مغارة 5 حزيران / بقلم: ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين


دائماً أقول للذين حولي: ليتني أستطيع الإفلات من شبكة الذاكرة، هناك المئات من الصور العالقة بين خيوط الشبكة، تحاول التخلص لكن الخيوط تشدها، وتبني حولها أعشاباً خضراء سرعان ما تتحول الصور إلى أعشاش يابسة، ترقد طيورها على بيض التفاصيل، حتى تفرخ و أسمع أصوات الفراخ الهاربة ذات الزغب الملون.

ثقب الذاكرة يتسع هذه الأيام، تخرج منه الصور المترنحة ذات الرائحة الباردة كالتي تلف الجثث المرمية على أرصفة النسيان، بحجم الريح التي تقتلع أشجار الخوف، كان الخوف يحفر السراديب تحت تراب حارتنا، كنت أراه يحدق في وجوه الرجال الذين فوجئوا بأن الحرب بين العرب واليهود على الأبواب، وذلك في العام 67.

غرفة الاستقبال في بيتنا مفتوحة على وجوه الرجال الذين أصابهم الاشتعال من قداحة الأخبار، القداحة التي تنام في جوف الراديو المحاطة بجدران من الخشب اللامع، وحين يشتعل الصوت مع التهديد، و سباق التصريحات السياسية، يتردد الصدى بصراخ صامت، لقد ذاق الرجال طعم الحرب والهرب من قراهم المهجرة  -أبي من قرية المجيدل-، ذاقوا الخوف الكامن وراء نشرات الأخبار الغامضة، التي تحمل الأغنيات الحماسية والآيات القرآنية والبيانات العسكرية.

كانت أمي تدخل وتخرج بهدوء تراقب تقاسيم وجه أبي وأخوالي ووجوه الجيران الذين ينتظرون العبارات الطالعة من إذاعة “صوت العرب”.

“وقعت الحرب” صرخ جارنا، بهذه الصرخة اختصر كل قوارب النجاة التي كانوا يحلمون بقدومها، وبعد هدوء من نثر غبار الحيرة، كان قرارهم تنظيف المغارة المليئة بالأوساخ في بيت جارتنا أم سليمان حتى يختبىء فيها الأطفال والنساء حتى لا تصيبهم نيران الحرب.

أول مرة اكتشف أن عندنا في الحارة مغارة، فهي لم تظهر ابداً حيث تقع وراء بيت جارتنا أم سليمان، خيالي أخذ يمتد إلى واقع طفولتي “مغارة علي بابا افتح يا سمسم”، لكن المغارة التي ظهرت من وراء بيت أم سليمان كانت واسعة، شاسعة، الداخل إليها عليه أن يحني قامته لأن سقفها واطئ، لذلك كان اختيارنا نحن الأطفال الدخول إليها وتنظيفها من الداخل. بجد واجتهاد وسرعة خارقة، أخذنا نرمي محتويات المغارة، براميل زيت صدئة قديمة، فارغة، بقايا ملابس مهلهلة، ممزقة، لفت نظري أكواماً من الكتب، لكن جارنا أصر أن أرمي الكتب خارجاً، قائلاً (بدنا أكبر قدر من المكان حتى يتخبوا أولاد الحارة)، تبين بعد ذلك أن الكتب هي جزء من مكتبة الشاعر مطلق عبد الخالق، حيث قامت عائلته بوضعها في المغارة حفاظاً عليها قبل رحيلهم عام 1948.

عدة ساعات ونحن الأطفال ننظف المغارة، والنساء في الخارج يجمعن الأوساخ ورميها بعيداً بما فيها الكتب، لا مجال الآن لمعرفة قيمة الكتب وأهميتها.

من بين طبقات الظلام بدأت تظهر مساحة المغارة، وبدأت النسوة بحمل السجاجيد والفرشات واللحف وإدخالها في بطن المغارة التي تغيرت تضاريسها.

تلك الليلة نمنا في المغارة، أذكر كنا أكثر من عشرين شخصا، أطفالاً ونساءً، حشرونا كالسردين فوق بعضنا البعض، وقد تبين لنا أن المغارة تعاني من البرودة والجدران مسننة، كأن الزمن قد قام بسن صلابة صخرها، فكلما تحركنا كان يغرز الصخر في ظهورنا، أذكر أنني بكيت بصمت، لم أستطع التذمر، فتقاسيم وجه أمي تنذر بأن هناك شيئاً مخيفاً قادماً في الطريق، وعلي أن أقبل الموجود دون اعتراض.

لا أحد يكلم الأطفال، والكبار يتكلمون بالألغاز.. أسمع كلمة الحرب، فأتخيلها دماً وذبحاً وجوعاً وفقدان أمي وإخوتي، متأثرة من حكايات جدتي وأمي التي كانت تحكي لنا قصص الهجيج عام 1948، لذلك بقيت ملتصقة بحضن أمي التي طلبت مني عدة مرات الابتعاد عنها لأنها لا تطيق الآن احداً.

في النهار نخرج الى الحارة، نرجع الى البيت، الجميع في حالة صمت، يلتصقون بالراديو -كأن على رؤوسهم الطير.. بعد ذلك تأكدت أن هذه العبارة كانت تنطبق عليهم آنذاك- في احدى المرات رأيت أبي يبكي، لأول مرة أرى الدموع في عيون الرجال، يرجمون بعضهم بنظرات الغضب، ويكسرون الصمت بالآهات ولف السجائر وإشعالها بسرعة الواحدة تلو الأخرى.

من شدة الغضب ضرب أحدهم الراديو وشتم وصرخ وخرج من الغرفة، ارتجفت وتجمد الدم في عروقي، لا أحد لحقه أو اهتم لغضبه فجميعهم كانوا مثله.

سنوات طويلة حضنتها الذاكرة وكلما حلت ذكرى 5 حزيران انطلقت صورة المغارة التي كانت شاهدة على خوفنا من الحرب -أعترف ما زالت تسكن خوفي الطفولي-.

اختفت المغارة تحت أصابع العمران، لم يعد لها أثراً، ورغم غيابها عن جغرافية الحارة، أتذكرها كلما مررت من جانبها، أتخيلها مفتوحة تستقبل خوفنا، عندها أضحك بحزن على تلك الأيام.

نكسة 67، كانت طعنة نجلاء في الظهر لخصها أبي قائلاً: كنا قبل النكسة لما اليهود يحكوا معنا نسخر منهم ونقول لهم (بكره ناصر والجيوش العربية بتيجي وبتشوفوا… لكن بعد النكسة صرنا نهرب من قدامهم، نسمع الشتائم والمسبات في ديننا.. يعايروننا وين ناصر تبعكم؟؟ نصمت ونسكت.. لا نجيب).

عشت جرح 5 حزيران عام 1967، وبقي نزيف خيبة الأمل على امتداد السنوات، حيث مات الرجال الذين كانوا يستمعون إلى الراديو تلك الأيام، ينتظرون البيانات العسكرية، وأصبحوا خبراء في تحليل أصوات المذيعين، من نبرات التفاؤل والتشاؤم يعرفون كيف تجري الأمور في ساحة الحرب.

مع كل ذكرى 5 حزيران أشعر أنني ما زلت أعيش في المغارة، كبرت ولم تكبر المغارة، ما زال صخرها المسنن يغرز في وجعي الممتد حتى اليوم.

ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *