مقتطفات من أوراق الغرفة المهجورة / بقلم: ذة. سعيدة محمد صالح / تونس


البداية كانت..
الشهر الماضي… لا، قبل ذلك بقليل، بدأت الآنية تتحرك وحدها.
كنت أعتقد أن ابنتي ندى تلمسها بخفة حين ألتفت. فهي دائما ما تلعب معي لعبة الغميضة، أسمع وقع أقدام خفيفة كوقع أوراق الخريف على البلاط، فألتفت لأجد الردهة خاوية إلا من شعاع الشمس المتكئ على الحائط كضيف ثقيل.
كانت رائحة الياسمين تملأ الغرفة فجأة، رائحة شعر ازهار زوجتي، فأبحث عن مصدرها في كل مكان، ولا أجد سوى نبتة اصطناعية في المزهرية.
كنت ألوم النسيان. كنت ألوم أعصابي المرهقة. كنت ألوم الريح.
حتى تلك الليلة.
استيقظت على صوت بكاء. بكاء طفلة خافت، متقطع، كأنه يخرج من قعر بئر. نهضت وأنا أداري رعشتي، وسرت خلف الصوت الذي قادني إلى غرفة ندى. البكاء كان يأتي من خزانتها المغلقة. فتحتها بيد مرتعشة.
لم أجد فيها سوى ثيابها الصغيرة المرتبة، ورائحتها التي ضربتني كالصفعة فتراجعت إلى الخلف.
لكن البكاء استمر.
تلفت حولي، ثم رأيتها.
كانت هناك تجلس في حضن أمّها، على حافة السرير، تلبس فستانها الأزرق المفضل، وتنظر إليّ بعينين واسعتين.
!بابا!، قالت: لماذا لم تأتِ معنا.
تجمّدت في مكاني. حاولت أن أتحرك، أن أقول شيئاً، لكن صوتي احتبس في حنجرتي. ثم سمعت خطوات خلفي. عرفت وقعها قبل أن ألتفت، أزهار زوجتي
كانت واقفة في المدخل، ترتدي الرداء الرمادي الذي كرهته عليها دوماً. ابتسمت لي ابتسامة حزينة.
وهي تردّد لم تأخرت حان وقت الذهاب: قلت بلا اكتراث “إلى أين؟؛ همست.
إلى حيث يجب أن نكون
أشارت لغرفة ندى فخفت عليها من أن تكون عادت إليها الحمى مرة أخرى!
هزت رأسها ببطء: ندى ابنتنا لم تعد هنا منذ شهر. وأنت أيضا!
ثم تذكرت.
تذكرت عجلات السيارة المبحرة في الضباب.
تذكرت صوت الانحراف، صراخ المعدن، زجاج يتناثر كالنجوم الساقطة.
تذكرت يدي ممسكة بمقود لا أتحكم به.
تذكرت صمتاً أبديا أبيض، فقلت مهدئا من هلعي: لكن… أنا هنا. أجزاء منك فقط، أجابت وهي تقترب. أجزاء ترفض الرحيل لأنها لم تنهِ كلامها.
مدّت يدها. كانت باردة كقطعة قمر. من تخاطب، إذاً؟ تجاهلت السّؤال فهي لا تعرف الكثير عنّي!
أجابها صدى الغرفة الغريب الرّائحة وانفاسها العجيبة تقول لي: انت تخاطب من تسمعك. تخاطب من لا يزال قلبها ينبض لك حتى وهي نائمة!
في تلك اللحظة، استدارت نبيلة في سريرها، كأنها تسمعنا. همست بكلمة كان اسمها.
الآن، بينما أجلس هنا في هذا البيت الذي أصبح ظلاً لبيت، بينما أراقبها تنام وتصحو وتقرأ وتحتسي قهوتها وحدها، أعرف أن شهراً كاملاً مضى وأنا أروي قصتي على جدران أحلامها. كل ليلة، أدخل من نافذة وعيها المنسدلة، وأجلس على كرسي في زاوية حلمها، وأحكي.
أحكي عن كيف كانت رائحة شعرها حين تمطّر لأول مرة.
عن غضبي يوم تأخرت ولم ترد على هاتفها.
عن لحظات الصمت التي كانت أصدق من كل الكلام.
عن الأشياء التي لم أقلها أبداً، والتي تتدفق الآن كأنهار تحت جلد نومها.
هي لا تتذكر حين تصحو. لكنها أحياناً، في الصباح، تلمس خدها فتجد عليه رطوبة لا تعرف مصدرها. وأحياناً، تجد كتاباً مفتوحاً على صفحة لم تكن تقرأها، أو كوباً دافئاً كان فارغاً.
وأنا، كلما أنهيت حكاية، أشعر أنني أخف.
كلما نقلت ذكرى من قلبي المتعب إلى ذاكرتها الحية، يذوب جزء من هذا البقاء العنيد.
اليوم، سأروي لها آخر قصة.
قصة رجل أحب كثيراً، لكنه قال قليلاً.
رجل يدرك الآن، متأخراً جداً، أن الموت لا ينهي الحب، لكنه يحوله إلى لغة أخرى.
لغة من همسات في الليل، وصور في الأحلام، ودفء مفاجئ على جلد الوحيدين.
سأرويها ثم أغادر.
لأن الحكايات، مثل الأرواح، تملأ فراغاً حين تُروى، ثم تتحرر.
والآن، ها هي تدير وجهها في الوسادة، وتتنفس بعمق.
الستائر تتحرك.
النافذة مفتوحة قليلاً.
والحلم يبدأ.
وأمّا أنا فعظامي كلس في تراب بجوار ندى وأزهار!
هنا أزهار لا زالت تعاتبني!!

ذة. سعيدة محمد صالح / تونس



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *