قراءة نقدية في رواية “سرير الألم” للروائية المغربية “زهرة عز” تحت عنوان: “السّرد الفني في رواية “سرير الألم” : مِجهَرُ ذاكرة، و بناءُ موقف.” / بقلم: د. بوزيان موساوي / المغرب


“سرير الألم” للروائية المغربية “زهرة عز”

نص القراءة:

سرير الألم” رواية للكاتبة المغربية زهرة عز صدرت عن دار “روافد للنشر و التوزيع” القاهرة. (الطبعة الأولى 2017). الكتاب من الحجم المتوسط (266 صفحة).

هذه الرواية: “سرير الألم”،  تستهدف من وراء جماليتها كمنتوج أدبي فنّي الافصاح بالتلميح و الاستعارة على “بناء الموقف”؛ فجلّ (إن لم نقل كلّ) العناصر المكوِّنَة لهذه الرواية تتشكّل كما عملياتجمع قطع أو صوَّر لعبة “بازل” (puzzle)، بدءا من “مرحلة الإلهام أو الحدس” ( و ترتبط  كما بفكرة فجائية أشرقت في ذهن الكاتبة زهرة عز مثل “الوحي”، تستهدف من ورائها بعث رسائل (عبر قناة رواية)، هي عصارة تراكمات فكرية و نفسية و عقائدية و سيكولوجية تحتاج لآليات و وسائل لغوية و أسلوبية و مرجعية فكرية …)، باعتبار أن الابداع الأدبي هو انتاج لِخطاب…؛ مرورا من “مرحلة التحضير” ( و يتمّ عبرها إشباع الذهن بكل ما يدور حول مواضيع و إشكالات مضامين الرواية من معلومات وحقائق تاريخية و جغرافية و سياسية و اجتماعية و فكرية… عبر البحث و التوثيق …)؛ و وصولا إلى “مرحلة التحقق” (و تقترن باكتمال الإبداع و خروجه إلى حيز الوجود لإشراك قراء مفترضين في إبداء الرأي و الرأي المضاد…) باعتبار أن الإبداع الأدبي يتصف بكونه تجاوزا للمحاكاة و تأليفا بين عناصر سابقة في صور جديدة…

و لأن الاعتماد على مَلَكة “الذاكرة”في سرد حكايات الرواية يحيلنا على إشكالية “مفهوم الزمن الروائي” كما تضاربت بشأنه آراء المنظرين و النقاد، و لأن أهم الآراء في السياق ذاته تفيد في غالبيتها بأنّ “زمن الحكاية” مرتبط عضويا و وجوديا ب “زمن الكتابة” (إذ لا حكاية دون اشتغال الذاكرة؛ و الذاكرة كما فعل التذكّر ينتميان للزمن الحاضر، أي “زمن الكتابة”): الذاكرة هنا/ الآن تحيي صوّرا من الماضي، و تتمثّلها من وجهة نظر آنية، لتستدرج أحداثها فتوظفها ل “بناء موقف” لوصف الحاضر كتراكمات من الماضي، و استشراف رؤية المستقبل انطلاقا منه…، فلقد ارتأينا، للضرورة المنهجية، في مناولتنا هذه، تفكيك “البناء المعماري”، و محاولة إعادة بنائه لمحاولة اكتشاف “رسائل” المبدعة زهرة عز من خلال هذه الرواية.

و لضرورة منهجية كذلك، لن نتوقّف عند “إشكالية التجنيس”: إن كان هذا العمل يستجيب لشروط الانتماء لجنس الرواية أم لا؟… “البناء المعماري” للكتاب، و هيمنة “السرد الدرامي” فيه قد يجنبانا  “سوء عاقبة”  استفزاز “جدال عقيم” يفسد علينا “جمالية تلقي” هذه الرواية… لكن هذا لا يعفينا من مساءلة بعض “العلامات الخلافية” المرتبطة عضويا ب ” تصميم البنية” الخاصة بهذا العمل، من بينها اعتماد الروائية زهرة عز لعناصر فنية قريبة جدا من توجهات الكتابة الدرامية لدى الدراماتورج الألماني برتولد بريخت؛ من بينها،  عناصر:

1 ـ “التغريب”: والمقصود ب “التغريب”: هو جعل الأحداث العادية اليومية غريبة ومثيرة للدهشة داخل فضاءات الرواية، وجعلها أيضا باعثا على التفكير والتأمل و اتخاذ موقف..

 يمكن للقارئ العادي أن يلامس حضور و هيمنة “تقنية التغريب” في رواية “سرير الألم” لمّا يحاول كعادته تجاهل العديد من الجزئيات التي قد لا تتدخل في نظره في مجريات الأحداث الرئيسة للرواية: كأنْ يرغب في طيّ الصفحات ليلتصق فضوله بكل ما يتعلق بالشخصيات الرئيسة أو المحورية كشخصية “كريمة” و “يوسف”، لكن هذا لا يتأتى له في هذه الرواية ” لتداخل الحكايات (كما في تقنية “رواية الأدراج” roman à tiroirs  للكاتب القاص و الروائي الأمريكي اللاتيني “بورخيص”)، و تشعّبها، و “تعدد الأصوات الحكائية”، و كأننا بروايات داخل رواية واحدة:

ـ حكايات الجدة خدوج و صورة الاستعمار (الفرنسي، و الاسباني) بالمغرب، و زواج ريفية أمازيغية برجل عربي من خارج ربوعها و قبيلتها أيام كان هذا الزواج شبه مستحيل بسبب تكريس الاستعمار لسياسة “فرّق تسُد”؛

ـ و حكاية الأرملة “كريمة” مع عشيقها “يوسف”: حكاية قد تستفز فضول القارئ المتشوق لمعرفة حيثيات و تداعيات عشق ممنوع بين امرأة (كريمة) مع شاب مثقف متنوّر”(يوسف) كانت ثمرته حمل بعد أيام قليلة من هلاك الزوج (الحاج الطاهر)  الصائغ الكهل الذي كان قد “اشترى” أنوثتها مقابل توفير مصاريف العلاج من مرض القصور الكلوي لأمها، و التكفل بدراستها، و خانته حتى أثناء حياته لتنتقم لمكبوتات الأنوثة المقهورة؛   

ـ و حكايات شخصيات أخرى تحيل على نماذج بشرية أخرى من صميم الواقع (كما تراه الكاتبة زهرة عز) مثل حكاية “الغالي”الذي تحوّل إلى “الغالية” و ظاهرة “الجنوسة”؛  و حكاية “مصطفى” و أخته “مليكة” و تيمة “الاغتصاب المزدوج (الجنسي، والأصولي الديني)؛ و حكاية “سليمة” و “بوعزة” و تيمة “تفكك مؤسسة الزواج”، و “الدعارة”… و غيرها من حكايات لنماذج بشرية أخرى ذات حمولات ثقافية  و سيكولوجية و اجتماعية مختلفة حدّ المفارقة، حدّ العبث…

2  ـ “التغريب” بوصفه “تكرارا”، أي ذلك الإحساس الذي يتولّد عند قارئ الرواية المغربية المكتوبة بالعربية أو الفرنسية منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم (و منها رواية “سرير الألم” لزهرة عز) بأنه يعيد قراءة نفس التيمات و البورتريهات و الأفكار عن الاستعمار، و الحركات التحررية، و قضايا المرأة، و سنوات الرصاص، و “ثالوث المال و الدين و الجنس”، و الفساد الأخلاقي و السياسي و الاجتماعي…)، لكن ل “التكرار” هنا بعد فني يتعلق بأسلوب كتابة الرواية، و ليس بالمعنى القدحي كما في اللغة العادية كمرادف ل “الإطناب” و “الحشو”… هذه ظاهرة أسلوبية فنية تُذَكّرنا  عند  زهرة عز بنظرية فلاديمير كريزرسكي (Vladimir krysinski ) الذي يرى بأن ” التطور الروائي من مقاربة سيميائية يمكن ﺃن يكون مدركاً بمثابة تحسين لثلاثة قوانين (علامات) هي : ” قانون التكرار٬ قانون التشبع وقانون التحول”؛ فالنص الروائي يكون تكرارياً عندما يكون مقيداً في بنائه وحركته ٬ بعودة نفس المواضيع والشكليات المتداولة ويكون مشبعاً من كونه ﺃصبح ملزماً بالتكرار، ولم يعد قادراً على السمات اﻷسلوبية المكررة باعتبارها علامات خلافية ، و يصبح تحولياً عندما يفرز شكلية وتيمية جديدتين تقفان بعيدا عن فضاءي التكرار والتشبع…”

هو ربما المبدأ نفسه (أي الابتعاد عن “فضاءي التكرار و التشبع” “المجانيين”)  ما دفع بالمبدعة زهرة عز إلى اعتماد تقنية “جمالية التجاوز بالخيال السردي” عبر “مقايضة” (على طول ربوع رواية “سرير الألم”)  عنصُرَيْ “التغريب”، و “التكرار” بتقنية “الاستطراد”:

3 ـ  “الاستطراد”، أو جمالية ” التجاوز بالخيال السردي”:  و تتجلى عبر تقنية بناء المشاهد المتفرقة: حيث تتمظهر بعض الحكايات المسرودة في رواية “سرير الألم” على شكل مشاهد متفرقة، تقع أحداثها فى أزمنة مختلفة ولا يربط بين الأحداث سوى الخيط العام للرواية؛ و ذلك اعتمادا على ما سمّيناه “مِجْهَر الذاكرة”: مقولة تُحيلنا على بناء (أو تصوّر) “الزمن الروائي” (باعتبار ” الأزمنة  ـ  (كما في منظور أنشتاين)  مصطلحاتٌ لأوضاعٍ مختلفة ٍفي المكان”، و باعتبار أن لا وجود للأمكنة بدون أحداث تميزها ( صنع الشخوص للأحداث)؛ و من هنا جدلية الزمن/ المكان/ الشخصيات/ الأحداث… نسرد من رواية “سرير الألم” هذه المشاهد/ الحكايات على سبيل المثال لا الحصر:

أ ـ  سرد حكاية زواج الجدة “خدوج” الأمازيغية الريفية برجل عربي (جدّة و جدّ الشخصية المحورية “كريمة”) في زمن الاستعمار (الفرنسي و الاسباني)؛ موازاة معها تسافر الذات الساردة عبر الزمن حتى ترسوّ في الزمن الحاضر (أو الزمن القريب جدّا)  لسرد حكاية (من شغب ملاعب كرة القدم) تُسِّلط الضوء على وقوع ضحايا عنف بين جماهير كروية (فرقة من مدينة الحسيمة المغربية ضد فرقة من الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب)، و كانّ الوعي الذي تولّد عند أجيال المقاومة ضد الاستعمار الهادف إلى المصالحة بين الأمازيغ و العرب احتراما لمبدأ التعددية داخل الوحدة، قد تبخر في الزمن الحاضر لحساب منافسات “رياضية” تُغَيّبُ “الروح الرياضية” لِتُشعلَ فتيل العصبية القبلية و العرقية…

ب ـ سرد حكاية ابن رشد و معاناته مع “الفكر الظلامي” الذي أحرق كتبه العقلانية التنويرية التحررية؛ موازاة مع حكاية “العشق الممنوع” بين “كريمة” (الشخصية المحورية المتمردة على “الذكورة”بمختلف أنواعها و مشاربها…)، و “يوسف” (الشاب المتنوِّر الذي يعتبر نفسه مريدا لا مشروطا لفكر ابن رشد): حكايتان قد يكون الرابط بينهما ذاك الاعتقاد الراسخ بأن “التمرّد/ الثورة: فكرة”، و بأن “الأفكار الايجابية لا تموت”، لكن، يجد القارئ نفسه أمام مفارقة عبثية غير واردة في خضمّ تطلعاته و آفاق انتظاراته: إن “كريمة” تمرّدت على الرجل بوصفه ذكرا، و ألغتْ وجوده من حياتها، و أجهضت حمولته الفكرية الطلائعية التنويرية…

ج ـ حكاية انتظار “يوسف” ل “مصطفى” الذي غادر السجن بعد قضاء عقوبة ك “معتقل رأي”، و الذي تخلّف عن موعد لقائه ب “يوسف”(و كأننا في مشهد من مسرحية “في انتظارغودو” لسمويل بيكيت: “غودو” الذي لا يأتي أبدا)؛ و حكاية لقاء “مصطفى” في السجن ب “أبي حذيفة”(و هو لقب حركي متداول يحيل على “المتورطين/ المسْتقطَبين” ضمن تيارات الفكر السلفي الأصولي الديني المتشدد)… حكُاية لقاء لمْ يتمّ،  يُترجم صراع المواقع بين “الظلام” و “النور” منذ بدء التكوين…

و السؤال: هل “الاستطراد” في السرد فوضى أم إثارة؟ هو سؤال قمنا بصياغته استئناسا بأطروحة الباحثة العراقية الدكتورة وفاء رفعت العزي؛ كتبتْ في السياق ذاته:

” إن الأديب له غاياته الخاصة من نتاجه الأدبي قد تكون في إثارة القارئ نحو بنى سردية دقيقة غير مألوفة يزجها في الاستطراد للفت نظرهم فتصبح كوقفات تأمل تميل إلى التفريع والاستطراد مع اتجاه فكرى ينزع إلى أساليب الفلاسفة ، وإعلاء قضايا العقل ليعود بعدها إلى التواصل مع السرد الحكائي…”

4 ـ تقنية “تعدد الأصوات الحكائية”، و “بناء الموقف”:

تعدد الأصوات الحكائية في رواية “سرير الألم”(الذات السارد العالمة؛ “كريمة”؛ “الجدّة خدوج”؛ “يوسف”؛ مصطفى”؛ “الغالية” أو “الغالي”؛ “سليمة”…إلخ) تدخل في إطار ما يُسمى عند المنظرين و النقاد ب “التبئير الخارجي” (focalisation externe)، أي لمّا تنوب شخصيات ورقية من الرواية عن الذات الساردة الرئيسة (“كريمة” أو “زهرة عز” (؟؟؟؟)) لتروي حكايتها، فهي (الأصوات الحكائية المتعددة) تتحوّل إلى “شهود” (narrateur – témoin)، الشيء الذي يضفي (حسب بعض الكتاب و النقاد) بعض المصداقية على الأحداث… لكن هذه التقنية (ظاهرة تعدد الأصوات/ الشخصيات)، قد توحي أيضا من وجهة نظر علم النفس التحليلي بحالة متقدمة من ال “شيزوفرينيا” (انفصام الشخصية) بلغت ذروتها لتصبح من الناحية الكلينيكية  “حالة سريرية” (كما قد نقرأ في عنوان الرواية “سرير الألم”)، لغتها الهذيان على شكل حكايات تتقمص الذات الساردة الرئيسة فيها دور شخصية من شخصيات الرواية، و كأنها هي نفسها كلّ هذه الشخصيات مجتمعة بداخلها: شخصيات/ أصوات / أفكار/ مواقف ذكورية و أنثوية تتصارع بداخلها (الذكر/ الأنثى/ الخنثى/  الخانع (ة)/ المتمرد (ة)المتحرر(ة)/ المتنور(ة)/ السلفي(ة)/ المنافق(ة)/ الكاذب(ة)/ الغني(ة)/ الفقير(ة))…. هو صراع داخلي (“سريري”) تعذر عليه إنتاج “موقف ” قار و نهائي…

هل رواية “سرير الألم” سيرة ذاتية” للكاتبة زهرة عز؟… هذا سؤال آخر.

د. بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *