قراءة في قصيدة “شاطئ الإلهام” للشاعرة المغربية أمينة نزار / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب


قراءتي في قصيدة” شاطئ الالهام” للشاعرة المغربية الصديقة أمينة نزار
تحت عنوان: “لما يحاكي الحرف الطبيعة على إيقاع معزوفة من همس بحر


تمهيد:
كثيرا ما يلجأ بعض الباحثين في مجال تأريخ الشعر الحديث إلى أحكام قيمة جاهزة و متعسفة… منها تلك التي تعتبر بأن
مدرسة الشعر الجديد (الواقعية) هي طريقة من التعبير عن نفسية الإنسان المعاصر، وقضاياه ونزوعاته، وطموحه، وآماله، وقد ظهرت لعوامل متعددة منها الرد على المدرسة “الابتداعية ” “الرومانسية” الممعنة في الهروب من الواقع إلى الطبيعة وإلى عوالم مثالية
قصيدة “شاطئ الإلهام” التي نحن بصدد قراءتها هنا، هي بالأحرى دعوة لمعانقة الطبيعة باعتبارها ينبوع إلهام، ليست بالضرورة هروبا بقدر ما هي عودة للينابيع.. تلك التي رضع من ثديها الإنسان ليحافظ حتى في وسط الزحام و تحت ضغوطات الزمن و الجغرافيا على كنهه و جوهره و ماهيته كإنسان
و عن البحر قرأنا منذ الإلياذة مرورا بسندباد ألف ليلة و ليلة و عبر رحلات ابن بطوطة وصولا إلى روايات هرنست همينغواي و حنا مينة و محمد زفزاف … أبعاد محاكاة تصل إلى حد التماهي.. إلى حدود عشق متصوف.. حدود الجلوس على كرسي الاعتراف كما في بعض الطقوس المسيحية.. حدود تطهير الذات من المعاناة و من نجاسة سعير يومي لا يرحم كما في طقوس المتصوفة في الاسلام
كيف يحاكي الحرف الطبيعة على إيقاع معزوفة من همس بحر إذن في قصيدة شاطئ الالهام للشاعرة المغربية أمينة نزار؟
قبل الغوص في تضاعيف قراءتنا هذه، نقرأ النص:



شاطئ الإلهام


وأعود إليك
ياشاطئ الإلهام
والفكر شارد
والنفس جريحة
والقلب ملتاع..
جئتك
نورسة مبتلة
أنشد في
حضنك دفء
من خيوط شمسك
يبعثه شعاع..
أستجدي جرعة
نور
تفجر النبض
تسيل المداد
تكسر الجمود
لجودك أمد اليد
والعاشق دوما
طماع..
ياشاطئ الإلهام
هنا تدفق الوجد
هنا انساب الحرف
هنا انهمر البوح
فما باله اليوم جف
وشح اليراع؟
لم تمرد ؟
رفض الخضوع
وقد كان بالأمس
لسحرك ينصاع..
أناديك..
أهفو إليك..
أناجيك..
لكنك غضضت الطرف
وصمت منك
الأسماع.
ياشاطئ الإلهام
جئتك
بشغفي، بلهفي
بألمي ، بانكساري
أستند على صخرك
ألتحف برملك
وأرمي بنفسي
في غياهبك
لا تعجب!
فالعشق مذاهب
وأنواع.
جئت
أستلهم
من هدوئك قوة
من جمالك فكرة
ومن صبرك عبرة
أغوص في أعماقك
والغوص أحيانا
ضياع.
يا منبع الإلهام
جئتك
بابتسامة على المحيا
وفي القلب ظمأ
في الثنايا مرجل
والمظهر غالبا
خداع..
فاسقني رذاذا
أو مطرا زلالا
من غيمك المعطاء
ينهمر
دررا
لآلئ
فمن وحيك
دوما ينبثق
الإبداع.

ذة. أمينة نزار ـ المغرب


ـ مقاربة النص:
1- من نحو الجملة إلى نحو النص:
قراءة سطرية لهذا النص تفيد أن تنظيمه الهندسي على شكل أسطر مكونة أحيانا من مفردة واحدة و في الأغلب من ثلاثة ألفاظ، لا تساعد القارئ العادي على ضبط حدود الجملة و نوعيتها و صيغ صرفها و تركيبها و محسناتها البلاغية بيانا و بديعا، حتى يتأتى فهم المعنى ما طفا منه و ما خفي كما في النصوص السردية و حتى في القصائد العمودية التقليدية
لذا يجد القارئ نفسه مجبرا على استحضار آليات نحو الجملة Grammaire de Texte الذي يهتم بدراسة النص كماكرو بنية من خلال وصف و تحليل شكله الهندسي، و جنسه: نثر؟ شعر؟ مسرح؟ … و نوعيته :وصفي؟ سردي؟ تحليلي/ حجاجي؟ تفسيري/ ديداكتيكي؟ حواري؟… انطلاقا من تمفصلات مقاطعه أو فقراته، و نوعية تراتبية و تسلسل مضامينه تسلسلا منطقيا؟ كرونولوجيا؟ عبثيا؟ وجدانيا؟… ـ و اختيار لغته و أساليبه :مباشرة / متداولة غير قابلة للتأويل؟ أو مجازية / رمزية / تجريدية خاضعة لانزياحات لسانية و بلاغية؟
و من خلال دراسة هذه الآليات السالفة الذكر، تبين لنا أن نص الشاعرة أمينة نزار ـ شاطئ الالهام ـ ليس نصا نثريا و لا قصيدة عمودية، و لا حتى قصيدة نثرية… لانعدام خصائص هذه الأجناس الأدبية فيه… هو أقرب من الشعر الحر أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى
2 – نص حواري شعري خارج عن العادة:
لنلاحظ معا هذه العبارات التي تكون النقاط المفصلية الضامنة لسيرورة تضاعيف النص:
أعود إليك… جئتك… يا شاطئ الالهام… يا منبع الالهام… فمن وحيك دوما ينبثق الإبداع..
المنادية شاعرة، و المنادى شاطئ بحر: مخاطب غير عاقل ليس من طبيعته المشاركة الفعلية في حوار مباشر … هو كناية عن كائن بمواصفات خاصة ذات دلالات رمزية و أبعاد ثقافية و جمالية
أبعاد تم تلخيصها اختزالا لا اختصارا، للإحاطة استئناسا لا قطعيا و يقينا، في معجم الرموز، باب البحر، ص 420، حيث نجد أن مؤلّفَيْه استطاعا أن يستقصيا أهمّ رمزيات البحر في الثقافات، والصور النمطية حوله. فقد ذهبا إلى أن البحر رمز لدينامية الحياة، فالكل خرج من البحر وإليه يعود: إنه مكان للولادات والتحوُّلات والانبعاثات. ويرمز إلى الحالة الانتقالية بين الممكنات التي مازالت غير متشكِّلة والحقائق المشكَّلة. إنه وضعية متحرِّكة، وضعية اللايقين والشك، من هنا يكون البحر- في الآن نفسه – صورة للحياة وصورة للموت، فالقدماء كانوا يهبون للبحر أضحيات من الخيل والثيران، وهذه نفسها رموز للخصوبة، لكن، من قاع البحر تطلع وحوش هي رمز لصورة العقل الباطني.. (نقلا عن عن بحث تحت عنوان الأدب والبحر .. المُجَرّد والمحسوس للباحث عبدالحق ميفراني يمجلة الدوحة ـ ملتقى الابداع العربي و الثقافة الانسانيةالعدد 83 سبتمبر 2014 )…
3 – قصيدة مناجاة:
أناديك
أهفو إليك
أناجيك
إن استمعنا للحوار على طول النص، نكتشف أنه أحادي الاتجاه، لأن لا الشط و لا البحر يجيبان.. و هي تقنية معروفة في الشعر قديمه و حديثه مستعملة في شعر المناجاة، كما تم تعريفها في معجم المعاني الجامع
سُطور أدبيّة تعبِّر بها الشخصيَّة في عمل أدبيّ عمّا يدور بداخلها من أفكار ومشاعر ، بطريقة غير مترابطة أحيانًا ويخاطب فيها الكاتبُ شخصًا غائبًا أو شيئًا مجرّدًا أو جمادًا
و المناجاة ـ حسب ما جاء في الموسوعة الحرة ويكيبيديا ـ من فنون البلاغة في اللغات الأوروبية، وهو تعبير مجازي ينصرف فيه المتحدث أو الكاتب عن المخاطب الحقيقي ليوجه حديثه إلى شخص يتوهمه أو شيء لا وجود له أو فكرة مجردة أو موقف خيالي. وعندما يستخدم في الشعر والأعمال التمثيلية يبدأ غالبا بحرف النداء، وترتبط المناجاة بالتجسيد، إلا أنه في المناجاة، تمتاز الكائنات والمجردات بصفات بشرية محددة (مثل الفهم) ذلك أن المتحدث يخاطبها تماما كما لو أن هناك شخصا موجودا. وتستخدم المناجاة غالبا لإيصال العاطفة القوية كما في حديث كلوديوس الحماسي في رواية هاملت
4 – قصة عشق بنفس تصوفي:
في الطقوس الرهبانية، يناجي العبد خالقه عبر وساطة ـ انسان بمواصفات خاصة، أو جرم سمائي، أو صنم، أو أحد مكونات الطبيعة كالنار و المالء و التراب و الهواء… و على كرسي الاعتراف كما في بعض الطقوس المسيحية، يخاطب كاهن من وراء حجاب باعتباره سلطة دينية موثوق في مصداقيتها.. و عند المسلمين يخاطب الله مباشرة دون وسيط و لا حجاب، و بشكل مبالغ فيه من طرف بعض المتصوفة القائلين بحلول التاسوت باللاهوت
أما في قصيدة شاطئ الالهام للشاعرة أمينة نزار، فالمخاطب/ المنادى/ المناجى يكتسي عدة صفات منها كونه:
ـ ملاذ/ حضن:
جئتك
نورسة مبتلة
أنشد في
حضنك دفءا
ـ ملهم شعر:
فمن وحيك
دوما ينبثق
الإبداع-.
ـ معشوق:
ألتحف برملك
وأرمي بنفسي
في غياهبك
لا تعجب!
فالعشق مذاهب
وأنواع.
ـ رمز الحياة:
نور
تفجر النبض
تسيل المداد
تكسر الجمود
لجودك أمد اليد
5 – تراتيل عتاب:
نستشف على طول النص بوح ضمير متكلم ـ أنا الشاعرة ـ يشكو انقطاع الوحي و الإلهام و عصيان اليراع و جفاف المداد
فهي ـ الشاعرة ـ في حالة ارتباك من أمرها حتى شرد فكرها من كثرة معاناتها و شح إلهامها:
وأعود إليك
ياشاطئ الإلهام
والفكر شارد
والنفس جريحة
والقلب ملتاع..
فتتحول المناجاة إلى عتاب:
ياشاطئ الإلهام
هنا تدفق الوجد
هنا انساب الحرف
هنا انهمر البوح
فما باله اليوم جف
وشح اليراع؟
و هكذا، بين بوح و صمت، بين اعتراف و عزوف، بين حوار و سرد، بين مد و جزر، بين لقاء و حنين بين مناجاة و عتاب… ينهمر المداد، ليكتب قصيدة: “شاطئ الالهام
قراءة ممتعة أتمناها لكم

د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *