من بين المطالب الملحة التي أمر بها الحاكم العسكري الجديد تسليم جميع الأسلحة التي كانت بحوزة المقاتلين والمناضلين في قريتي الطيرة، وقد ذكر لي بعض من قابلتهم أن الحاكم العسكري أشهر أمام وجهاء القرية قائمة تحمل أسماء جميع من كانوا يحملون البنادق دفاعاً عن القرية، مع تحديد رقم كل قطعة منها .
أخذ الناس يتساءلون كيف وصلت هذه الأرقام وأسماء من حمل البنادق إلى الحاكم العسكري، تفاوتت الروايات حول هذا التساؤل ، البعض قال أن هذه القائمة أخذت من مقر الجيش العراقي بعد انسحابه من القرية ، وهناك من ادعى أن تفاصيل هذه المعلومات وصلت إلى الحاكم العسكري عن طريق المتعاونين والجواسيس .
كان والدي قد اشترى بندقية المانية الصنع، مع شقيقيه لأن الحصول على السلاح آنذاك كان من أولويات كل المواطنين في قريتي من أجل الدفاع عن النفس، وقد حذا العشرات حذوه ونجحوا بشراء عشرات القطع من السلاح.
المضحك أن ذخيرتها كانت قليلة وشبه مفقودة، وإذا وجدت كان ثمن الرصاص باهضاً .
عندما أيقن الذين حملوا البنادق أنهم أمام خيارين، إما تسليم البنادق أو قذفهم وراء الحدود، قرروا تسليم البنادق للحاكم خوفاً من الطرد، وأخذ كل واحد منهم يفتش أين وضع بندقيته؟ أين دفنها ؟ ، لأن الكثيرين خافوا عند تسليم القرية أن يتم اعتقالهم لأنهم دافعوا عن بلدتهم، فقسم منهم دفنها في أرضه وقسم منهم قام بتحطيمها.
استعانوا بالمختار حتى يخلصهم من هذه الورطة، وأبلغهم أن الحاكم العسكري وعده بعدم اعتقالهم على شرط تسليم البنادق حتى لو كانت محطمة .
ووقع والدي في مشكلة، فبندقيته كان قد أودعها عند أحد أصدقائه في قرية واقعة وراء خطوط الهدنة، ولم يجد حلاً أمام تلك المشكلة سوى التسلل ليلاً مخاطراً بحياته، عابراً الحدود من أجل إحضار البندقية .
ودع والدتي بعد صلاة العشاء، وقد همس في أذنها أنه ممكن أن لا يعود أو يُقتل في الطريق، وعليها تدبير أمرها و رعاية الأولاد.
انتظرته والدتي طوال الليل مع شقيقتي الكبرى، وما أن بزغ الفجر حتى قدم والدي ملثماً والبندقية مخبأة بين طيات ثيابه.
كان الاتفاق مع المختار على تسليم البنادق في ساعات الظهيرة في مقر الحاكم الذي تواجد في إحدى مدارس القرية .
توجه المسلحون الى مقر الحاكم ، لكنهم أرادوا أن يكون التسليم فيه جزء من كبريائهم العسكري ، حيث ربط كل مقاتل شريط أسود حول فوهة بندقيته واصطفوا طابوراً واحداً يتقدمهم احد قادتهم المعروفين ، ساروا باتجاه المدرسة وبنادقهم منكسة
وبصمت وهدوء ودموع الرجال تنهمر، وقف كل واحد منهم أمام الحاكم العسكري وسلمه البندقية، .هذه البنادق التي دافعت عن ثرى بلدتهم وصدت المعتدين كانت جزء من المؤامرة التي حيكت ضد الشعب الفلسطيني
كأن على رؤوسهم الطير.. لا أحد يتكلم .. هذه البنادق التي دافعت وقاومت .. الآن هي بحوزة الحاكم ، ومع الأيام أصبحت حكايات المقاتلين والبنادق جزءاً من تاريخ البلدة.
ذ. تميم محمود منصور / فلسطين
