لم تثر رواية مغاربية من الجدل والتحفظ بشأنها والاعتراض، ما أثارته رواية «الماضي البسيط» للروائي المغربي الفرانكفوني إدريس الشرايبي (1926/2007) بل كتب بعض النقاد الغربيين عن الشرايبي المهمش وروايته التي لم تلق ترحيبا في المغرب والعالم العربي، ولا ترجمة واحتفاء من قبل الكتاب والنقاد العرب، شأن كتاب آخرين يكتبون بالفرنسية كالطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي مثلا.
فما سبب هذا الاعتراض والضيق، إلى حد عدم المبالاة المستمرة إلى اليوم؟
الشرايبي المولود في مدينة الجديدة (مازاغان سابقا) عام 1926 لأب من البورجوازية الصغيرة، حيث مكنه وضعه الاجتماعي المترف إلى حد ما من متابعة دراسته الثانوية ونيل البكالوريا، ثم السفر إلى فرنسا للدراسة عام 1947 والاستقرار فيها حتى وفاته عام 2007. كتب الشرايبي روايته الإشكالية «الماضي البسيط» عام 1954، في وقت نفت فيه سلطات الحماية الملك محمد الخامس، واشتد النضال المغربي مطالبا بالاستقلال، وكأن الرواية جاءت في توقيت غير مناسب، فقد نظر إليها على أنها سيرة ذاتية وهاجمها المثقفون والنقاد وعامة من قرأها، واتهم كاتبها بالعمالة والخيانة الوطنية، والإساءة إلى الوطن ومقدساته، وتمجيد المستعمر، ما حدا بالكاتب إلى أن يكتب رسالة اعتذار نشرها في الصحافة يعتذر عن سوء الفهم ويعلن عن ولائه للوطن. فهل كان توقيت نشر الرواية هو وحده الذي أساء إليها وحرمها من الذيوع والترجمة والاحتفاء، وكان سببا في مهاجمة كاتبها ومنع نشرها وترجمتها وحصارها، الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم؟ بغض النظر عن الرؤية الفنية والحمولة الأيديولوجية وتقنيات الكتابة الروائية المستخدمة في هذا العمل؟
إن ما تطرحه هذه الرواية الإشكالية من مضامين فكرية هو ما طرحته أعمال فكرية وفنية نفسها لكتاب وروائيين عرب كبار، منذ القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، أي بداية الالتقاء بين الشرق والغرب، الهوية والاختلاف، الأنا والـ(هو) المثاقفة، التقدم والتخلف.. هذه الهواجس التي نجدها متمثلة جليا في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة رافع الطهطاوي و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس تمثيلا لا حصرا. فما الذي جعل هذه الأعمال، سواء أكانت تاريخية وصفية وتحليلية، أم سردية، تتلقى القبول والترحيب والاهتمام من قبل الناشر والناقد والقارئ، في حين كان مصير رواية «الماضي البسيط» الشجب والاعتراض، والمنع والإهمال والتناسي مع أنها تندرج من حيث الطروحات الفكرية في السياق نفسه؟
تتطرق الرواية إلى قصة مراهق مغربي وعائلته في الأربعينيات زمن الحرب الكبرى في مدينة الجديدة، فالأب من الموسرين يشتغل في تجارة الشاي بالجملة، يتسم في معاملته لزوجته وأولاده بالمحافظة الشكلية والاستبداد في الوقت ذاته، لكن هذا لا يمنعه من أن يختلس المتعة وأن ينفق على لذاته، ويسميه الكاتب على لسان أحد أولاده (السيد) والأم مخلصة طيعة لينة منحدرة من فاس، تخلص في تربية أبنائها وطاعة زوجها، وقد انتهى بها المطاف إلى الانتحار مدفوعة بتصرفات زوجها وقهره لها، ثم الأولاد، الصغير (حميد) قتله والده وزورت شهادة على أنه مات بمرض معد، هربا من المتابعة، ثم دفن، أما البطل (إدريس) فهو المشاكس والمعترض على والده، الكاره للشرق، كما يقول، المنبهر بالغرب وقد صمم على أن يختط لنفسه طريقا غير التي يريدها له والده، فقد طلب العلم وعب من الثقافة الغربية، واختلط بالفرنسيين الذين كانوا يعيشون في المغرب زمن الحماية الفرنسية على المغرب، ثم الحرب الكونية الثانية، وتنتهي الرواية بنجاح الولد إدريس وسفره إلى فرنسا للدراسة.
لطالما نظر إلى هذه الرواية على أنها سيرة ذاتية للتشابه، إلى حد التطابق بين البطل (إدريس) في الرواية وحياة الكاتب ذاته، وإن كان إدريس الشرايبي ظل ينفي ذلك، لكن هذا لا ينفي وجود تقاطعات مع حياة الكاتب بل تقاطعات كبيرة جدا. فمن ناحية الرؤية الفنية والتقنية الروائية المستخدمة في هذه الرواية، يمكن القول بجزم كبير، إن الكاتب مارس فعليا الحداثة الروائية، فلم يكتب رواية تندرج في سياق الكتابة الإثنوغرافية التي ولع بها مجايلوه في شمال افريقيا عامة، وكان لهم عذرهم، فهم يناضلون بالكلمة خاصة في الجزائر، بل تصدى الكاتب إلى تعرية الذات وجلدها في الوقت ذاته، فالتخلف ليس نتيجة للآخر المستعمر، بل هما معا نتيجة لثقل التاريخ وسلبية الثقافة الشرقية بعاداتها، وحتى دينها ونظرتها المتخلفة للإنسان والعالم، وهي نظرة تاريخية فقدت مبرر استمرارها أمام الثورة العلمية والصناعية، وجدارة الإنسان وحده في تقرير مصيره ورسم خريطة طريق لحياته ومصيره.
وقد وظف الكاتب لأول مرة في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، أسلوبا روائيا جديدا مستلهما مدرسة فوكنر الأمريكية تقوم على تشظي الزمن السردي، وتقاطع محكيات متعددة على طريقة خاصة في وصف الشخصيات والأمكنة. وعادة ما يقدم الشرايبي إلى القراء على أنه الأديب المشاكس أو الساخر، ففي كتاباته تمتزج السخرية بالجد، وروح المجازفة في ارتياد آفاق بكر، مفضلا تقديم وجهات نظره الخاصة واختياراته الفنية ورؤيته الفنية والجمالية، والاحتكام إلى حمولة فكرية وأيديولوجية، حتى إن سخط الساخطون واعترض المعترضون، رافضا أن يجعل من قلمه قلما إثنوغرافيا مفخما الـ(نحن) مشيدا باختلافها وتمايزها في مواجهة الآخر المستعمر.
هناك تشابه كبير لا يغفله القارئ والناقد على السوية، في رصد أجواء البؤس والتردي في الفقر، والخصاصة والانحراف والجريمة، وعالم الهامش والمسوخ البشرية، كما رصدتها روايتا «الخبز الحافي» و«الشطار» لمحمد شكري، بل إن العلاقة التي تؤطر صلة الأب بزوجته والأولاد، وهي العلاقة الرأسية والموسومة بثنائيات الكبير والصغير، السيد والعبد، هي نفسها التي تقدمها أحداث ثلاثية نجيب محفوظ عبر شخصية أحمد عبد الجواد (سي السيد) كما تدعوه زوجته آمنة والأولاد. وكثيرا ما يتهم النقاد العرب والمثقفون بالعربية، على أنهم لبسوا جلد النمر لهذه الرواية، وأنهم رأوا فيها إساءة للتقاليد وللثقافة العربية الإسلامية وللتاريخ المغربي، وهو رأي لا تنقض وجاهته، ليس لأن الرواية مكتوبة بالفرنسية فقط على خلفية الصراع بين من يكتب بالعربية ومن يكتب بالفرنسية. إن الذي كان ينقص إدريس الشرايبي في ذلك الوقت هو النضج الفكري، فقد كتب الرواية عام 1954 أي أنه كان دون الثلاثين، والتصدي لطرح إشكالية الـ(نحن) والـ(هو) والتخلف والتقدم والصراع الحضاري وثقل التاريخ، بمثل تلك السطحية والتعجل والأحكام المبسترة العاطفية، وغياب النظرة المتبصرة والثقافة العميقة، هو الذي جعل هذه الرواية في مأزق وفي حالة انعدام وزن بتعبير علماء الفيزياء، لقد قرأ الشرايبي مقولة كبلنغ (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا) فلم لا يصير الشرق غربا وينتهي الإشكال؟ وشيء آخر من إشكاليات هذه الرواية، والسؤال الذي يفرض نفسه علينا، هل تؤثر الأخطاء العلمية والفكرية والتاريخية في مضمون العمل الفني وقيمته، أم يمكن التغاضي عنها لصالح التكنيك الروائي وجماليات الكتابة والموقف الأيديولوجي فقط؟ ومن أمثلة ذلك في هذه الرواية الاستشهاد بأحاديث نبوية على أنها آيات قرآنية والعكس، كأن يقول سورة العرش وهو يقصد آية الكرسي وتسمية حفظ القرآن في الكتاتيب دروسا، ما يضر بمصداقية النص ويتحدث عن قرب رؤية هلال رجب، وهو يقصد هلال شوال وعيد الفطر وكثير من مثل هذا، مما هو مبثوث في الرواية، وهو يعكس ضحالة الثقافة العربية والإسلامية عند الكاتب، ما لا يؤهله للتصدي لإشكاليات حضارية كبيرة كالتقدم والتخلف والأصالة والحداثة ودور الدين في المشروع الحضاري وهلم جرا. فضلا عن جمل نارية ما كان الذوق المغربي والعربي يستسيغها في ذلك الوقت، وربما إلى اليوم كذلك وهي عبارات زادت في حدة الرفض ودرجة المنع مثل (راعي قريش) وهو يقصد النبي محمد، ومثل هذه العبارة (هناك شبه بيني وبين هؤلاء الجياع، كلانا مرتهن هم بثلاثة عشر قرنا من الإسلام وأنا بالسيد الذي يمثل الإسلام) وكقوله على لسان البطل (أما زلتم جميعا على وضوء؟ -وكان جالسا إلى يساره- لنقم ببعض الشقلبات) وهو يقصد الصلاة. هذا غيض من فيض العبارات النارية والكلمات المتحدية للوجدان المغربي، واختياراته الفكرية وقناعاته الروحية.
ومهما وجه من نقد إلى هذه الرواية الصادمة والإشكالية من ناحية الرؤية الفنية والاختيارات الجمالية والحمولة الأيديولوجية، فهي أسلوب جديد في ذلك الوقت في الكتابة الروائية، لا تكتفي بتوصيف البلد والتاريخ والإنسان والإلحاح على التمايز والاختلاف، بل تتعمق الواقع مستخرجة بثوره وأورامه بتقنية جديدة متأثرة بفوكنر، ومقتبسة عن فرويد وعلم النفس التحليلي في التركيز على التداعي والحلم واللاشعور.
ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر
عن القدس العربي