الوجه المتستر خلف قناع العنقاء: دراسة نقدية لقصيدة العنقاء للشاعرة سميرة الزغدودي / بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب



يشكل العنوان عتبة النص، به تفتح مغالق النص، ويكشف مستوره،
وحين نطلع على عنوان القصيدة “العنقاء” تذهب ذاكرتنا مباشرة إلى نصوص شعرية القديم منها والحديث مثل “أرى العَنْقاءَ تَكْبُرُ” لأبي العلاء المعري و”العنقاء” للشاعر إيليا ابو ماضي وللشاعر عمر الشلبي، وقصيدة “عنقاء أخرى” للشاعر المتوكل طه.
ويطلق هذا الاسم على الطير العصي على الإمساك.
كما قال المعري:

“أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاند من تطيق له عنادا”

ورد في لسان العرب: “العَنْقاء: طائر ضخم ليس بالعُقاب… وقيل: سمِّيت عَنْقاء لأَنه كان في عُنُقها بياض كالطوق، وقال كراع: العَنْقاء فيما يزعمون طائر يكون عند مغرب الشمس، وقال الزجاج: العَنْقاءُ المُغْرِبُ طائر لم يره أَحد…”
وفي كتاب العين: “..العَنْقاءُ: طائِرٌ لم يَبْقَ في أيدي الناس من صِفتها غيرُ اسمِها. ويقالُ بل سُمِّيَتْ به لبياضٍ في عُنقِها كالطَّوق.”
وكان يطلق عليه ايضا طائر الفينيق.
ففي الحضارة المصرية القديمة يرمز إلى البعث والخلود..
وفي الأساطير اليونانية هو رمز إلى الحياة الأبدية والتجدد بعد الموت..
ويعتبره الصينيون رمزًا للبركة والحماية من الشر..
إنّ العنقاء في الشعر العربي تعد أسطورة من أبرز الأساطير التي ذكرت في أشعار العرب منذ العصر الجاهلي وحتى الشعر الحديث والمعاصر،
وفي الأدب عامة وفي الأدب الأسطوري خاصة. حيث نالت اهتمام الشعراء وخلدوا اسمها في العديد من قصائدهم..
والعنقاء طائر وهمي لا وجود له إلا في تصور الإنسان وخياله. وليس أكثر من رمز مقنع من وجوه التعبير، يهدف من خلاله الشاعر المعاصر الرغبة في إبراز عمق نظرته وفهمه طبيعة تعبيره الشعري،
وقد ورد العنوان باسم العنقاء صراحة ومعرفا بأداة التعريف كعنوان للقصيدة، والمطلع على النص يدرك أصلا أن المعني بالخطاب ليس العنقاء الأسطورة على وجه التحديد، حيث ذكرت مرة في النص لكن هذه المرة نكرة، وأردفتها بعديد من كلمات “أنثى”، مما يشير إلى أن النص يود الحديث عن امرأة، فمن تكون هذه الأنثى؟
وما وجه الشبه او العلاقة بينها وبين العنقاء!؟.
تقول الشاعرة في مطلع قصيدتها:

أفنتْ صدى صرخةٍ في صدرِها تمضي
بريشِها رفرفتْ تعلُو من النّفضِ

القصيدة تبدأ بفعل ماض مرتبط بضمير الغائب هي “أفنتْ”
أفنى الشَّيءَ أو الشَّخصَ: أباده، أنهى وجودَه، أهلكه، أعدمه
أفْنَى حَياتَهُ فِي طَلَبِ العِلْمِ: خَصَّصَها، أفْرَدَها.
متبوعا بفعل ماض آخر “تمضي” الرابط بينهما استمرارية صدى صرخة أوجعت القلب..
للتعبير عن معاناة شديدة، أو حالة طويلة من خيبة أمل، وتُمثّل هذه الحالة تربة خصبة لولادة حالة نفسية جديدة:

“بريشِها رفرفتْ تعلُو من النّفضِ”

بريشها شبه جملة تقدمت فعلها رفرفتْ، وشبه جملة كما هو معلوم لدى النحاة قريبة دلالته من الفعل، فهناك تشابه كبير بينهما، والشاعرة تركز على آلة حصول الفعل “بريشها”.. والغرض من ذلك الحفاظ على استمرارية طبيعة غياب فاعل فعل “هي” وكلمة “ريش” لها من الرمزية ما يجعل ورودها هنا بالضبط غير بريء، بل علة مقصودة؛
والريشة قديما كانت رمزا للانتصار على العدو، ورمزا لسمو المكانة ورفعة الوضع الاجتماعي، لتتحول بعد ذلك إلى مظهر الزينة..
وقد تعددت دلالاتها حسب الألوان، والرابط بين الجميع هو أنها تحمل رسالة معينة الى الشخص، كالإخبار بالتغيير او السلام او الحياد..
فلا يمكن للغائبة المستترة العلو دون نفض صدى الصراخ الساكن في القلب:
نَفَضَ الشيءَ: أَزاله وأَسْقَطه،
نفَض يدَه من فلان: يئِس منه،
ينفض عن نفسه: يزيل همَّه.
جاء ينفض يديه: يُشير إلى معاني الفشل والإخفاق..
فعلى مستوى البنية الدلالية السطحية:
واقع نفسي متأزم، مثقل بالهموم، والأوجاع، وقد حان وقت النفض والخروج من هذا الوضع المثقل بالإخفاق..:

عنقاءُ تغتالُ طيفَ الموتِ صامدةً
حينَ استردّتْ خلودَ العيشِ في النّهضِ
تململتْ والثّرى من تحتها انبثقتْ
جناتُه زُخرفتْ من عُشبِها الغضِّ
نَهَضَ الطَّائرُ: بَسَطَ جناحَيه ليطير

نهَض البلدُ: انتعش
الغَضُّ: الطريُّ الحديثُ من كلّ شيء
نَباتٌ غَضٌّ: طَرِيٌّ
وللخروج من عنق النفض المثقل بالصراخ استعارت الشاعرة رمز “عنقاء” وما تحمله من شحنات فكرية ودلالية لولادة حياة جديدة:
النفض / النهض
الموت / خلود العيش
تغتال / استردت
الثرى / جنات
والخروج من وضعية الرقود حتى لا ينتج عنه الجمود يتطلب الأمر الصمود والقدرة على الانبعاث من جديد.
وكما أشار نيتشه: “يجب أن تكون مستعداً لأن تَحرق نفسك في لهيبك الخاص فيك؛ وإلا كيف سيمكنك النهوض من جديد إذا لم تصبح رماداً أولاً؟”. نيتشه، هكذا تكلم زرادشت.
تحكي أسطورة طائر العنقاء بأنه عندما ينهي عمره ويموت يحرق نفسه بنفسه “ذاتيا” ويقوم الحريق بتحويل طائر العنقاء إلى رماد، ومن هذا الرماد يخرج طائر جديد بسبب النار التي التهمته، فيظهر من جديد طائر عنقاء آخر:

كيفَ استطاعتْ خلاصَ الذّاتِ من لهبٍ
حتّى تُلملمَ ما فيها إلى بعضٍ
من جمرِها انتفضتْ تسمُو محلّقةً
تختالُ تاركةً كومًا على الأرضِ

صورة شعرية وفنية لخصت مضمون الأسطورة في بيتين شعريين، لحظة انتفاضة العنقاء التي تحولت إلى رماد بعد موتها لتتمرد على جمرها الذي كان سبب احتراقها، بصيغة سؤال كأنه استنكاري، نظرا لاستحالة الأمر، وهذا الاستفهام يحمل دلالة الاستغراب والاندهاش، إذ لم يزدها لهيب جمرها إلا سموا وتحليقا تاركة خلفها مآسيها تختال في طيرانها كطاووس يتباهى بريشه وجماله؛

أُنثى تُوشّي أخاديدَ الثّرى زَهَراً
والعطرُ ينسابُ رقراقًا من الرّوضِ
أُنثى تزركش في أعماقها أمَلاً
وأبهرُ القلب لم يفتُرْ عنِ النّبضِ

-البنية العميقة المتخيل (الصورة الذهنية المتسترة وراء الخطاب)
عنقاء = الموت
ولادة جديدة = أنثى
مجهولة= معلومة
التحرر من القيود،
الانتقال المعلن من الغائب الى الحاضر
من المضمر الى المعلن
من الرمز الى الشخص
من صدى صرخةٍ في الصدر إلى في أعماق الأنثى أمل.
هذا إلى الانتقال من الحديث عن:
الموت – اللهب – الجمر – الكوم
إلى الحديث عن:
الأمل – الزهر – العطر – الروض – النبض
ولادة جديدة، وحياة بهيجة..
تكرار لفظ أنثى من باب التذكير، والزيادة في الحضور القوي، ف (القلب لم يفتُرْ):

خفّاقُها عند بسطِ الحُبِّ رجْفَتُهُ
تحيا على وقْعِه معزوفةُ القبْضِ
من نبعِ كوثرِها تُرْوَى خمائلُها
وواحةُ الشّعرِ تستسقي من الفيضِ
جذّابةٌ تأسرُ الإحساسَ فتنتُها
في مدحِها يشتهي المحبوبُ أنْ يُفضي

خصصت هذه الابيات للحديث عن مواصفات أنثى التي انجبت من تحت أنقاض النفض، وصراخ القلب الغضّ، شديد الاضطراب، والشيء الذي يعيد له الحياة العزف على أوتار الوجع، من خلال قصائدها وأشعارها، التي نبع املها، وسر خفقان قلبها، والذي ارتوت واحته بأعذب معانيها، الغني برقة مشاعره، المفتون بقوة إحساسه..
وقد استعانت بصيغة ” فعّال ” الدالة على الكثرة..
وكأن الشاعرة في هذه اللحظة تصف ذاتها، وتقرب نفسها من القارئ على أن تتسم بصفات العنقاء في صبرها وقوتها وقدرتها على الولادة من رحم المعاناة، القادرة على استيعاب المواقف الصعبة التي قد تواجهها في حياتها.
صاحبة القلب الدافئ، والنفس الطيبة، كل من رآها او سمع بها أقبل اليها:

في مدحِها يشتهي المحبوبُ أنْ يُفضي؛

شخصيتها جذابة يحبها كل من يتعرف عليها:

تحظى برؤيتِها كلُّ العيونِ فمَا
تمكّنتْ حينَ مرْآها من الغمضِ

ويصعب على العيون ان تغمض جفونها والذات الشاعرة حاضرة بثقل انوثتها، ورفعة مكانتها:

في سدرةِ المنتهى الأنوارُ تصحبُها
حين ارتقتْ أفقَ العُليا به تمضي

وهي التي حظيت بسمو معانيها ورقي مشاعرها، فنجد الشاعرة قد تقمصت حضورها من شخصية العنقاء الساحرة بقيمها وحضورها وتضحياتها..
كما أن مكانتها عالية (في سدرةِ المنتهى)
ذُكرت (سِدرة المُنتهى) في القرآن الكريم مرة واحدة فقط في سورة النجم. والسدرة هي شجرة النبق المعروفة، وهي شجرة مباركة. وإلى سدرة المنتهى ينتهى علم كل الخلائق كما ذكر بعض المفسرين (الطبري). وقد وظفت الشاعرة هذا اللفظ القرآني لاضفاء طابع العلو والرفعة لكتابتها الشعرية، وإسقاط نوع من الروحانية على أسلوبها الابداعي: (تعلو – خلود العيش – جنات – خلاص الذات – تسمو – الروض – كوثر – الفيض – مدح –
سدرة المنتهى – ارتقتْ – أفقَ العُليا)..
نلاحظ كيف أن الشاعرة ظلت مخلصة في انتقاء الكلمات ذات الشحنة الفكرية والثقافية الإيجابية، رغم حديثها عن العنقاء التي تشعرك بتعذيب الذات -و قوة التحمل والصبر والمثابرة والكفاح..
شاعرة تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتسمع صوتها للمتلقي وهي تحمل بين دفات قصائدها نصرة المرأة العربية والدفاع عن كرامتها وكفاحها المتواصل للرقي إلى ما هو أسمى..
ضادية القافية تتماشى مع هذا الفيض الشعري المتحرر من ركام الأرض الذي دنسته أيادي الغدر المتلذذة بتعذيب الغير، والتفرج على معاناته وعلى قهره..
وقد اختارت الشاعرة بحر البسيط كي تمرر من خلاله ثنائية مراحل عمر العنقاء، وهذا الاختيار يتناسب كثيرا مع ثنائية التّفعيلة حيث يرتكز بناء بحر البسيط على تفعيلتين اساسيتين: مُسْتَفْعِلُنْ وفَاعِلُنْ مكررتين على التوالي:
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ *** مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ
يمتاز بجزالة الموسيقا ودقّة الإيقاع، والجدية في المعاني والدلالات، وقد استطاع احتواء الذي عرفته مضامين النص مع إدخال بين الحين والآخر تعديلات على تفاعيل البحر البسيط وبعد التّغييرات من زحاف وعلل، ولكن ذلك لم يؤثر على الإيقاع العام للنص.. باعتبار النص عرف تغييرات في الحالة النفسية العامة للشاعرة التي تطلب منها أحيانا رفع الإيقاع لإبراز الذات وتجاوز مرحلة التوتر والضغط الذي افتتحت به القصيدة.. فاستطاعت بذلك الشاعرة ان تنسج جوا موسيقيا يتماشى مع بساطة الوزن وطلاوته، وأن توظفه توظيفاً قصديا للتعبير عن أحاسيسها ومشاعرها.
وقد أتاح بحر البسيط بثنائيته المتكررة للشاعرة إمكانية إيصال معاني الاحتراق إلى الاختراق لإعادة بناء عنقائها الخاصة بها تميزها عن غيرها كأنثى شاعرة واعية ومثقفة، ومنحها نفساً دلالياً مشحونة تفاعيله بالرقة والرقي..

ذ. مختار سعيدي / المغرب


العنقاءُ…
أفنتْ صدى صرخةٍ في صدرِها تمضي
بريشِها رفرفتْ تعلُو من النّفضِ
عنقاءُ تغتالُ طيفَ الموتِ صامدةً
حينَ استردّتْ خلودَ العيشِ في النّهضِ
تململتْ والثّرى من تحتها انبثقتْ
جناتُه زُخرفتْ من عُشبِها الغضِّ
كيفَ استطاعتْ خلاصَ الذّاتِ من لهبٍ
حتّى تُلملمَ ما فيها إلى بعضٍ
من جمرِها انتفضتْ تسمُو محلّقةً
تختالُ تاركةً كومًا على الأرضِ
أُنثى تُوشّي أخاديدَ الثّرى زَهَراً
والعطرُ ينسابُ رقراقًا من الرّوضِ
أُنثى تزركش في أعماقها أمَلاً
وأبهرُ القلب لم يفتُرْ عنِ النّبضِ
خفّاقُها عند بسطِ الحُبِّ رجْفَتُهُ
تحيا على وقْعِه معزوفةُ القبْضِ
من نبعِ كوثرِها تُرْوَى خمائلُها
وواحةُ الشّعرِ تستسقي من الفيضِ
جذّابةٌ تأسرُ الإحساسَ فتنتُها
في مدحِها يشتهي المحبوبُ أنْ يُفضي
تحظى برؤيتِها كلُّ العيونِ فمَا
تمكّنتْ حينَ مرْآها من الغمضِ
في سدرةِ المنتهى الأنوارُ تصحبُها
حين ارتقتْ أفقَ العُليا به تمضي.

الشاعرة سميرة الزغدودي / تونس



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *