ككلّ مرّة، ترمقني بنظراتها اليائسة وابتسامتها الحزينة، ترفع يدها ملوّحة دون أن تنطق بحرف. وإذا ماكانت الريح عاصفة، أمسكت نافذتها المفتوحة بكلتا يديها وأطلقت ستائرها السوداء القاتمة للعراك مع الريح حتى تكاد تتمزّق؛ تسرع أمّها لإقفال النوافذ وهي تصرخ بأعلى صوتها: “الله كبير ع الظالم، رحمتك ياالله، الله ينتقم منهم بجاه الحبيب محمد…….”.
عامان وأنا أرقب تلك النافذة، وأصحو مذعورة معظم الليالي على صراخها. كم مرّة بكيت لأجلها وتوسّلت عبثاً لأمها أن تسمح لي بزيارتها أثناء غياب أخوتها عن البيت.
ليلتها، أيّ ليلة عيد الميلاد 25\12\2017، الرابعة مساء خرجتُ إلى الشرفة لا لأرى الزينة وأسمع الأجراس وأصوات الفرح التي غابت عنّا منذ بداية هذه الحرب اللعينة، بل لأشهد وصول جنازة أسامة ابن جيراننا، الذي نالته يد الغدر والخيانة برصاصة قنّاص عند حاجز العباسيين وسط دمشق. هتافات وصراخ ودموع وسط إطلاق نار كثيف. رفعت رأسي، وإذ بأمل عند نافذتها تلوّح لي بكلتا يديها كغريق يطلب النجدة لكن دون صراخ، أو ربما صوتها تلاشى في ضجيج تلك الليلة. رفعت يدي وقبل أن أنطق رفعت مفتاح البيت بيدها اليسرى ولوّحت لي باليمنى تلحّ عليّ بالذهاب إلى بيتها، بل وتتوسّل أن أسرع قبل عودة أمّها وأخوتها من مأتم العزاء عند الجيران.
تسلّلتُ خارجة قبل عودة أمّي أيضاً، لأنّها ستمنعني مكرّرة تلك الكلمات التي سمعها أهل الحيّ من أمّها من لحظة وصولهم إلى الحيّ بعد تدمير منزلهم واستشهاد الأب وضياع أرزاقهم: “أمل مجنونة ولولا الحقن المهدئة لما سيطرنا عليها ومنعناها من أذيّة نفسها وغيرها…”.
عشر دقائق ولم أطرق الباب بعد، والمسافة بيننا قطع شارع لايتجاوز العشرة أمتار. وقفت في مدخل البناء متردّدة والخوف يجتاحني، (ماذا لو كانت أمل مجنونة حقاً وهاجمتني؟ ماذا لو كان كميناً نُصب للإيقاع بي؟ ماذا لو عاد أخوتها فجأة؟ قد يتهمونني باقتحام بيتهم أو بالسرقة أو بأشياء لا أعرفها. هم أغراب عن الحيّ والعلاقات بين الجيران ماعادت كما كانت قبل الحرب، كلّ معرفتنا بهم هي من خلال الأم التي كانت تزور أمي في المناسبات فقط).
لم تنتظرني أمل، فتحت وسحبتني مسرعة إلى الداخل. لم أستطع إخفاء الرعب القاتل الذي اجتاحني عندما أقفلت الباب ودسّت المفتاح في صدرها؛ دفعت بي إلى غرفتها وذهبت إلى المطبخ لتحضر فنجان قهوة واحد وكأس ماء. كدتُ أصرخ لحظة أمسكتُ الفنجان فضربت أمل يدي ليسقط شظايا على الأرض. تراجعت محاولة الوصول إلى النافذة وهي تضحك بلطف، وبصوت خافت قالت: “هل جُرحتِ؟ سآتيك بمعقّم الجروح؟”
لاأعرف ماذاك الشعور الذي انتابني لحظتها، أحسست الدم يندفع إلى رأسي وبقوة وصلابة أزاحت الخوف من داخلي.
تأخرت أمل في إحضار المعقّم رغم أنني لم أصب بجرح، لكني لم أكترث وبدأت أتجوّل في الغرفة الصغيرة، على الطاولة كتب كثيرة وأوراق، (أمل الأحمد.. سنة أولى هندسة مدنية.. أمل الأحمد سنة ثانية، ثالثة هندسة مدنية…) قرب النافذة مرسم عليه أدوات وأوراق وخطوط.. على الجدران صور لشبان وشابات في حديقة جامعة دمشق، في مدرجات الكلية، أمام كلية الهندسة، وفي كل صورة ظهرت أمل بابتسامة رائعة بين أصدقائها.
لم أنتبه لها تقف خلفي إلا عندما سقطت من يدها لوحة صغيرة؛ وقبل أن ألتفت، عانقتني بقوة لدرجة أني شعرت أنّها ستخنقني لولا أنّي دفعتها عني بقوة وصرخت بوجهها: “ماذا تريدين يامجنونة؟ لا لا.. أنا المجنونة التي أتت إليك”.
انفجرت أمل بالبكاء. ناولتني تلك اللوحة عن الأرض (صورة فتاة جميلة مليئة بالخطوط ومشوّهة بالألوان) وبدأت تخلع ملابسها وأنا أرتجف أمامها من هول مارأيت من آثار للتعذيب على ذاك الجسد الهزيل، والثدي الأيمن مقطوعاً. أسرعت أعيد عليها ملابسها وهي تروي قصتها، كيف تآمرت عليها صديقتها في الجامعة واستدرجتها إلى مقهى قريب، بعد أن اتفقت مع عصابة على خطفها، حيث وضعت مادة مخدرة في يدها وعندما وصلت أمل عانقتها ووضعت يدها على أنفها ليغمى عليها دون أن يشعر بذلك من حولها، ثمّ تصرخ: “النجدة، صديقتي.. إسعاف من فضلكم” وتكون العصابة بالانتظار لتحمل أمل ليس إلى المستشفى بل إلى مكان بعيد لتلقى مالقيته من اغتصاب وتعذيب وقهر.
لحظات مرّت، لاشيء يتحدث غير دموعنا، وذكريات تجول مع تلك الصور، ألم ومرارة بفقدان الثقة بأسمى معاني الإنسانية “الصدق والصداقة”. عندها فقط أدركت لماذا منعتني أمل من شرب القهوة، ولماذا ذهبت لإحضار معقم الجروح ولا جرح موجود. هي أرادت أن تقول لاتثقي بأحد في زمن كهذا، زمن ملوّث.. الجراح فيه غائرة في الأرواح،
من يعقمها وكم نحتاج لتعقيمها؟
ألهذه الدرجة شوّهتنا الحرب؟!
سؤال يستدرج ألف سؤال وسؤال، وأجوبة تموت مع كل طلقة غدر وخيانة عهد. ساعة مرّت كأنّها سنوات.
ساعة تعارف كانت كافية لأن تحمّلني أمل وصيتها الأخيرة: “-هيّا أسرعي قبل عودتهم..
-هذه مذكراتي هدية، أتمنى أن تقرئيها يوما، فيها من الدروس التي تعلمتها و لم أتعلّمها، الكثير الكثير….
-هذا جوّالي من أيام الجامعة عليه أرقام أصدقائي قبل الحرب وخلالها.. صفحتي على الفيس مفتوحة وهذه عبارة الولوج إليها (كلمة السر لدخولها) اسمي عليها مستعار لأني مضطرة لطلب صداقة معينة فقط لأنتقم لنفسي. ستفهمين كل شيء عندما تقرئين المحادثات على الماسنجر. لاتردي على أحد، وغدا السادسة مساء ستصل رسالة أظنها الأخيرة، ستعرفين أين أنا.
-من هذا الجوال ستعرفين كل شيء. أما مفتاح البيت فلا حاجة له بعد الآن. سأترك الباب مفتوحاً، ما عاد فيه ما يُخشى منه أو عليه.”
من مجموعتي القصصية “أعوام تحت الرماد”