيق الكلي إلى سقف السرد الروائي، فلغة رواية (الموت في زمن كورونا) تنفلت كذلك من الإخبار والتحليل إلى الخيال (شخصية المختار/ بطل الرواية) الذي أحاطت به لغة الرواية من جوانب عديدة، اجتماعية وسياسية ونفسية…
إن عنصر التوثيق خريطة توضيح لأبعاد شخصيات الرواية (الموت في زمن كورونا)، وهو كذلك خريطة لواقع عالمي تغير بتغير انتشار الوباء زمن ( الحجر الصحي).
ذاكرة توثيقية معاشة زمن جائحة كورونا، أعطت لواقع الرواية صراعا دراميا منفتحا على المسار السردي العام، وكذلك الخاص بالنسبة للشخصية المحورية عبر مساراته الحياتية، التي احتوتها متون الرواية مع مطلع الانطلاق السردي الذي تحول من الواقع إلى الواقع المخيلة. توثيقية لا تغيب ذكاء الكاتب، بل تجدها حاضرة في الكثير من المواقف السياسية والاجتماعية بقوة شديدة.
تعتبر الرواية التوثيقية عملا شاقا بحيث يتوجب على الراوي البحث والتمحيص ومطابقة الروايات ثم توظيفها في النص بتقنيات سردية تنكشف عبرها تفاصيل الشخوص ومشاعرهم.

يقول الكاتب والناقد الأردني “رامي أبوشهاب”: “الرواية فعل تخييلي في المقام الأول، غير أنها تتخذ خصوصيتها من كيفية المعالجة، أو ذلك البناء القائم على الصنعة التي تجعل من القيمة المحكية ممارسة تناط بالمتلقي كما أشار ميلان كونديرا، موضحا أن فعل التحميل المعرفي يمتلك خصوصية في التمثيل السردي للعالم، فالرواية لا يمكن أن تتحول إلى وثيقة، إنما يمكن أن تكتسب بعدها من خلال الآفاق التي تبحث عنها، فهي في النهاية تعد المنظور الذي يمكن أن نعاين من خلاله العالم، بما في ذلك الأفكار والتي يمكن أن تكتسب شرعيتها من البنية الملتحمة في المتخيل النصي، وبهذا، فإن قيمة التصنيف ليست هي المشكلة إنما الكيفية التي نرى من خلالها القيمة المعرفية التي نكتسبها من خلال تفكيك بنيات العمل.”[1]
نشير إلى أن نوع الرواية التوثيقية وثقت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في محطات تاريخية كثيرة . كما أن الغزو الأمريكي للعراق والعدوان على سوريا وليبيا أدى إلى ظهور هذا النوع الروائي . ونشير كذلك إلى أن الرواية التوثيقية تختلف عن الرواية الوثائقية التاريخية التي عرفت بها أسماء وازنة في الساحة الأدبية العربية.

ثالثا- مؤشرات زمن السرد في رواية ” الموت زمن كورونا”
-المؤشر الأول على زمن السرد/ مفتاحية العنوان: “الموت في زمن كورونا”.
إن صلة العنوان بمؤشرات زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا” صلة وثيقة كما يؤكد على ذلك كلود دوشيه: “عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة ..”[2]
مع العتبة العنوانية يتضح المؤشر الأول لزمن السرد في الرواية الواقعة تحت ضغط فكرة الموت، وما يصاحبه من القلق والاضطراب… رهبة الموت التي افسدت الحياة على الإنسانية زمن جائحة كورونا، الذي فاجأتها، و شلت قدراتها وفاعليتها في مختلف بلدان العالم…
فإذا كانت فلسفة الإسلام تقوم على أن المسلم خلق ليحيا، ويزرع الحياة في كوكب الأرض، معتبرة أن الحياة أصل و الموت عارض، لكن زمن الانتشار السريع للوباء أصبح الإنسان مصدرا لعدوى الموت (التباعد الجسدي/ التباعد الاجتماعي/ الحجر الصحي)، وكذلك صارت الموت أصلا في رواية “الموت في زمن كورونا” والحياة عارضا. “لقد بلغ الاهتمام بالعنوان حدا كبيرا يكشف عن جهد يكاد يوازي الجهد المبذول في صياغة العمل الروائي نفسه. وإذا كانت الرواية تهدف إلى الكشف عن بنية بعينها، يستخلصها القارئ بعد الانتهاء من القراءة، فإن العنوان بوابة القارئ نحو الدلالة المشبعة بالتكثيف والتركيز دفعة واحدة.”[3]

-المؤشر الثاني على زمن السرد في الرواية/ الإهداء:
المؤشر الثاني على زمن السرد في الرواية الإهداء القصير جدا الذي جاء فيه (إلى شهداء كورونا)، فكل من كلمتي “شهداء” و “كورونا”، تحيلنا على زمن السرد في الرواية .
في رواية “الموت في زمن كورونا” لا يمكن القفز على الإهداء لأنه من بين المؤشرات الهامة على زمن السرد، كما يفصح على الكثير من ملامح الرواية، وأحيانا كثيرة يكون وثيق الصلة بمتن الكتاب أو قصة الرواية. “الإهداء هو مفتتح الحكاية وأول الخيط لقراءة الكتاب”، وإن كان الأستاذ «محمود محمد شاكر» (أبو فهر) يقول: «مفتاح كل كتاب فهرس جامع، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء»، فإني أقول بأن «الإهداء هو الجسر الذي يصل بينك وبين الكتاب، فاعبره برفق، وتمهل» [4]

-المؤشر الثالث على زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا”
المؤشر الثالث على زمن السرد في الرواية لا يخرج عن زمن الموت والخوف منه زمن جائحة كورونا، استشهد “محمد مهداوي” بما دونه الشاعر والناقد المغربي “محمد بنيس”، في تدوينته: “هذه أيام قاسية. أحيانا، يبدو لي اننا لم نستطع حتى الآن، ان نقدر خطورة وباء فيروس “كورونا”. بل ليس لدينا من الإمكانيات ما يكفي لمعرفة الواقع، حتى ندرك ما نحن فيه. لذا، فأنا اعيش في قلق كبير هذه اللحظة. هو قلق يتركني في العراء. انا منعزل في البيت، مثل غيري، في البلاد التي قررت حكومتها فرض العزلة على الأفراد ومنهم من مغادرة البيوت.
وحيدا في البيت، زوجتي وأنا. و ابننا هو الذي يمدنا، من بعيد، بما نحتاج إليه…”(ص 4)

-المؤشر الرابع على زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا”/ التقديم:
نقرأ في التقديم الذي انجزه “د. طه الهباهبة” (وزير الدولة الأردني الأسبق) الذي تظهر فيه مؤشرات زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا” جلية وواضحة، ومن خلال استعماله كلمة كورونا الدالة على الزمنية الحدثية في الرواية.
“الموت في زمن كورونا، رواية اجتماعية، تعالج حياة شرائح مسحوقة سحقتها كورونا؟ وأعتقد أن الراوي قد وصل إلى حقائق اجتماعية بحاجة إلى دراسة علمية.”(ص 7)
أشار “جيرار جونيت” إلى أن النص يقدم مدعما باسم المؤلف، العنوان، المقدمة…. وكلها مسالك تحيط بالنص وانتشاره الورقي. المقدمة مؤشر زمن سردي قبلي على مستوى الفضاء النصي لرواية “الموت في زمن كورونا”.

-المؤشر الخامس/ زمن ربط الأحداث في رواية “الموت في زمن كورونا”
السرد -بمفهومه الواسع- هو نوع من التواصل الذي يشمل مختلف الخطابات في حقول معرفية كثيرة، سواء أكانت أدبية أم غير أدبية، وهو كذلك “أداة الخطاب الروائي، إذ إنه يشمل المستوى التعبيري في العمل الروائي بما في ذلك الحوار والوصف”.[5] وهو الكيفية التي تقوم عليها عملية حكي قصة أحداث ينقلها سارد يتبنى مسالك التعبيرعن تلك الأحداث وما يتعلق بها من زمان ومكان وشخصيات، أو أنه “فعل يقوم به الراوي الذي ينتج القصة، وهو فعل حقيقي أو خيالي متضمن في الخطاب. ويشمل السرد مجمل الظروف المكانية والزمنية والحدثية الواقعية والخيالية، التي تحيط به. فالسرد عملية إنتاج يمثل فيها الراوي دور المنتج، والمروي له دور المستهلك، والخطاب دور السلعة المنتجة…”.[6] وبهذه العملية تمتزج الأفكار والموضاعات بالأحداث والحركة وينكشف زمن السرد والمكان.
-المختار (البطل/ الشخصية المحورية) كان جنديا محاربا من الطراز الأول، ثم أصيب ذات يوم بشظية كبيرة أخذت معها وسيلة النسل، ومن ذلك الوقت اختلف مع زوجته التي طردته من المنزل. “أنت أيها المختار أنت لست فحلا، أنت لا شيء، أنت امرأة في ثوب رجل.”…
-أما المختار (البطل/ الشخصية المحورية) فقد عمل بالمقابر (المكان) زمن (الموت في زمن كورونا)، بعد أن طردته زوجته من المنزل. لتصبح المقبرة سكنا ومكان أحداث جد هامة في زمن سرد الأحداث، المرتبطة ب (الموت في زمن كورونا).
-أصيب الابن الوحيد للمختار بفيروس كورنا، التي أفضت إلى موته زمن (الموت في زمن كورونا).
-يتهم المختار مرة أخرى بقطع رؤوس الموتى وبيعها في زمن (الموت في زمن كورونا)، ويجر إلى المحكمة فيحكم عليه القاضي بالسجن عشرين عاما، ولكنه فارق الحياة بالمحكمة زمن (الموت زمن الموت كورونا).
ينجح السارد في مهمة توصيلِ النصِ إلى المسرود لهم، حين يتخذهم شركاء له في عملية إعادة إنتاج المسرود مرة أخرى، تماشيا مع مستوى القراءة التي يتميز بها كل واحد من المسرود لهم الذين يتطلب فيهم القدرة على استيعاب آليات تتبع و توصيف الأحداث، والشخصيات، والزمان والمكان وانصهار الكل في السرد القائم على عرض أحداث زمن السرد.
-زمن الشخصية الروائية (الشخصية المحورية/ المختار) في رواية (الموت في زمن كورونا)
يعد زمن الشخصية في الرواية مكونا مهما من المكونات الإبداعية الفنية، وهو “الدينامو” المحرك لتطور السرد، المساهم في البناء الزمني للرواية، في انسجامه وتكامله مع المكونات الأخرى التي تنصهر وتتظافر في مهماتها لعرض الأحداث التي تبين المضمون الأخلاقي والتوثيقي و الفلسفي والفكري والاجتماعي لرواية (الموت في زمن كورونا). أفصح زمن الشخصية (الشخصية المحورية) في الرواية عن الكثير من الأفكار والمواقف من قضايا متعددة زمن جائحة كورونا.
ونسجل في رواية (الموت في زمن كورونا) زمن الشخصية من خلال (ذاكرة التذكر/ الفلاش باك عند الشخصية المحورية).
“وهو واقف أمام بيته الصدئ، استعاد شريط الجندية في دقائق. خمسة وعشرون، وهو يراقب العدو من برج متهالك، تأمل آثار جراحه مليا وتفقد بين فخذيه، فازدادت مراررته…”(ص 12)
إن زمن الشخصية المحورية (المختار) زمانان، الماضي (قبل ظهور فيروس كورونا)، وحاضر (زمن الجائحة)، ومستقبل مواقف سياسية واجتماعية وفكرية (الكمامة لمن؟)، حيث أصبح لزمن شخصية “المختار” مسؤولية عن سائر زمن المكونات الحدثية الأخرى عن طريق عرض الأفكار والتحكم بخط سير الأحداث وتصاعدها زمن (الموت في زمن كورونا). كما أن الرواية ترسم حدود مكانها الرئيسي (المقبرة)، وحاضر زمن الشخصية المحورية (زمن الجائحة).
“نهض المختار من نومه، أطل من برجه البلاستيكي نحو العالم الخارجي، فلم ير إلا بعض النساء يتمسحن بالقبور…”(ص 14)
تكشف القراءة المتمعنة لزمن الشخصية في رواية (الموت في زمن كورونا) عن الجوانب الداخلية والخارجية للشخصية المحورية، هذه الجوانب ستتظافر مع المكونات الأخرى للرواية. كما أن الكاتب أسند روايته إلى عناصر الفن الروائي في تصوير الوقائع والأحداث التي ذكرها في روايته، وساهم مكون الخيال في استكمال النسيج الفني في الرواية من جانب التطابق الفكري بين السارد والمؤلف ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
-ما يعانيه الجنود بعد تقاعدهم عن الخدمة. “تنكر الجميع للمختار، ولم تعد لنياشينه وأوسمته قيمة تذكر. لقد أصابها الصدأ، واصبحت مجرد قطع قصديرية معلقة على جدران الكوخ المنسي، بل تحولت من رمز للنصر إلى شؤم…”(ص 17)
لقد تحكمت في زمن الشخصية المحورية (البطل) عدة أبعاد منها:
-البعد النفسي: شخصية “المختار قلقة متوترة، منفعلة، متشائمة، ناقمة، غاضبة… أما أبعادها (الشخصية) النفسية الإيجابية فلم يذكر منها المؤلف إلا ما قل تلميحا مرة وتصريحا مرة أخرى.
-أبعاد نفسية إيجابية لشخصية المختار خاصة في فترة “الخدمة العسكرية”
“وقف المختار وقفة تأمل، وهو يجوب الكوخ جيئة وذهابا، وشريط طويل، ينساب امام عينيه يكاد يخنقه، دبابات في كل الاتجاهات، رصاص يلعلع بين الفجاج، والفيلق العسكري، الذي ينتمي إليه محاصر. الموت أصبح أقرب من جفنيه، خاصة وأن الذخيرة اقترب نفاذها والامدادات أصبحت شبه مستحيلة. يستأسد المختار وسط النيران، ويخترق العدو مع ثلة من أصدقائه اختراقا مباشرا…”(ص 16 و 17)
ونشير كذلك إلى استيقاظ الأبوة في نفسية الشخصية المحورية حين زار ابنه في المستشفى (جناح مرضى كوفيد).
“أحس المختار ببعض الراحة حين ولج قاعة المرضى، استقبله ابنه بابتسامة، وناداه: أبا… أبا… لما سمع المختار هذه الكلمة السحرية، أحس برجولته تعود إليه مرة أخرى، وتمنى لو كررها الابن آلاف المرات، فلن يمل منها أبدا…”(ص 39)
-أبعاد نفسية سلبية لشخصية المختار، تنوعت في لعبة السرد عند المؤلف، وتم التركيز عليها بشكل كبير في الرواية زمن (الموت في زمن كورونا)، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
“ولج المختار الكوخ، اقترب من صندوق قديم يضع فيه ثيابه، فتح قفله بتأن وأخرج منه كيسا أسود مملوءا بشيء ما، وناوله للسيدة الماثلة أمامه، لقد بدا عليها القلق والتوتر، بدأت يداها ترتجفان وهي تتسلم البضاعة السرية…”(ص 58)
“نكص بذاكرته نحو الوراء، ومر شريط حياته بتفاصيله المملة في دقيقة واحدة أمام عينيه. كل الكليشيهات تميل نحو السواد القاتم، وكل الاحداث لا تبعث على الارتياح، تذكر القنبلة التي أفقدته إنسانيته، والزوجة الغدارة والابن الذي خطفه الموت، وحياته المضنية في المقبرة رفقة الموتى، تأوه تأوها عميقا، وفكر في الانتحار، لكن حين ردد كلمة “انتحار” بدأ يضحك ويسخر من نفسه “أأنتحر وأنا ميت؟…”(ص 113)
-البعد الفكري: ويراد به الانتماء الفكري للشخصية أو عقيدتها الدينية، وهو ما يؤثر في سلوكها وتصرفاتها ورؤيتها ومواقفها من قضايا عديدة.
لقد ساهمت الأبعاد النفسية وغير النفسية في رسم البناء الفني لزمن الشخصية وزادت من اهتمام المؤلف به وبوجوده والعلاقات التي تربطه بالشخصيات الأخرى.
-زمن السرد في رواية “الموت في زمن كورونا”
يعد عنوان رواية (الموت في زمن كورونا)، مربع لعبة زمن السرد، حيث أصبح (الزمن الكوروني) أهم العناصر التي تشكل العمل السردي عند “محمد مهداوي”، الذي التصق بزمن السرد (الموت في زمن كورونا) التصاقا توثيقيا منفتحا على الخيال الذي يعتبر من أهم عناصر الكتابة الروائية. كما أن أحداث كل رواية يؤطرها ويساهم في تناميها زمن السرد الروائي الذي ساهم بشكل كبير في عنصري التشويق والصراع الدرامي… ويتضح جليا زمن السرد في رواية (الموت في زمن كورونا) في كل العناوين الصغرى التي تتشكل منها خريطة الفهرس، نذكر منها:
-(ضيف ثقيل) هو العنوان الأول في الرواية، والضيف هنا “كورونا”، (عدوى كورونا)، (الحب في زمن كورونا) – (رمضان في زمن كورونا) – (كورونا في كل مكان) – (كورونا في المهجر) – (الكمامة لمن) – (الموت في زمن كورونا) – (هواء للبيع “زمن كورونا”) – (ثورة البطون الجائعة “زمن كورونا”) – (العالم يحصي قتلاه) – (عام الحزن) – (تجار الموت)
(العالم يحتاج للعزاء) – (الفحولة ماتت مرتين “زمن كورونا”).
يقول “جون ريكاردو” في تحليله للزمن الروائي زمن السرد: “زمن القصة يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي بينما لا يتقيد زمن السرد بهذا التتابع المنطقي”[7]
يتميز كل روائي بطريقته الخاصة في ربطه للأحداث لكي يجعلها تنمو نموا متصاعدا، “متلاعبا بالنظام الزمن متعمدا الاستباق والاسترجاع والاستشراف ليصل إلى النهاية التي يرسمها بذهنه..”[8]
ونختم هذا المحور النقدي بما فضل “محمد مهداوي” أن يخط به النهاية (ص 116): “أرجو أن تدفنوا جثتي في الكوخ الذي قضيت فيه نصف عمري، واكتبوا على شاهدي: هذا هو قبر الجندي المجهول…
أما كورونا، فبعد أن حصدت الملايين من الناس، حملت رحيلها وانسحبت، عمت التلقيحات العالم بأسره، لكن يبقى السؤال مطروحا بإلحاح:
-كورونا هل هو وباء بريء أم فعل شيطاني؟”

خاتمة:
لا يختلف معظم النقاد على أن لغة الخطاب الروائي هو مساحة عالم السرد، وقد تكون أصعب من لغة الخطاب الشعري لأن الشعر يرتكز على لغة الإيحاء والرمز وغيرهما، وخطاب لغته قنطرة عبور نحو الفلسفة المرتبطة بالخيال بعيدا عن علم المنطق والمنهجية العلمية (أعذب الشعر أكذبه)، مما يولد عند المتلقي الانبهار والدهشة…
تتميز الرواية بخطاب لغتها البسيط (السهل الممتنع). الخطاب اللغوي في رواية “الموت في زمن كورونا) لم يغلب عليه الخطاب الإخباري التصويري التوثيقي (وسيلة وليس غاية)، كما أن الخيال ساهم بمفتاحية أكثر جمالية، تشد القارئ و تسهل عليه الاندماج التقمصي للوضع الذي وصلت إليه وعاشته الإنسانية زمن (الموت في زمن كورونا).

ذ. عبدالرحمان الصوفي / المغرب


المصادر والمراجع:
[1]- الموقع الإليكتروني/ أنا بريس/ ماذا تعرف عن الرواية المعرفية/ حنان عقيل.
[2]- كلود دوشيه/ عناصر علم العنونة الروائي/ آداب فرنسا/ عدد 12/ 1973/ ص 52
[3]- العنوان في الرواية العربية.. الرمز والأبعاد الثقافية/ د.محمد سيد أحمد متوالي/ مركز نماء للبحوث والدراسات.
[4]- هاني محمود / روائع إهداءات الكتب / الموقع الإليكتروني / إضاءات
[5]- تقنيات السرد الروائي/ تمام طلعة/ سطور/ 10 يوليوز 2020.
[6]- المصدر [5] نفسه
[7]- العربي الجديد/ الرواية الحديثة/ عبد الإله الصالحي/ 25 يوليو 2016
[8]- المرجع [7] نفسه.

انظر أيضا:
-عبدالرحمان الصوفي/ دراسة نقدية: استراتجية الكتابة في ثيمة الموت في رواية “رحيل بلا وداع” لمحمد الخرباش.
-عبدالرحمان الصوفي/ دراسة نقدية: المظاهر السردية وعنف الزمن الكوروني في رواية “الجسد الجريح زمن كورونا” للمصطفى الزواوي.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *