الوهج الشعري ومثيراته الجمالية / بقلم: د. جاسم خلف إلياس / العراق


تنهض هذه القراءة على كشوفات التحليل اللاكاني الذي عني عناية فائقة بدلالات النص في ذاته؛ لأن كل ما يتمظهر في النص، يتأثر بالنسق اللغوي الذي ورد فيه. وإذا كانت العواطف والانفعالات والدوافع من المؤثرات التي لها فاعلية كبيرة في حياة الإنسان، بوصفها قوة محرِّكة وموجِّهة في الآن ذاته، فإن اللغة لها الفاعلية ذاتها، وهذا ما دعا تلك الكشوفات إلى جعل اللغة مادة للتحليل النفسي.
في مجموعته (قريبا من الحزن.. بعيدا عن الشعر) يقربنا الشاعر حيدر محمود عبد الرزاق من حافة المفارقة التي عمل على احتمال وقوعها أو تجوالها في فضاء قلق لحين العثور على منصة راكدة لنستقر عليها، وذلك بتأكيده على أن هذا التأليف الكتابي يشكل مغامرة في التأليف الشعري بالنسبة له وإن كانت تنتمي هذه المغامرة إلى نوع شعري ترسخ بقوة في الوقت الحاضر (قصائد نثر).
في قصيدة (أبنائي والنهر) تسعى الذات الشاعرة إلى ترميم فضاءات الحزن المؤثثة بالذكريات بوصفها الكوّة التي تطل منها كلما حاصرتها الخطايا: (ذهول الارض وهي تتشقق ظمأ للسحب التي غادرتها، غياب اللقالق من على قبابها، تشظي حشود المحبة في المقاهي، انعدام دفء البيوت الممتلئة محبة وطعاما شهيّا). وهنا سوف يوجد نوعين من العلائق النصية، نوع داخلي يتعلق بالـ(حضور) وعلائقه ذات البعد التصويري، ونوع خارجي يتعلق بالـ(غياب) وعلائقه ذات البعد الدلالي، وتبدأ مستويات الحضور والغياب بالجدل ضمن أفق الاحتمالات. ويتحقق هذا عندما تكون الكتابة واقعا نصيا تخلقه اللغة لا تعبر عنه فحسب، فتمهد لاحتمالات العطاء الدلالي للنص، تاركة الاستئناس الوحيد لفضاء التأويل.
وفي (أبنائي والنهر) و (ولادة أشجار) تستبطن الذات الشاعرة العلاقات الأسرية ولا سيما (الأبوة)، إلا أن الشعور بالذنب والخجل والندم في استحياء قد أضيفوا إلى الحياء الذي غيّر من شخصية تلك الذات التي طوتها القيم التهذيبية قبل أن تثيرها مثيرات محددة قرنت فيها قلقها باستصغار الذات أو النفور منها:
(لو أنزع ما يثقلني/ أعني حيائي/ ما كنت لأكون أنا/ فلماذا تلحوّن علي بالسؤال؟)
وهنا كان الحياء ثقيلا على الذات الشاعرة وهي تتأرجح بين الشعور بالذنب غير المصاحب لارتكاب الخطأ، والشعور بالندم على ذلك، فـليس من الضرورة بمكان أن تكون تلك الذات شاعرة بالذنب وقت ارتكاب الخطأ، بل هي تشعر به بعد أن تستبطن نفسها فتبدو لها أعمالها في ضوء مغاير، وهذه الرؤية ليست مزاجية أو انفعالية، بل هي رؤية ناتجة عن عوامل مغايرة شكلت تلك الذات النصيّة، لتعبر على الرغم من الخجل الذي سينتابها في علاقات نصية أُخر، عن عصاميتها وثقتها المطلقة بنفسها:
(أنا لا أصعد الجبل متكئا على كتف أحد/ وعندما أنزل لا انحني/ أصعد الجبل حافيا/ وإذا ثقب حذائي/ لا ألبس نعومة الصخور)
هذه العصامية المتجلية في الواقع النصي، لن نتخذها مرآة عاكسة لشخصية الشاعر المتكونة من لحم ودم، وإنما ستشكل الذات الشاعرة التي انبنت نصيا في شعورها ولا شعورها في مقارعة الملمات الساحرات اللواتي شممن رائحة (المولود الجديد) فانتبهن لهذه الضالة. وتبقى تلك الذات عصامية في كل سلوكاتها الحياتية المعيشة، والحياة المفترضة عبر التخيّل:
(فأنا أتخيل الأشياء كما أهوى/ أحلم بالجميلات…/ المجببات…/ أوحي إليهن بالعذب من خلقي،/ والصدق من حبي).
وإن سكتت هذه الأسطر عن شيء، فإنما تسكت عن حالة التوتر الجسدي/ النفسي الذي حضّ الذات الشاعرة على هذه الأفعال كي تخفف من حدة هذا التوتر، أو تزيله بالكامل إن استطاعت، فتستعيد لحظتها توازنها المفقود، وترفض عاطفة الشفقة أو الافتقار، وتتخذ من الحلم وسيلة لإشباع حاجات تلك الذات، فتطفح (الرغبة) في أشياء معينة تجسدت في الولع بمفاتن من التقى بهن، والحرمان من الشهوة، ولكن تتجاوز الذات الشاعرة هنا المسكوت عنه، وتكشف عن التوق العميق في التماس اللذة التي لم تتحقق، فقد تأثثت هذه الأسطر بمكاشفة نفسية تجلت في العيون التي ما عادت تبصر، والنغم الذي لم يصل. وكأن الذات الشاعرة كانت تترقب تنبيهات حسية خارجية لكي تثير دواخلها وتنتفض كما تنتفض في هذه الأسطر التي ما زالت تعبر عن بنينة لا شعورها في استعداد تلقائي جسدي/ نفسي، لا يمكن للقارئ أن يحيد عنه مهما بلغ انفتاحه على التأويل، ألا وهو التمسك بـ(العصامية) التي بدأ النص بها، فجوهر الأفعال التي وردت في النصين وحدها الكفيلة بكشف عمق الانفعال النفسي الذي تبنين في اللغة ولا سيما تلك الأفعال التي شكلت وخزة قوية في جسد الأماني التي ظلت أماني، إلا أنها ملوّنة بمحبة الأب وعطف الأم، وقد انعكس هذا الفعل الأبوي على الأحفاد ليظلوا مثل جدهم شجرة واقفة لا تحني قامتها للريح.
ويتقاسم الحزن قصيدتي (الحرية اسم.. هل سيولد جسدها) و (الولادة): إذ يتوغل في الجسد، ويدخل في الأماكن البعيدة، ويقيم طويلا حتى جعله الجسد في جملة تكوينه: (… وهكذا لم يعد الحزن يؤثر فيّ…/ أنا أنادمه…/ وآكل معه…/ حتى أقوّيه/ الحزن بعضي/ وأنا بعضه)
ثم تؤنسن الذات الشاعرة هذا الحزن، وتعيره صفات انسانية، فتؤنسنه وتتماهى معه (يحدثها، ولدا معا، كبرا معا) إلى أن يصبحا واحدا (أنا وأنا) ويتوغل كل منهما في الآخر. ويأخذ دفء الصبا هذه الذات إلى برودة السنين التي انصاعت وجرت بعد نفاذ العمر، فيتملكها الخوف من المجهول، والأدهى، تلك الصرخة القوية -لا خيار لي- في وجه أعتى سفّاح على وجه الأرض ألا وهو الزمن الذي يتقادم ويتسارع دون أي مبالاة بما سيحدث، وبعد الصرخة تبدأ الذات بالتماس الطمأنينة، فتتحول هذه السنين إلى صحراء مؤثثة باليباس، مفعمة بالصبر والعطش، والنسيان، فتجد الذات نفسها عارية إلا من أمنيات ورسومات متخيّلة لتشكل المعادل الموضوعي للحرمان الذي عاشته في نهايات سفرها الحياتي، وعلى الرغم من أن تخفيف أزمة الخوف من التدحرج يبدو ظاهريا، إلا أن العمق الإنساني، والقلق الذي يساور الذات، قادران على كشف الخوف من المجهول، وهذا ما دعا الذات الشاعرة إلى أنسنة الجبل ومنحدراته:
(قال المنحدر: من هؤلاء الغرباء/ إنهم يقلقون انخفاضي،/ ويصعدون فوق إرادتي)
(قال الجبل: ما الذي يحدث من حولي؟/ الاضطراب وصل إلى أوصالي/ إنها ترتجف)
وتتطابق إلى حد بعيد هذه القصيدة مع قصيدة (أنا والكرة والهدف) في الموضوع الذي تناولته الذات الشاعرة (الزمن) وكيف يتدحرج مثل الكرة، وهي تتقدم نحو الهدف (الموت). وقد تكرر (التدحرج) ومشتقاته ست مرات. ولكن قبل أن يضيع العمر، ويمر مثل مرور الأحلام الكاذبة التي تبدأ رحلتها من مخدعها، يحس الجبل برعشتها وخوفها وكذبها، فتصرخ الذات بعلو شاهق، وتقودنا إلى فضاء عصامي جديد: (ولكني -أنا الجبل العالي- ما كنت لأنظر إلى القاع)، وما هذه الأنسنات إلا بنيات اللاشعور التي تمظهرت في الذات الشاعرة، فخضعت لفاعليتي الاحتياج والاجتياح في التكوين النصي.

د. جاسم خلف إلياس / العراق


مقالتي المنشورة في جريدة الصباح يوم الخميس الموافق 12/ 5/ 2022.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *