قراءتي في رواية “عشر صلوات للجسد” للكاتبة العراقية ابنة البصرة، الدكتورة وفاء عبد الرزاق، والصادرة عن دار أفاتار للطباعة والنشر في طبعتها الأولى عام 2020، بعدد صفحات (226 صفحة) ولوحة غلاف للفنان العراقي / صالح كريم.
*******
عندما تقرأ العناوين التي تختارها وفاء عبد الرزاق، تحلّق بك أجنحة الخيال بعيداً، يغوص العقل في عمق أعماق التفكير، وقلبك يخفق متسارعاً نبضه بأحاسيس ومشاعر تلامس روحك باحثةً عن حضن لأنفاس مبعثرة؛ كما في هذه الرواية “عشر صلواتٍ للجسد”.
أيّ جسدٍ هذا الذي ارتكب الإثم والمعاصي فأقيمت لأجل توبته الصلوات؟ أم هو الجسد الضحيّة الذي أقيمت به القداديس وقُدِم قرابين لأجلها؟ وأيّة صلوات تلك التي أقيمت لأجل جسد؟ في أيّ المعابد وفي حضرة أيّ إله؟ أم أنه الجسد الذي يؤدي تلك الصلوات؟ ولماذا صلوات عشر؟ وماذا يعني رقم عشرة في العبادة؟ أهو رمز لأماكن مختلفة، أم لأزمنة مختلفة أو عشرية زمنية تعبر فوق هذا الجسد؟ في أيّ عُرف أو دين أو مجتمع أو ثقافة سنجد الردّ على كلّ هذه التساؤلات؟
وأيّ جسدٍ من ورق رسمته وفاء عبد الرزاق فوق سطورٍ من ورد، كعادتها تمتشق ريشة وطنٍ ليله طويل طويل، محبرتها من أوردةٍ مفتوحة في أجساد مثخنة بالجراح، تنزف ألماً وقهراً، ظلماً واستعباداً، تجاهلاً وانتقاصاً من القيم والمبادئ، من المتطلبات والرغبات، ومن الآمال والأحلام؟!
-نلج إلى الرواية…
الإهداء أو مقدمة معنونة بكلمة إهداء.. تخاطب الكون، تبثّ فيه أنفاسها، تتحدث إلى خالد، ليالي، وأنهار فتقول:
” الخضرة لاتحتاج لمن يسألها: من أين اكتسبت هذا اللون؟! أحتاج الآن اتساعاً مختلفا، لاأحد يسأله عن سره!! فقط أضمُّكما، كما أنتما الآن احتواء وارتعاش، هي النسمة الوشيكة على أن تكوّنكما؛ ليتنفس الكون.
“خالد، ليالي”، حين طرحت عليكما فكرة الرواية، تقرفصنا ثلاثتنا على فراش خالد، وصرنا نبحث عن الطويرات الهائمات، لنضمهنّ معنا، كنا في الرسوخ العالي العالي الذي تسلقت إليه الأرض.
” نهار” أمسكي الألم المضاعف، بهدوئك الرفيف، طيري، وامتلئي، افتحي طريقا لنفسك، لتكون كل زهرة بستانا، حتى الألم يحتاجك، لاتسألينه: كيف السنبلة تتحدى السيول؟!
-كلمات تجعلك تلهث لتعرف مابعدها، فنقرأ مقدمة ثانية بقلم البروفسور الدكتور/ محمد جواد حبيب البدراني تحت عنوان (وفاء عبد الرزاق.. أشرعة الحب الأزليّ)..
ثم ثالثة بقلم الشاعر والناقد / هاتف بشبوش، تحت عنوان (وفاء عبد الرزاق.. وهوية الانعكاس السردي)..
-نتابع لنصل بداية سرد الأحداث والتي تبدأ بالصلاة الأولى.. صلاة لِ (أزاهير)…
ثم صلاة ل “هينار” – الثالثة ل “خضرة” – ل “سارة ” – Bella – ميلفا – زبيدة – جان دارك – هاريت توبمان – والعاشرة: صلاة “لنا”.
-إذا هي الصلوات العشر.. والجسد تكوين واحد فرضته الأقدار وإرادة خالقه، لتحكمه البشر وتتحكم به العادات البالية والتقاليد البائسة، وتقهره الذكورة وليست الرجولة، وتتسلط عليه قوانين ومعتقدات ومفاهيم لاعلاقة للإنسانية فيها بشيء..
هو جسد الأنثى..
جسد بلا روح.. كحبة قمح تحبل بسنابل البيدر.. يدفنوها متى شاؤوا، يستهلكونها، يستمتعون بعطائها.. وإن أرادوا قتلها، شنقوا الريح على وجهها، وَأَدُوا روحها قبل جسدها، باعوا ظلها للسجون والأسوار، حمّلوها جثمان الحياة فراحت تعاين لحدها في كل زمان ومكان..
-هي المرأة منذ بدء التكوين، إلى عصر الحضارة والتكنولوجيا والثقافات، التنوع والانفتاح والتغنّي بالرقي والعدل والمساواة…..
هي المرأة التي قدمتها أ. وفاء عبد الرزاق -متوغّلةً في عمق التاريخ لتسرد لنا حكاية هذه الأنثى- على لسان “أزاهير” البطلة أو الراوية ذاتها..
في إطار بنية سردية رائعة وبلورة لفضاء الزمان و المكان، تجمع فيه بين الميتاتاريخ والميثولوجيا، تقدم شخصيات روايتها بتفاصيل سلوكها وملامح محيطها وتأثرها بما كان وسيكون، وما تحلم به الأنثى و تسعى له في التحرر والانعتاق من هذا السجن النسويّ والسجّان الأزليّ، الرجل الذي قيّد جسدها بتفكيرعقيم، قتل فيها الروح والطموح وحرمها الاستمتاع بنعمٍ وهبها الله لها.
-أمثلة عن تلك المرأة التي حلمت بعالم مختلف، ظنته فضاء الحرية والتغريد وتحقيق الأحلام، فاصطدمت بواقع أكثر مرارة وبؤسا وإحباطاً.. لا فرق فيه سوى بالوجوه والمظاهر ومعالم الأمكنة والأزمنة المتتالية عليها جيلا بعد جيل.
-نقرأ.. والبداية مع “أزاهير” التي تأخذنا عبر التاريخ إلى أحضان وطنها الذي غادرته إلى لندن وهي تحمله في أعماقها، إلى عهد الحضارة السومرية لأول شاعرة رسمت معالم فكرها وزمنها بأشعارها، “إنهيدوانا” ابنة الملك الآكدي سرجون، و”إنانا” إلهة الحب والعشق الخالد.. تحمل كتابها المفضل “صلاة إنهيدوانا” إلى النهر وتحت ظل شجرة تقرأ عن الزواج المقدس وكيف فرضته ديانة “إنانا”.. تحاورها في خيالها، تبوح بصمتٍ فتقول في ص26:
“أتدرون لماذا برعت أناملي في طهو أزكى وأطيب الأكلات؟؛؛ لأنني كنت أشكو للولائم قبل صنعها، تحمّلتني صامتة أقلّبها بعذابي، لتأكلوا، وتستمتعوا، وتفتخروا بما لديكم من امرأة شاملة، أمّ، وكل شيء لكل شيء، إلا أنا لاأحد لي غير ذاتي، هي صديقتي الوحيدة، حين كنتم صغاراً أدركتم بعضا من ألم، لكنه ليس كل الألم، ليس كل الإلغاء لشخصيتي، وصراعي لأعيدها رغم أنف من يريدني ظلاً له.
لم أبكِ أمام أحد، لأنه سيُبكيني وقريبا؛ لو رأى ضعفي.”
ص29 : “صديقتي الحبيبة إلى قلبي، شاعرتي الأثيرة “إنهيدوانا”، حين دخلت عوالمك في معبدك المقدس في أولى قراءاتي، تيقّنت جيدا لماذا كل صلواتك كانت ل “إنانا” . لأنك تؤمنين عن قناعة بأن المرأة إله الحياة، لذا عشقت صلواتك وسط اندهاش الجميع وتقديسك ل “إنانا وأبه”، لعل ثقتك تزعزعت بالآلهة الذكور وخاب ظنك”.
-نقرأ عن
☆”هينار” المرأة المضطهدة في بلدالثقافة والحضارة والديانات والمعتقدات، في الهند بلد “غاندي وأنديرة وطاغور”.. تروي قصة أختها النادلة في أحد البارات، كيف تعرضت للاغتصاب فقُطع رأسها على يد والدها المنتقم لشرفه ولتكون عبرة لغيرها في القرية.
☆”خضرة” امرأة يهودية من أصول صومالية، تصل بريطانيا بعد معاناة من أبشع المعتقدات الدينية في بلادها (ختان البنات) لصيانة عفتهن وكرامة عوائلهن.
☆”سارة” المرأة المقهورة التي وصلت للانتحار ثلاث مرات بسبب زوجها ابن خالها الذي اعتبرها قطعة من ممتلكاته لاحس فيها ولاروح، تصاب بالشلل النصفي وفقدان النطق إثر محاولتها الرابعة للانتحار.
☆”مهيرة ” الباكستانية التي اغتيلت كرامتها فقط لأنها رفضت زواجا تقليديا فرضه الأهل وحُرمت من حبّها ، فساعدها أخوها الأصغر على الهروب واللجوء إلى بريطانيا.
☆”دلكش” المرأة البريطانية من أصول إيرانية، سحلوا أمها من شعرها بعد اغتصابها جماعيا وقتل والدها وشاء القدر أن تصل مع أمها إلى لندن.
☆”Bella” فتاة صينية مراهقة، أجبرت على الزواج من اقطاعي يقيم في لندن منذ خمسين عاما يفوقها سنا بكثير، وبقيت عذراء نسيت الجسد والرغبة ومعنى الحياة.
☆”زبيدة” زوجة هارون الرشيد، الشاعرة، المثقفة، الرزينة صاحبة الفصاحة والبلاغة، التي طالما تمنت لو كانت من عامة الشعب لتتزوج بمن تحب وتعشق وتتخلص من قهر زوجها وأمه “خيزران” لها.
☆”ميلفا ماريك” زوجة “أنشتاين” التي عملت معه جنبا إلى جنب وجادت بأبحاثها وجهدها للوصول إلى قانون التأثير الكهرضوئي، لينال وحده التكريم وتُذيل جائزة نوبل باسمه وحده، وتعاني هي القهر والألم وأولاده اليتم وهو على قيد الحياة.
-وهكذا تستمر الأحداث مع شخصيات أدبية، سياسية، تاريخية، علمية، اجتماعية وأخرى، قرأت عنها الراوية أو التقتها في لندن أو تخيلتها موجودة.. منها مثلا، غير ماذكر هنا (بناظير بوتو، تيريزا ماي رئيسة حكومة بريطانيا، ديستويفسكي، جبران خليل جبران، موزارت، آنا حمزاتوف شاعرة روسية، يولا ناشطة كولومبية، النحات لويس والش، وغيرهم.
كذلك كان للمكان رمزه وانعكاسه على شخصيات الرواية واللحظات التي مرت بها ابتداء من المطبخ إلى غرفة النوم، الأريكة، الحديقة، المطعم، النهر وأماكن أخرى لها وقعها وأثرها ورمزيتها، وقد صورت لنا من خلال تلك الأحداث حضارات وثقافات وموروثات مختلفة في بلدان مثل (العراق، الهند، باكستان، بريطانيا، فرنسا، أمريكا، رومانيا، إيران، المغرب……)
-اتضح اسلوب الميتاسرد جليّاَ في الرواية إذ أن الراوية نقلت قصصا من الواقع وضمنتها في نصوصها، وكانت أحيانا تأخذ دور الناقد وهي تحلل وتعلّق على سلوك شخصياتها، أو ذاك الموروث الذي طغى على سلوكها، وتركت الفضاء مفتوحا في أماكن كثيرة، لتتيح للقارئ إعمال فكره وتوسيع خياله لفهم وإدراك عمق ومضمون الأفكار والوصول لمبتغاها.. وهذا ما كان في الجزء الأخير من الرواية مع سرّ الصندوق ومحتوياته، والجدران التي رأتها النسوة جميعهن في ذات الحلم.
-في الصلاة العاشرة “صلاة لنا ” تقول أزاهير بعد أن التقت النسوة عند الجسر، وبدأن بوصف ذات الحلم الذي حلمن به تلك الليلة ونفس الغرفة ذات الجدران الحديدية الثلاثة، والجدار الزجاجي الأمامي.. كانت أزاهير توزع أوراق روايتها على النسوة بين العابرين، وبعضها يطير ليغرق في النهر، أما هي حملت الصفحة الأولى وراحت تلوّح بها كما تقول:
“رفعت ورقتي بروحٍ عارية ألوّح لها بها، كان وجهها يتلألأ في الهواء، عيناها تلجآن إليّ كما لجأت إليها في المرايا، سمعتُ موسيقى قادمة من السماء، انفصلت روحي كليّاً عنهن، لاأسمع لأحد سواها، كانت تدعوني إلى صوتها بين الأنغام، وأنا ألوّح بالصفحة الأولى من العشر التي صلّينا بها كلّنا …
لاشيء يمرُّ بي غير قلبها المورق في قلبي.
اقتربت مني حمامة، اقتطفت الصفحة بمنقارها، وطارت عاليا، نظرتُ إليها، تابعتُ تحليقها عاليا، وهي تعلو، تعلو، ثم غابت في السماء .
كنت أردد مع صدى الموسيقى:
-إنها هي، هي، هي…
أيقظتني “خضرة” بسؤالها:
من تقصدين؟! روح “بربارة”.
قلت: لا، لا، إنها هي، هي…
-نهاية تضع القارئ أمام نفسه باحثاً عن ردودٍ لأسئلة الحقيقة الكامنة في أعماقه، عن علاقات وتفاعلات بشرية سُخّرت لترويض ذواتنا في مدارات ضيقة، خانقة..
ولم يكن الصندوق الذي وجدته أزاهير في غرفتها إلا نعشاً للحياة، دُقّت مساميره بشظايا أجساد منثورة على أخاديد الظلم والقهر، وسجناً لأرواح تتعالى صرخاتها في فضاء مظلم يغيب فيه الصدى.
تماما كتلك الغرفة ذات الجدران الحديدية الثلاثة التي تمثل سجن الجسد والجدار الزجاجي الأمامي، نافذة القلب والروح التي تتنفس من خلاله وتنطلق لعالمها.. والمرايا الشاهد الوحيد عليها تعكس صلواتها وتراتيلها، رغباتها وأحاسيسها عارية مجردة من كلّ مايُفرض عليها.
وكانت الصلاة العاشرة، حلم مشترك، أوراق مبعثرة، و الورقة الأولى بيد أزاهير تلوح بها وروحها تحلّق عاليا لتعانق روح معشوقتها “إنهيدوانا” تحملها حمامة من وطنها، من ذكرياتها، من أحلامها، من روحها التي رقصت على موسيقى تراتيلها وأشعارها.. منفصلة عن كلّ ماحولها لتعود لذاتها، لوحدتها، لصلاتها وطقوس حياتها. أما (هي) تلك التي رأتها أزاهير تعلو ليست إلا المرأة المنشودة، المرأة الأنثى، إلهة الحياة والحب والجمال والتحرر والإبداع.
خاتمة..
رواية “عشر صلوات للجسد”، ليست مجرد سردٍ لأحداث وقعت أم لا، ولا فلسفة مجردة لأفكار وحوارات، أوتعريف بحضارات وثقافات شعوب مختلفة، وليست خيالية تبحث عن شمّاعةٍ في عالم ضبابيّ تعلّق عليه طقوس شخصياتها…
هي عالم من الإبداع والجمال، عالم الأرواح الصاخبة والأجساد الموغلة في الأنوثة، عالم المرأة الحاضرة بكل تفاصيلها، والماضية كما روتها الحكايات الشعبية والأساطير، وتلك المنشودة المتحررة من كل مافرض ويفرض عليها، المتوازنة، المتكاملة بحقوقها كما واجباتها.