أصابع الحلاق تحطم الأسوار المحيطة والهالة المخيفة، يقتحم غابة الشجاعة بجرأة مذعور شعر أنه تورط في لحظة، فسقط في بحيرة العسل التي قد تتحول إلى بحيرة كبريت لا يستطيع الفرار منها، الموت أمامك، خلفك، يزنرك من كل الجهات، هذا هو قدرك. يبدأ رحلة الخوف فوق الشعر والدقن، وبين المقص والموس الحاد تكون مسافة الغيمة، هل ستمطر دماً أم عطراً، حباً أم كرهاً، غطرسة أم تواضعاً.
كنت دائماً أتساءل عن الحلاق الذي يقص الشعر ويحلق ذقن الزعيم، الحاكم، الملك، الرئيس، القائد، عن علاقة الأصابع بهذه المسافة القصيرة التي قد تؤدي الى الخلاص، عن القرب لدرجة الذبح والطعن تجعلنا نسأل بحذر الى أي حد كانت شفرة الموس تتوهم أنها تستطيع ذبح العنق، أو كان رأس المقص يتسلل تحت معزوفة الطقطقة إلى الصدر، فيغرس في خانة القلب الذي يخون يومياً المبادئ التي كانت يوماً تخرج من هناك على سلالم لسانه.
قد يقوم الحلاق بواجب الثورة وتخليص الشعب من حاكمه، لكن لم نسمع عن حلاق أنهى حياة حاكمه بقدر ما سمعنا أسراراً تفيض على أرصفة الثرثرة التي تزيد من توهج الحاكم.
صوراً عابثة في زمن عبثي، لكن حقاً ليس من تأثير الأقلام الخيالية، أو هي جزءاً من انتقام لقهر توحش إلى حد التخيل، لكن كان سؤالاً يطوف في الذهن عندما أرى الرئيس أو الملك أو الحاكم مصففاً شعره -الشعرة على الشعرة- وذقنه تلمع في الوقت الذي قراراته وتصرفاته وخطاباته وأفعاله مظلمة وظالمة، ولا تتأثر تسريحة شعره برياح الحرب ولا تتلوث بالدم، والأدهى صبغ الشعر باللون الأسود حتى تبقى روح الشباب مشتعلة في الشعر، أما داخل الرأس فكل شيء منطفئ حتى سراديب الإنسانية قد كسرت الأضواء وأغلقت الأبواب.
كان بعض حلاقي الملوك في أوروبا أيضاً يعملون إلى جانب الحلاقة أدوراً عدة، منها الجاسوسية والتهريج والترفيه عن الملك، ومنها الطبابة والعلاج.
ويقال أكثر شخص يعرف حقيقة الحاكم والملك هم خدمه والعاملين في قصره، لأنهم يرونه في كافة صوره العادية البعيدة عن البريق الإعلامي والصور المزخرفة والديكورات الجميلة، وإذا كان الفيلم المصري ” طباخ الريس” جاء ليلقي الظلال على حياة رئيس يعيش بين رجال يزيفون له الواقع البائس ويقدمون له التقارير الكاذبة، ويكتشف من خلال الطباخ أنه لا يعرف شيئاً عن شعبه، وأن الطباخ كان دليله إلى الحقيقة، وقد هاجم الإعلام هذا الفيلم بحجة أنه يريد تبرئة مبارك، كأن الريس في الفيلم هو فعلاً مبارك.
استيقظ الشعب الفرنسي يوما على وسائل الإعلام التي نشرت أخبار حلاق الرئيس الفرنسي الذي يتقاضى عشرة الآف يورو، هذا المبلغ الباهض، وقد صرح قصر الأليزيه بأن الحلاق يصفف شعر الرئيس كل صباح وقبل كل ظهور علني له، كما أنه يرافق الرئيس في سفرياته، وأنه ملزم بالحفاظ على السرية.
وقبل سنوات عرض حلاق الرئيس “ياسر عرفات” “أنور محمد بكير” بعض الصور التي تجمعه مع الرئيس عرفات مع بعض الذكريات، وقد أعلن أنه قام بتصفيف شعر أبو مازن. ولم يعلق شيئاً كأنه نذر نفسه للصمت.
والحلاق “محمود لبيب” حلاق الرؤساء في مصر، قال أن الريس حسني مبارك صموت لا يتكلم، يبقى صامتاً، بينما السادات كان يهدد ويتوعد ويشتم الشعب، عندما اندلعت “انتفاضة الحرامية” كما أطلق عليها السادات عام 1977 بعد إصدار قرارات رفع أسعار بعض السلع الأساسية، وكانت ملاحظته أن السادات لم يصبغ شعره أبداً، مع أننا نعرف ان السادات قد صبغ الثورة المصرية وشخصية جمال عبد الناصر باللون الأسود.
أما الرئيس جمال عبد الناصر فقد كان يسأله عن أولاده وتعليمهم، المرة الوحيدة التي خالف فيها “الريس” عندما طلب منه قص سوالف ابنه خالد، لكن خالد رفض ووقف الحلاق إلى جانب ابن الريس. وقبل سنوات توفي الحلاق “محمود لبيب” وقد كتبت الصحف أنه كان خزانة اسرار جمال عبد الناصر وقد رفض الحديث عن الأسرار رغم الإغراءات المادية.
نسمع عن الحلاقين الذين يرافقون الفنانين والمشاهير، لكن أشعر أن حلاقي الرؤساء والزعماء والملوك لهم الوضع الخاص، لأنهم وحدهم يملكون رؤوس ورقاب هؤلاء في لحظات خارجة عن زمنهم، زمن القوة والتهديد والعجرفة، الزمن الذي يملكون فيه رقاب ورؤوس العباد، فهل نسمع عن حلاق يخلصنا من بعضهم، أو يجرحه حتى يشعر بألم الشعب الذي يجرحه ويطعنه يومياً.