لأراك مجددا / بقلم: ذ. مصطفى مشال / المغرب


الأمر ليس سهلاً كما تظن، أن تنفضَ كُل ما بداخلك على هيئةِ حروفٍ تهدّج صوتها، أن تكتب ويداك ترتعش، خائفٍ من أن ينكشف كل هذا الحشد من الشعور، أن تعبر السطور بحذرٍ تام تُحاول تجنّب حدوث أي خدشٍ قد يُبعثرك، أن تغرق في تفاصيلها وتعيش الألم مجددًا، أن تخرج في نهاية الأمر ضعيفًا، مُتعبًا حائراً، إنسَان ممتلئ بالتناقضات، سعيد بِشكل مُكتئب، ومنعزل بشكل اجتمَاعي مُستندًا على آخر نقطةٍ تضعها وأنتَ تتنهد… ليس سهلا
ﺟَﻠﺴَﺖ ﺑﻤُﻔﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻄﺎﻭلة في “أسراك*” لمدة ساعة وكأنّها تنتظر ﺻَﺪﻳﻘﻬﺎ ﺃﻭ ﺣﺒِﻴﺒﻬﺎ.. ﻻ ﺃَعلم، ﻓﺄَﻧﺎ ﻛﻨﺖ ﺃﺟﻠِﺲُ ﺑﺠِﻮﺍﺭِﻫﺎ ﻋﻠﻰ طاولةٍ ﺃﺧﺮى..!
ﻭ ﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﺷﺪّ إﻧﺘﺒﺎﻫﻲ ﺃَﻧﻬﺎ ﺗﻨﻈﺮ إﻟﻰ ﺳﺎﻋَﺘِﻬﺎ ﻛﻞ دقِيقة ﺭﺑﻤﺎ ﻗﺪ ﺗﺄَﺧّﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﺜﻴﺮًا..
ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻃَﻠﺒﺖ ﻛﻮبا ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺎﻱ ﻟﻨﻔﺴِﻬﺎ…
شدّتني تِلك اللمعَة ﻓﻰ ﻋﻴﻨيها ﺭﺑﻤﺎ ﻗﺪ ﺗﻜُﻮﻥ دمعة، ﻻ ﺃﻋﺮﻑ..
أﻧﺎ ﺃﻳﻀﺂ ﻛﻨﺖ ﺃﻧﺘﻈﺮ شخصًا ﺁﺧﺮ ﻭ ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺘَﺄﺧﺮ بل ﻟﻢ ﻳﺄت أﺑﺪﺁ ﻓﻘﺪ ﺭﺣَﻞ ﻣﻨﺬ ﺯﻣﻦ طوِيل
ﻭَﻣِﻦ ﻋﺎﺩﺗﻲ ﺃﻥ ﺁﺗﻲَ إﻟﻰ ﻫﻨﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﻦ لآخر كي ﺃﺳﺘﻌﻴﺪ ﺫﻛﺮﻳﺎتي..
بدَأت ﺍﻟﻔﺘﺎة ﺗﺒﻜﻲ بِحُرقة فأﺗﻰ إﻟﻴﻬﺎ ذلك الغريب ﻭ ﻭَﺿﻊ ﺃﻣَﺎﻣﻬﺎ ﻣﻨﺎﺩِﻳﻞ ﻭرَقية ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻔﻮّﻩ بكلمة ﻭﺍﺣﺪة،
ﻭ ﻧﻈﺮ إلي ﻭ ﻛﺄﻧﻪ ٱﻋﺘﺎﺩ ﻋﻠَﻰ ﺫﻟﻚ؛
ﻓﺬَﻫﺒﺖُ إﻟيه ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ ﻫﻞ ﺗﺮﻳﺪ ﺍﻟﺤﺪِﻳﺚ ﻣﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﺘﺎة؟
ﻗﻠﺖ ﻧﻌﻢ!
ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﺻﺪﻳﻘﻬﺎ “ﻣﺎﺕ..”!
ﻭ ﻫﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻫﻨﺎ ﻟﺘﺒﻜﻲ ﻋﻠﻰ ﺭﺣﻴﻠﻪ؛
ﺃﺩﺭﺕ ﻭﺟﻬﻲ ﻷﺭﻯ ﺍﻟﻔﺘَﺎﺓ ﻭ ﻟﻢ ﺃﺟﺪﻫﺎ ﻓﻨﻈﺮﺕُ إلى ﺍلغريب ﻭ ﻟﻢ ﺃﺟﺪﻩ أيضا، ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﺣﺪ ﺑﺎﻟﻤﻘﻬﻰ والساحة ﻏﻴﺮﻱ، ذﻫﺒﺖ مسْرعًا إﻟﻰ ﺩﻭﺭﺓ المياه ﻷﻏﺴﻞ ﻭﺟﻬﻲ ﻭ ﻭﻗﻔﺖ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻤﺮﺁﺓ ﻓﻠﻢ ﺃﺟﺪ انعكاسي فيها ﻓﺄﻧﺎ ﻟﺴﺖ ﻣﻮﺟﻮﺩًا ﺃيضًا.. ﺃﻧــﺎ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸـﺨﺺ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺘﻈﺮﻩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﺘﺎة..!
أنا في العَدم الآن… أترى هل تذكرني بعد في أحاديثها، هل مازالت تتذكر كل تلك الأحلام التي حلمناها معا ونحن مستيقظين، آملين ان تتحقق في يوم ما… حينما قبلتيني فأخبرتك (ماذا سيحدث)، ماذا لو انتزعتكِ مِن ذاكرة الزمن وأخفيتُكِ في حاضري ومُستقبلي! هل سيشعُر العالم! هل سينتبه؟ ماذا لو أصبحتِ أنتِ أرضي ووطني هل ستتغيّر الجغرافيا ويتبدّل التاريخ! هل سَتثور الأمم وتغضَب الدول وتُقام الحُروب! لكم أتمناكِ زهرتي الخاصّة، دَولَتي الصغيرة الخالية من الذهب والنفط والمعالم السياحية، بعيدة عن أنظار المُسافرين ومطامع الغُزاة وناهبي الثروات. أريدكِ صحراء بعيدة وهادئة وسأكون أنا بدويًّا، أرعى الغنم وأجمع الحطب، أقتات على الخبز وحليب العنزات، أتغزّل فيكِ بأجمل العبارات. وحدنا في البادية، لنا كل معاني الحريّة، نتغنّىَ بأمجاد الأجداد ونختار أسماء الأولاد والأحفاد، نقرأ معًا الكُتُب القديمة والقيّمة، نتحدث عن فوائد القراءة ومساوئ التكنولوجيا. معًا سنكون وسنظل، بلا خوف أو قلق، نُردّد قصائد العرب في جلسات السمر، نلعن الحضر والصخب في أمسيات السهر، نمدح بعضنا وأنفسنا ونسبّ الفلاسفة ومُحبي السفر .
وحدنا… أنتِ وأنا، وهل نحتاج شيئا آخر؟!
لكني مع ذلك كنت ثعلبا ماكرا أخادعك منذ الوهلة الأولى، وحينما وجدت الفرصة تركتك، تركتك هناك ورحلت بعيدا باحثا عن فتاة أخرى لأفعل بها ما فعلت بك، لكن ما لم أنتبه له أنني وقعت فيك وفي حبك… وحينما عدت ولم أجدك أصبحت أيامي كلها ضبابية الرؤية لا أرى شيئًا مُثيرًا للاهتمام
ثقلٌ وأيام عادية لا تحمل محبة لا تحمل ودا أرى كُل شيء بـِضبابية مُفرطة، كنتُ أشاهد ضوء القمر وهو يُضيء مرةً بِمرة أصبح يُشبه الضباب..
الضبابية سكَنَت أعيُني، كنتُ أبكي بشدةٍ ولو كانَ مابكيتهُ يعود لكنتُ أبكي حتى تقرّح أجفاني..
أجل بكيتُ كثيرًا من كُل حواسي
نسيت من أي مكانٍ أدمع
من عيوني
من قلبِي
أم جسدي كُله ينزف!
أم أنّ جنازتي غادرت وحان وقتُ الرِحيل
هذه هي الضبابية التي عمت لي أعيني وأقرحت أجفاني وأبكتني ليصبح جسدي كُله ينزف
هذا البُكاء حينها علمت أنها النهاية.. ونفس الضبابية دمرت حياتي ودفنتها..
وقبل أن تتوفاني المنية كتبت بعض الكلمات تاركا إياها لعل العالم يتذكرني بها أو لعلها تجدك فأنت من سيفهم معانيها وفقط. “لم يعد قلمي قادراً على البوح بشيء فقط جف حبره على أحدهم حين نادته كلماتي مراراً ولم يسمع، أيعقل أنه أصم أم أن قلمي بات أخرسا على حافة الهاوية!”… وبطبيعتي لا أحب الجنائز ككل البشر غير أني أرغب وبشدة أن أحظر جنازتي… لأَراكِ مجَدَّداَ.

ذ. مصطفى مشال / المغرب


*أسراك: مكان وسط مدينة تارودانت



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *