يفتح الحارس باب المقبرة يدلف بالنعش ثلاثة رجال، يسجى النعش للصلاة عليه، يوارى الميت في القبر وفي لمح البصر تنتهي المراسيم، يغلق الحارس الباب وينصرف المشيعون الثلاثة إلى شؤونهم. كان أحد هؤلاء الثلاثة الأديب عبد الله زكريا الأنصاري الذي حضر تشييع جثمان صديقه الشاعر المغمور والمنبوذ فهد العسكر، الذي أسلم الروح يوم 15 أغسطس/آب 1951 في الكويت، وكان الأنصاري الشاهد الوحيد من الأدباء الذي قدر له أن يخلد مسيرة وأشعار العسكر، ولولاه لانتهى في التاريخ مجهولا شأن الكثيرين من النوابغ، وأسدل الستار بذلك على حياة شاعر شاب غالب الظروف وقاوم أهله والمجتمع معا من أجل الفن والشعر.
ولد فهد العسكر في الكويت عام 1917، كان والده إمام مسجد الفهد ومعلم قرآن، وقد رغب لولده أن يخلفه في تعليم القرآن وإمامة الناس للصلاة. تخرج عام 1930 من المدرسة المباركية، ثم أكمل تعليمه في المدرسة الأحمدية، لكنه آنس من نفسه ميلا إلى الشعر-تعضده موهبة- وتعلقا بالحياة الحرة، فنشأ ثائرا على القيود الاجتماعية والأعراف، لا يأبه بالتقاليد. والمجتمع الخليجي في ذلك الإبان كان مجتمعا محافظا مستكينا إلى رتابة التقليد ونمطية الأعراف، مبتعدا عن كل تجديد وخروج عن المألوف، والتعليم لا يتعدى التعليم التقليدي في ملمحه العام، وكذلك العلم الديني لا يتعدى حفظ المتون وشرحها وتعاليقها، وبتأثير رواسب التقليد، مع التصدي لكل محاولة للتجديد والاجتهاد، برمي صاحبها بالمروق.
وكان وضع المرأة وضعا مزريا، فحياتها نهب للأمية والشغل مع النفاذ فهي لا تعدو أن تكون آلة للإمتاع والإنجاب.
وقد أخذت الكويت على عاتق بعض أبنائها المتصلين بالمشرق مهمة النهضة والتحديث، حيث بزغت شمس التنوير والحداثة، سواء أتعلق الأمر بالتجديد الديني، كما في خطاب الأفغاني ومحمد عبده، أو في بداية النهضة الأدبية التي مثلها البارودي وصبري وحافظ، أو في بداية النهوض الاجتماعي، كما مثل ذلك خطاب قاسم أمين حول تحرير المرأة، وقبل ذلك خطاب الطهطاوي التنويري منذ «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، والخطط التوفيقية لعلي مبارك والاحتكاك بالغرب عبر طلائع البعثات العلمية منذ محمد علي والخديوي إسماعيل.
عاش العسكر حياة بوهيمية يخلص للفن وينشد المتعة ويعيش ليومه، وإن وفّق في رسم صورة لحياته في أبيات شعرية، فقد أصاب النجاح كله لا يطلب ارتباطا ولا يسأل عملا، على الرغم من أنه مارس التكسب بالشعر على عادة الشعراء القدامى، فقد مدح الملك عبد العزيز، ما حدا بالديوان الملكي إلى الحدب عليه وتعيينه كاتبا لابن الملك محمد بن عبد العزيز آل سعود، ولكن شأنه شأن الهامشيين الذين لا يرتبطون بقواعد معينة ولا بآداب لياقة، ويضيقون أشد الضيق بالقيود وبروتوكولات العمل ومراسيمه وضوابطه الأخلاقية، وليس ذلك مرده إلى غلبة نزعة الشر عليهم، بل بالعكس تنطوي نفوسهم على قلوب رحيمة وكرم معنوي، ولكن شيطان الفن يلقي بهم بعيدا في فضاء رحب حر، يضيق بأقفاص المجتمع وأغلاله، هكذا كان عبدالحميد الديب في مصر، ومعاوية نور في السودان والصادق النيهوم في ليبيا وحسين مردان وعبد الأمير الحصيري في العراق ومحمد العريبي وعلي الدعاجي في تونس وغيرهم كثيرون.
ضاقت العائلة بصخبه وعربدته وشعره المتحرر الناشد للمتعة الصادح بالحديث عن نعمة الحب ولذة الأنس بالحبيب وفراديس الجسد ولذة التمرد على ما فيها من خسائر أولها التهميش والنبذ وهو القائل:
وأنا شاعر خلقت لأشــــــدو
لا لأتلو القرآن في المحراب
فأبعدته عائلته وعاش بقية عمره وحيدا في قبو، وتفاقم على بدنه المرض والعذاب المعنوي، حتى أصيب بالتدرن الرئوي – السل – وأصيب بالعمى ثم مات أخيرا وحده مجهولا منبوذا، ولولا صديقه الأديب عبد الله زكريا الأنصاري الذي كتب مأساة الشاعر ونشر شيئا من شعره الذي نجا من الحرق لما عرف أحد عنه شيئا، ولا عن شعره فقد لاحقت عائلته ميراثه الشعري وأحرقته حتى تتخلص من عار الشعر، مثلما قدر لحمزة شحاتة البقاء بفضل الناقد عبد الله الغذامي، الذي كتب كتابه المهم عن الشاعر الموسوم «الخطيئة والتكفير» مع أن حمزة شحاتة تزوج وأنجب ولم يكن صاحب متعة ومزاج كالعسكر.
عار الشعر، عار الخروج على الآداب والتقاليد المرعية، عار الحياة البوهيمية، عار التصريح بالحب والتلذذ بالجسد -ولو كان حلما- وبالخمرة والحياة المتمردة التي لا تخضع لضغوط العرف والتقاليد وقد كان الشاعر يلجأ إلى ألفاظ تسخط الناس عليه، خصوصا ما تعلق منها بالدين.
شعر الشاعر
يصنف ضمن الشعر الرومانطيقي الذي يحتفي بالذات ويمجد الأنا ويغتبط بالغربة -رغم مرارتها- عن مجتمع مغرق في الشكليات والظلم الطبقي، ويجد في الطبيعة ملاذا ويستعير مفرداتها لخلق جنة شعرية، الشاعر آدمها والحب حواؤها ولو كان حبا من جهة واحدة، باعثا على الألم والعذاب، شعر يحتفي بالحياة في نضارتها وبكارتها، ولا يهتم فيه الشاعر بالتقليد والاجترار ولا بالتأنق في اللفظ، بل بالصدق مع النفس ومع القارئ وحرارة الوجدان وتوتر الروح، وهكذا تكون ثيمات الشاعر الرومانطيقي هي المرأة، الحب، العذاب، الغربة، الوحدة، الطبيعة، الخير والشر، نبذ المجتمع التراتبي، الموت، الشك إلى غير ذلك فهو يقول مثلا في الحب:
بأبي وأمي من مددت لها يـــدي
بعد العشاء مصافحا في الأحمدي
غيداء عرج بي عليها أغيــــــــد
في دارها أنعم بذلك الأغيــــــــد
ذقت الهوى وكأنني ما ذقتـــــــه
حتى دخلت ولامست يدها يـــدي
وربما أظهر الشاعر تأثرا ببعض الشعراء الكبار -قدامى ومحدثين- وأوحى إلى قارئه أنه متمكن من قراءة الشعر القديم والحديث وفهمهما وجاء في شعره تأثر ظاهر بأولئك الشعراء فقد تأثر بشاعرين مصريين هما شوقي وحافظ فمن ذلك قصيدته:
حسب الغواني أنهنـه
حطمن قلبي، حسبهنـه
فهي تحيل على قصيدة حافظ المشهورة عن أول مظاهرة نسوية مصرية ومن بحرها وقافيتها نفسيهما:
خرج الغواني يحتــــــــــــج
جن وخرجت أرقب جمعهنه
كما عمد إلى قصيدة شوقي المشهورة «يا جارة الوادي» فشطرها حيث يقول:
يا جارة الوادي طربت وعادني
مـــــــــا زادني شوقا إلى مرآك
فقطعت ليلي نشــــــــــوان في
مـــــا يشبه الأحلام في ذكراك
كما أولع فهد بالخمرة، وهي كما نص وليم جيمس تثير في النفس قابليات صوفية وتشل الديدان الماصة للحيوية والقدرة على التركيز، وتبعث في النفس نشوة وتتيح للشاعر أن يندغم في الموضوع، فيثير الأحاسيس غير مبال بآراء الآخرين. ها هو يشيد بمشروب نقيع التمر المسكر في صورة نمطية مألوفة:
هــــــــــات ياساق بنت النخيل
فعساها تشفي غليلي عساهــــا
هات كأسي فيم التردد واشرب
فهي حسبي في محنتي ووكيلي
ولأن الشاعر تمرد وسلك طرقا أخرى وأسخط عليه الناس حفل شعره بالشكوى من الناس والحياة، وما لقي منها وفي صميم ذلك إحساس بأنه غريب وهامشي:
كفي الملام وعللينــــي
فالشك أودى باليقيــــــن
وأمضني الداء العياء فـمـ
ن مغيثي. من معينــي؟
وكشأن جميع الشعراء الرومانطيقيين الذين تشربت أرواحهم مبادئ القومية والتحسر على واقع العرب والاحتفاء بماضيهم التليد، والدعوة إلى الأخذ بأسباب الرقي والتمدن وإصلاح أوضاع المجتمع من نشر قيم العدل والحرية والمساواة والتقليص من الفوارق الطبقية والإصلاح السياسي والأخذ بالعلم أساس المدنية والرقي ونبذ الخمول والخنوع للاستبداد
أو المحتل الغاصب، هكذا عهدنا الشابي داعيا إلى إرادة الحياة وهجاء المجتمع الخامل، وها هو فهد العسكر يدعو إلى القوة والقوة لا تأتي إلا بالعلم، فهو الذي يصنع قوة المجتمع العسكرية والصناعية والعلمية:
يا بني العرب إنما الضعف عار
إي وربي سلوا الشعوب القويه
لغة النار والحديد هي الفصحى
وحظ الضعيف منها المنيــــــه
تجربة شاعر هامشي رفض أن يندغم في المجموع، وفضّل أن يعيش على الحافة متأملا في واقعه وفي ذاته الشاعرة، يحمل أحلاما ككل شاعر منكسر. لم يقدر لهذه الأحلام أن تزهر في بيئة محافظة تعيش الماضي أكثر من الحاضر، فآثر أن يواجهها ولو أدى ذلك إلى دماره الذاتي (المعادل الموضوعي للعقدة الحضارية والصدام في ذات الشاعر) وأن يكون مشاكسا تنفيسا عن رغبة مكبوتة في الثورة والتحرر وتحقيق المجتمع الجديد، مجتمع الحرية والإبداع، تلك الأحلام التي استقبلتها نفسه المتشربة قيما جديدة، عمقتها القراءة والاطلاع، خاصة الاحتكاك بالثقافة المشرقية التي كانت تهب نسائمها مع أبولو والديوان ومعركة القديم والجديد والترجمات الأدبية للكتب الأدبية والفلسفية الغربية، وإن لم يكن متقنا للغات أجنبية إلا أنه ككل مثقف تعرض لجدلية الأنا والآخر الـ(نحن) المتخلف والـ(هو) المتقدم، وآثر الحرية تلك التي كان يحياها في قبو مظلم، مفضلا إياها على حياة في قصر مظلم يحياها بقيم الأمس صاما أذنيه عن نداء الراهن وحيويته وتشابكاته وفرادته.
هكذا إذن كان العسكر شاعرا متمردا ورومانطيقيا مجددا، ثار على التقليد والمجتمع والخمول ودفع الثمن غاليا تهميشا ونبذا وحرمانا وموتا وحيدا وجنازة لم يسر في توديعها غير ثلاثة مشيعين، ثم قدر له ككل شاعر فذ أن يستعيد ألقه اليوم وها هي الكويت اعترفت به شاعرا مجددا معطاء وأعطته حقه من التكريم ومن الاحتفاء.
ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر
عن القدس العربي: (alquds.co.uk)