قراءة نقدية: جماليات الإحالة في نقش على شاهدة (السياب يموت غداً) للشاعر العراقي عبد الجبار الفياض / بقلم: ذ. صالح هشام / المغرب


لكأني بقصيدة (السياب يموت غدا) قطعة جمال هلامية، شفافة قزحية الألوان، القبض على ألوانها، حس ذوقي و دراية ومعرفة بهذا التمويه الفني الذي يتميز به عبد الجبارالفياض في مجمل قصائده، وما هي إلا جوهرة تكاد تكون فريدة متفردة تتوسط عقوده، و غيض من فيض شعره الباذخ!

وانا اقرأ هذه القصيدة، أجدني حائرا بين عنوانين، بين عتبتين (نقش على شاهدة) و (السياب يموت غدا) وقد اعتبرتهما كذلك، وفق قراءتي الشخصية، التي تقتفي جمال مقاطع شعرية، يكتبها الشاعر بمداد جمال وجلال الكلمة، وأنا بعيد كل البعد عن تلك الأدوات النقدية أو المناهج التي أحسها مفروضة علي، أشعر أنها تقيدني بما لا أرغب فيه. فأنا في حضرة قصيدة شعرية أعلن فيها الخلف اتحاده و حلوله في السلف، فقط أريد أن تصدر آهة الإعجاب من أعماقي لا من أعماق غيري، وأن أشعر بنشوة قراءتي من خلال صدق إحساسي بروعة قصيدة تشرح جسد تاريخ حافل بأمهات قصائد الشعر العربي، لا بإحساس غيري، وما النقد إلا قراءة شخصية صرفة وإن كانت مكتوبة، محسوبة لي، أو محسوبة علي، و أتمناها موقظة النص من سباته كما يقول جان بول سارتر!

أقف أمام العنوان الأول (نقش على شاهدة)، فأتساءل، عن أي نقش سأتكلم؟ أعن النقش كما هو على شاهدة قبر السياب الذي، لا يقول إلا ما يقوله احدهم؟ من عبارات نمطية مبتذلة لا تخلو من نفاق اجتماعي ومديح ميت، ذم حيا، هذا (الحي /الميت) الذي عاش على هامش الهامش كغيره من الشعراء غير المرغوب فيهم منذ الأزل؟ أم أتكلم عن نقش الشاعر الفياض على هذه الشاهدة، و هو نقش يختلف عن نقشهم الفقير الضحل، الذي لا يعدو أن يكون غير حفنة حروف جامدة منقوشة على رخامة، فهو أعمق وأكثر ملحمية واستجلاء لمظاهر حياة عَلَمٍ طالما لفه الغبن والتجاهل والتهميش، ففي كل الأحوال هناك نقش شاعر على الشاهدة لكن بشكل آخر، هو حفر و ليس نقشا عاديا، في طبقات مرمرية من عذب شعر شاعر سومري كبير، ظلم في حياته و احتفى به تاريخ الإبداع في الشعر و الأدب العربي بصفة عامة، وأنصفه قصيد خلفه الشاعر عبد الجبار الفياض. الذي اخترق -بحس شاعري رائع- متاهات حياة هذا الشاعر المعذب الذي حمل هم الذات.. هم الأرض والعرض… هم الوطن الصغير… هم الوطن الكبير، وتألم لما آلت إليه أحوال هذا الوضع السياسي والاجتماعي الآسن، وضع تأبى الجبال حمله، لكنه حمله وتحمله، وهم ذاتٍ معلولة مريضة عاثرة الحظ، تنفجر في كل آهة إبداعا، في كل سطر أو قطعة أو نتفة شعرية: حمما بركانية تجتاح مدى القصيدة العربية الحديثة، في كل أنة ألم مرض ألم به، أو ألم ضيق ذات اليد، إلا أن كل هذا لم يقتل فيه الأمل في انبلاج فجر وطن عربي جريح، محفور بماله وما عليه في ذاكرته، فاحترق شعرا أضاء عتمات الجوع والقهر والحرمان بكل أشكاله!

هذا نقشهم، نعرفه: ليس إلا حروفا لا بريق لها، صورا مفتعلة، مبتذلة لا تقدم ولا تؤخر، و لا تخلو من إضمار مفضوح لحقيقة ما بالدواخل وإظهار ما يعاكس هذه الحقيقة -نقش على شاهدة- نقش ما بعد وفاة الشاعر، و إخفاء معاناته في حياته، المتخمة بالألم والأمل واليأس والحب، نقش كان في أمس الحاجة إليه وهو على قيد الحياة!

هذا نقشهم أطرحه جانبا، وأبحر في نقش (شاعر على شاهدة قبر شاعر)، نقش تتعانق فيه عبقريتان سومريتان كبيرتان تضيئان سماء قصيدة عربية غائمة أصابها الوهن والضعف في عصرنا الحديث: نقش قصيد الخلف على جسد قصيد السلف، حيث تمتزج كنوز الماضي بمعرفة الحاضر، في مسح فلسفي عميق، من ديموزي إلى عروة بن الورد، من أنين ألم (نبي الله أيوب) إلى أنين بدر شاكر السياب كما عبر عنه في رائعته (سفر أيوب)، هو نقش شاعر متشبع بجماليات القصيدة الشعرية السومرية، كاشف وكشّاف سترها ومستورها ظاهرها وباطنها، تجسدها ذائقة السياب والفياض في أبهى تجلياتها، حفر في طبقات نصية، رسوبية مزينة بأروع وأعذب شعر: شعر الإنسانية جمعاء، من هوميروس إلى هذه الأيقونة الإبداعية!

و حفارنا فيلسوف شعر، لا يخفى على أحد، نحت بهاء قصيدته من روائع قصائد السياب -كما سنرى في هذه القراءة- فهو يجعله يحيى فينا ونحيى فيه من خلال رسم لوحته بحنكة رسام خبير في خلط الألوان، يبحر بنا في حياة السياب بأمكنة، عشقها حد الجنون:

(جيكور… عشار) و بأزمنة تحمل كل تناقضات حياة أشبه بمغارة سحرية تتعدد متاهاتها وتتنوع فيها المداخل والمخارج.

حياة عاشها السياب عريضة لا طويلة، أعطى فيها للعراق وللوطن العربي كل شيء ولم يأخذ في المقابل إلا الإهمال والتجاهل، شأنه في ذلك شأن كل حامل هم إنساني وفكر متنور! حفر في حياة ميت (لم يعرف إلا نفاق المنافقين الذين ربما كان يشكل غصة مكورة في حلوقهم، تمنعهم من تنفس نفاقهم وكذبهم) حفر في موت حي (لأن السياب سيحيي بيننا أبد الدهر من خلال خلف متشبع بأصالة قصيدته، فما (مات من ترك خليفته)!

يجذبني العنوان الثاني، أو الذي اعتبره كذلك لأن روعة العناوين اختلطت علي، (السياب يموت غداً) جملة اسمية لا تعدو أن تتجاوز المبتدأ والخبر فيها جملة فعلية من فعل فاعله ضميره عائد، وظرف زمان، لكنها حبلى بالدلالات، فهل فعلا سيموت السياب غدا؟

لكأني به يريد ان يدون سيرة ذاتية للسياب على غير ما ألفناه في السيرة الذاتية المعروفة: سيرة تتعانق فيها روعة وجمال القصيدة الشعرية المثقلة بالدلالات والمعاني، التي تستوجب فطنة قارئ ملم بشعر الشاعرين: خلفا وسلفا. فهذا السياب يترك الجمل بما حمل في جوف الخليج، و تلك ألقابه فضفاضة فارغة، لا تساوي حبة بصل، تلصق بشاعر عاش ملكا في مملكة القصيدة بلا جيوش:

جيوشه روعة الحرف و الكلمة وجنون الشعر وعذوبة اللغة، يراقص الحرف في محراب إبداع، نحته نحتا على جبين تاريخ الوطن العربي في مجال الأدب الراقي من البحر إلى البحر، وحفره حفرا في ذاكرة كل عاشق جمال القصيدة السومرية، هائم بروعة الكلمة في عالم لا يعرف إلا قسوة النفاق والرياء، ماذا تساوي ألقاب شاعر فقير معدم لا يملك ثمن شراء ثقب في بذرة؟ بجيوب خاوية، إن هي إلا عملة ملغاة صدئة كأفكارهم الصدئة، يقول الفياض:

ألقى ما أثقلَهُ سَفَطاً في جوفِ الخليج
آلامَه
جيوبَهُ الخاوية
ألقابَاً لم تأْتهِ بشروى نقير
عملةً مُلغاة
رُدّتْ بوجهِه
شربَها كأساً فارغة…

وإن كان هذا مألوفا منذ طرد السياب من جمهورية أفلاطون، هذه ألقاب لم تكن تعني له شيئا، يتجرعها كؤوسا فارغة، ولم تكن لتستر عريه إلا ذراع الحسن البصري، حيث الوسادة الأبدية: مقبرة الحسن البصري، في عمق مدينة أحبها وتنفس هواءها، وشرب ماءها، وشيء من شعر لا يخلو من عتاب السلف، شيء من شعر أراده مبصوماً ببصمته الخاصة به كخلف لا يجتر عبثا ما تركه هذا السلف، بصمة ستحدث تغييرا شبه جذري في شعر العصر الحديث. (السياب يموت غدا) مأساة كل من آمن بفكر يخالف تلك الأعراف السائدة والقوانين المفصلة على مقاسات خاصة.
في بداية هذه القراءة، ما رأيت للشاعر السومري عبد الجبار الفياض هذا النقش على شاهدة قبر السياب، إلا نحتا وتشريحا وإبحارا في (صحراء/ فردوس السياب)، إبحارا على متن مركب يتهادى بين صحراء لن تكون إلا واقعه المتخن بالجراح، و بين حلم جسده في أروع قصائده، التي ترقى به إلى عالم فيه حرية مكبلة بالوهم وعدم الثقة بالنفس، يبحر الفياض في شعر السياب من خلال توظيف تلك الإشارات والإحالات الرائعة التي أرى كل إشارة منها تلخص حياة فقيرة ضحلة في العاطفة، وموانع واقع يمنعه حتى من حقه في الحلم، كل سطر من أسطر السياب يعري هذا الواقع المرير الذي لم يكن إلا ضحيته المليونية. يتنقل عبد الجبار الفياض بروعته التمويهية ما بين غياب الشاعر في طيات الماضي من خلال توظيفه ضمير الغائب في مقاطع والذي لن يكون عائدا إلا على عريس القصيدة، وفي مقاطع أخرى يستحضره ويحضره بيننا حيا بجسده الضامر الذي نخره المرض، من خلال هذا التشريح الإبداعي المتميز، حاضرا متكلما متألما، ومأساته غائبا يقول عبد الجبار الفياض:

شناشيله
الموشاة بخيوط شمس سومرية
مشقتها من قبل على جبهة ديموزي
أثداء عشتار……..

من عمق الحرمان والفقر، يرقب بدر من بعيد شناشيل، تزينها أشعة شمس تلفح جلود المحرومين والمأزومين، من أبناء طينته أبناء الفقر والضياع، شناشيل بقدر ما نعتبرها تسمح برؤية واقع فسيح مترامي الأطراف من حيز ضيق، من نوافد مشرعة، بقدر ما يختال خلفها طيف حلمه (الفتاة/ الحلم) ربة شعره، وملهمته وإن لم تكن إلا بنتا من بنات أفكاره، هذه (المرأة/ الحلم) التي كانت موضوع قصائده (بنت الجلبي) ولنتساءل مع الناقد إحسان عباس (ترى أكان للجلبي ابنة أم أن أحلام بدر خلقتها)؟

ابنة ينتظر أن تحبه، ينوء به الانتظار على شرفة الشناشيل، يقتص من جسد انتظاره روعة القصيدة، ويعمق حفر الأسماء في يأس اليأس وموت الموت يقول عبد الجبار:

مازالت بنت الشلبي
تشرب الزمن بزجاجة كولا والمطر
تضع كراسها على شرفة الانتظار
غادره الرصيف
الظل
يذوب بظلام يأس شعرا!

يرصد الشاعر عبد الجبار الفياض، انتكاسات السياب المتتالية، في عالمه العاطفي، إذ ظل متنقلا بين القلوب دون أن يفصح عن مكنون قلبه ولعل هذه الانتكاسات يرجعها بعض النقاد إلى فقدان ثقته في نفسه، وحرمانه، منذ طفولته من حنان الأم والأب يقول:

أبي منه جردتني النساء
وأمي طواها الردى المعجل!

ثمة وميض، يرسله عبد الجبار، ضوءا ينير عتمة جوانب من حياة، هذه الأيقونة الفقيرة حد العدم، والغنية حد التخمة، إذ لم يكن فقره يقتصر على الجانب المادي، وإنما كان أكثر حدة على المستوى العاطفي كما يشير إلى ذلك خلفه عبد الجبار الفياض:

مسحت كل ما كتبته عن المومس العمياء
المخبر السري
عن السبع اللائي عشقت
احتفظت باسم تدور به الاسطوانة!
عراق!

يكمن التميز والروعة في قصيدة الفياض في كونه يحيلك من خلال هذه الإشارات التي لا تخلو من رمزية تستوجب التفكيك والمعرفة الدقيقة بموضوع القصيدة: أي أن تلم إلماما معقولا، بحياة السياب على مستوى الواقعي والشعري أو الخيالي لأن هذا يعضد ذاك، فمعرفة السبع اللائي عشقهن السياب، تتطلب الوقوف على حياة الحرمان العاطفي التي عاشها، فهؤلاء النساء السبع تغنين بأشعاره وما أحببنه، إذ يقول (ما أحبوني) بدءا من (هالة) فتاة طفولته ومراهقته، التي ستخذله وتتخلى عنه لتتزوج يقول السياب:

-آه…. فتلك باعتني بمأفون/ لأجل المال ..
ثم صحا فطلقها وخلاها!

ونساء السياب كثيرات إن على مستوى الواقع أو الافتراض ولعل ابرزهن في حياته لميعة عمارة التي كانت تستغله شاعرا لتصنع شهرتها السمجة حتى بعد رحيله، يقول الراحل عاصم الجندي: (ولأنه يوما ما ذهب في رحلة نهرية مع صديقه، أوجعه حبها كثيرا، وقد استغلته في حياته ومماته، كانت توحي له بميلها إليه ليكتب الشعر، طلبا للإذلال بذلك الشعر الذي قيل فيها وكان أسرع ما يلبي النداء ثم استغلته بعد موته. عجنت جسده الموجع بعد رحيله، لتصنع منه شهرة سمجة حتى لبلغ بها التبجح بحبه لها وشعره فيها أن تقول: كل حبيبات السياب هن من بقاياي). وكانت لميعة عمارة من أسباب انسحابه من الحزب الشيوعي لشكه في علاقتها بالبياتي وكانا شيوعيين فكتب (المومس العمياء) وتلخص قولة عاصم الجندي حياة السياب العاطفية (وظلت سكين شبقه وحاجته إلى الحنان والحب تعمل في سويداء قلبه حتى الساعات الأخيرة من حياته المعذبة) و أذكر هذه الأمثلة فقط لتفكيك تلك الإشارات الضوئية التي ستنير عتمة بعض مقاطع القصيدة، مع أني لست بصدد تحليل شعر بدر شاكر السياب، ويشير الشاعر الفياض، إلى صدمة الواقع التي سيعيشها السياب إذ مسح كل أحلامه الضبابية التي كانت تصطدم بجدار صلب من الانتهازية والنفاق، اسم واحد سيعلق بذاكرته و ستظل تدور أسطوانته في ذهنه يقول الفياض:

مسحتُ كُلَّ ما كتبتُهُ عن المومسِ العمياء
المخبرِ السّريّ
السبعِ اللائي عشقتْ…
احتفظتُ باسمٍ تدورُ به الاسطوانة
عراق
وإذا روحي تعود
تشربُ عينُهُ عَتمةَ قبري
فيشرقُ من محاق
أنْ أرضي ولود
سيضاجعُها المطرُ ذاتَ يوم

إنه العراق،عراق سيبقى محفورا على جدار ذاكرته إلى آخر يوم في حياته، كيف لا وهو الوطني الغيور الذي تجند لحمل رسالة العتق والانعتاق، وكله أمل في غد مشرق جميل فالمطر حتما سيضاجع أرضه الولود، ولكأني بالشاعر الفياض يوثق مسيرة إبداع ومبدع لحظة بلحظة، مسيرة مليئة بالحب والأمل والألم، بالحرمان والضياع، وتحضرني قولة للفيلسوف الشهير هيغل إذ يقول:

(إن ولادة الأطفال هي موت الآباء) وأتساءل هنا هل تصح هذه القولة على مستوى الشعر، خصوصا شعر الفياض الذي ينصهر في بوثقة شعر السياب، فهو مستوعبه شعرا وتاريخا و بأدق تفاصيله، وما هذه القصيدة إلا قراءة وإعادة كتابة لنصوص السياب، بكفاءة فنية متميزة، معتمدا في ذلك على حضور الإحالة على روائع السياب الشعرية، وهي نصوص غائبة في قصيدة الشاعر الفياض. وتميز النص الإبداعي يستدعي تميز القراءة الملمة بفنية هذا الحفار وروعة هذا المورث الشعري الزاخر، تقول جوليا كريستيفا (كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى) و هذا الامتصاص ليس في مستطاع أي شاعر كيفما كان نوعه لأنه يتطلب المعرفة الموسوعية، و نص الفياض تركيب معقد يستوجب هذه الموسوعية أثناء قراءته، فهو يستوعب أروع ما ترك السياب، ولأن عدم حضور القراءة القادرة على تفكيك هذه الإحالات والرموز تعسف على النص!

فهو يستحضره ويكاد يتغلغل في أعماقه، فهذه جيكور، يربت منها على الكتف، و يعتذر لغيابه عنها، وإن كانت القصيدة، تفرض تحليلا كليا باعتبارها وحدة متكاملة وتجزيئها يفقدها روعتها بشكل أو بآخر، وهذا هو ما يدعوني إلى الإشارة إلى المقاطع فقط دون الإسهاب في تحليلها، فما يريده الشاعر، قد يستنتج من السطر الأول أو الثاني من المقطع، وأعتقد أن الإحالة في الإبداع تستوجب الإحالة في التحليل، شريطة التوفق في تفكيكها!

والرائع في قصيدة الشاعر عبد الجبار كونه جعلها عبارة عن (مقاطع/ محطات) في حياة السياب الإبداعية، من محطة الحب والحرمان والأمل الضائع إلى الألم، والمعاناة مع المرض، فهو لا يقل ألما عن بروميثوس ذي الكبد المتجدد، تنهشه نسور زايوس، أو آلام أيوب النبي وأيوب/ السياب، كما عبر عن ذلك في قصيدته الرائعة (سفر أيوب) وكذلك آلام جوته، وحبه المسكون في روايته (آلام فارتر) فالسياب في القصيدة كما يشير إلى ذلك الشاعر عبد الجبار الفياض، مثلث الألم هذا رابعه السياب، إذ جمع كل آلام هؤلاء في تابوت لن يكون إلا ذلك الجسد النحيل الذي نخره المرض، وأودعه آخر قصائده وأظنها (سفر أيوب) يقول الفياض:

آلام بروميثيوس
أيوب النبي
فارتر
مثلث
صار معي مربعا مغلق الجهات
حد الاختناق

ويستمر الشاعر الفياض في إحالاته وإشاراته، إلى معاناة السياب، التي حرمته حتى من أجمل الأماكن التي لها طابع خاص في شعره، فلن يكون في وسعه إلا آهات الحسرة والاعتذار، فلا هو قادر على رسم خطاه على عشار البصرة، ولا هو قادر على ترويض حرف القصيدة، فكيف له ذلك؟ وقد نخر المرض جسده النحيل، والفراش المتذمر يشده لطول رقاد، يقول الفياض:

عُذراً شريانَ قصائدي
عشّاري الجّميل
أرسمُكَ على مساحةِ سريري
أمشيكَ كُلَّ يومٍ بلفافةِ تبغٍ من وريد…
رجلاي متعبتان
تحملاني من فراشٍ مُتذمرٍ لطولِ رقاد
تطوفانِ بي
أقفُ متوسّلاً بأنفاس

وأشير في هذه القراءة، إلى أن طول النفس الشعري للشاعر السومري عبد الجبار الفياض، يجبرني على أن اركز على بعض الإشارات التي أعتقدها مهمة في نحت القصيدة من أشعار السياب، واستحضاره لتلك المحطات ذات التأثير في حياته الاجتماعية والسياسية و الإبداعية، إذ لا يمكن الإلمام بتفكيك كل ما ورد من إشارات الشاعر الفياض، فكل مقطع في القصيدة يستوجب دراسة نقدية موسعة لأنه يشكل قصيدة مستقلة بذاتها أيضا لثرائه وغناه الدلالي، خصوصا وأن هذا الشاعر يسير على درب السياب في ذلك المسح الأسطوري والتاريخي والأدبي ولكأني به يطبق مقولة [إليوت] و [ماثيو ارنولد] والتي مفادها: أن الشاعر، يجب أن يكون مطلعا على على تراث خمسة وعشرين قرنا من التراث الشعري الأروبي إضافة إلى تراث أمته، أن يعي أفضل ما كتب من شعر من هوميروس إلى العصر الحاضر!

و هذا يتجلى بالفعل في مقاطع القصيدة، التي يركز فيها على توظيف رموز موحية تختلف من حيث دلالاتها مما هو ديني (إخوة يأكلون على بساطي…. ما حرمه اسرائيل) أو (بينكم من يتكيء على منسأة سليمان النبي) أو أدبي (ألبسوها معطف ماكبث) أو (لم يمر ببابه عروة بن الورد) فكل توظيف من هذه التوظيفات الرمزية، يخلق مسافة فاصلة بين القاريء والنص، تسمح بالقراءة المحللة والمفسرة والمفككة لهذه الشفرات والبحث عن دلالاتها للوقوف على ذلك الكم الهائل من النصوص الغائبة التي تشكل بنية قصيدة الفياض، والتي تختلف من حيث طبيعة المضامين والمحتويات، قصيدته نص مفتوح بمفهوم [إمبرتو إيكو]، ومكتوب بمفهوم [رولان بارث]، يتطلب القراءة المبدعة القادرة على التفكيك والهدم وإعادة البناء، وهذه طبيعة النصوص الإبداعية المتميزة التي لا ترضى بالقراءة الاستهلاكية الضحلة والفقيرة فقارئ نصوص عبد الجبار الفياض ملزم لمعالجة مسألة الغموض، بالتمكن من استيعاب النصوص الغائبة (الإشارات والإحالات) لأن ذلك سيساعده على ضبط غوامض الدلالات، و بدون ذلك سنرقص على صفحة الماء أو نحاول التمسك بتلابيب السراب، فالتكافؤ بين الإبداع والقراءة، مسألة ضرورية لاجتناب التعسف على النصوص وتحميلها ما لا تحتمل!

يقول الفياض :
كلٌّ في بيته
ما عدا المطر
يتجوّلُ في الشوارعِ منفرداً…
وقفوا قبلَ أنْ تحملَهم سيارةٌ مُستأجرة
سائقٌ وصديقان
حفّارُ القبورِ
يتثاءب…
جنازةٌ بائسة
ألم يكنْ لهُ…

(ألم يكن له) متبوعة بنقط حذف…… فيها مسكوت عنه يدمي القلب، وتجف له الدموع، ألم يكن له أهل؟ ألم يكن له عشاق؟ ألم يكن له وطن؟ هو السياب عاش التهميش حيا وعاشه ميتا، جنازة بائسة، سيارة مستأجرة، سائق وصديقان، وحفار قبور يتثاءب، ويلخص مأساته في حفنة حروف، هذا الهرم عاش منبوذا ضائعا بين الأمل والألم من المستشفى الأميري بالكويت إلى مقبرة الحسن البصري، في نفر من المشيعين، وما السياب إلا صورة مصغرة لمعاناة حملة الفكر والإبداع في أوطان لا تعترف لا بالفكر ولا تحترم المبدعين، ولكن هذا لا يخلو من نفاق، يذكرني بمثل شعبي معروف في المغرب يقول:

(الميت عندما يموت تطول رجلاه) أعني بذلك أن السياب الذي عاش مهمشا مأزوما مضطهدا ولم ينج من اتهام بالعمالة ستشيد له التماثيل، وسيحتفى به فيعطى اسمه شارعا أو مدرسة، أو القيام بلقاءات شعرية خجولة هنا وهناك، لا ترقى إلى مستوى هذا الرجل، باعتباره من رواد الحركة الشعرية في الوطن العربي، ويحضرني مثل شعبي مغربي آخر يقول: (أبك علي وأنا حي، فالبكاء على الميت خسارة) يقول عبد الجبار:

سيزارُ بعدَ سنين
يُعطى مدرسة
شارعاً
مذخرَ أدوية
قصاعاً من ثريد
بعضَ زجاجاتٍ من مُعتّق
رُبَما سورةِ الفاتحة!

إن قصيدة (السياب يموت غدا) بقدر ما هي مرثية للسياب ومسح موفق لمحطات حياته المملوءة بالتناقضات بقدر ما هي تعرية لعورة واقع منافق موبوء، يستمد وجوده من النفاق الاجتماعي في أحلك تجلياته، تعيشه كل المجتمعات العربية بدون استثناء، وفي كيفية احتفائها بروادها في مجال الإبداع، وقد وفق الشاعر الكبير عبد الجبار الفياض بذوقه وذائقته الفنية المعهودة، في التعبير عن ذلك في هذه الكنوز والجواهر، التي تلتقي فيها روعة الماضي بالحاضر الإبداعي العربي، لتحلق بنا في سماء الشعر، وتغوص بنا في أعماق إبداع شاعر عاش مقهورا ومات مغبونا، لكن هل ماتت قصيدته؟ هل مات إبداعه؟ لا أعتقد ذلك مادام ترك خلفا من أمثال الشاعر عبد الجبار الفياض.

ذ. صالح هشام / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *