قراءة لنص: الغرق على اليابسة للقاص والروائي الأستاذ سامر أنور الشمالي /بقلم: ذة. زينب الحسيني / لبنان


النص:
رأيت جموعاً غفيرة من الناس تزدحم على باب السينما، بحثت عن ملصق الفيلم، فرأيت صورة كبيرة ملوَّنة تمثل سفينة ضخمة تغرق في عرض البحر، وقرأت اسم الفيلم المكتوب باللون الأزرق المتموِّج (إنهم يغرقون الآن).
فقرَّرت مشاهدة الفيلم رغم أنني لم أسمع عنه سابقاً.
إلا أن الجموع الكثيرة تؤكد أن له شهرة واسعة، وهذا يعني أنه يستحق المشاهدة..
تقدمت إلى بائع البطاقات، واشتريت بطاقة، ثم دخلت الصالة الكبيرة، وبحثت عن رقم المقعد، حتى عثرت عليه بصعوبة من شدة الزحام، وجلست مسترخياً، منتظراً بدء الفيلم، ولم يطل انتظاري وسرعان ما أطفئت الأضواء.
بدأ الفيلم..
مشهد يعرض، بحراً هائجاً تحت سماء متلبِّدة بغيوم رمادية داكنة أخفت النجوم وأخذت تحجب القمر وهي ترسل بمطر يشتد غزارة، ثم تظهر من البعيد سفينة تمخر عباب الأمواج المتلاطمة…
وسرعان ما تهب عاصفة هوجاء، وينفجر هزيم الرعد، فتثور الأمواج الهادرة عالياً، فتتأرجح السفينة على ضخامتها، وتتمزق الأشرعة،
وتتكسر الصواري، فيتدفق الماء إلى جوف السفينة المترنحة، التي بدأت أضواؤها تنطفئ تباعاً، فيسود الاضطراب بين ركابها وتعم الفوضى.
بدأت أشعر أن قدميَّ مغموسة بالماء، فظننت أن هذا الشعور ناتج عن تأثري الشديد بالفيلم -المشغوف بمتابعته-
وتجاهلت مشاعر البلل، وحاولت الانصراف كلياً لمتابعة الفيلم الشيق.
فجأة هتف صوت أجش، انطلق من آخر الصالة، طغى على أصوات الفيلم،
-الماء في كل مكان في الصالة!
أعقبه صوت نسائي، من الجهة المقابلة:
-هل نحن أيضاً سنغرق؟
فتصاعدت أصوات لغط مع ضحكات متداخلة، من كل مكان في الصالة.
حتى صرخ أحدهم بجدية فرضت نفسها على الجميع:
-أتكلم جادا…! انظروا مكان وقوفكم جيداً.
وأكد آخر بصوت واثقٍ:
-لنسرع في الخروج من هنا. أضاف أكثر من صوت.
فاندفع الناس بفوضى يريدون الخروج من باب الصالة، وهم يتدافعون بالمناكب، ويتبادلون كلمات غير مفهومة،
ووقع الكثير منهم تحت الأقدام، وأصيب بعضهم برضوض وكدمات مؤلمة عبروا عنها بآهاتهم، ونزف من أنوفهم وأفواههم. وبعد ساعات طويلة من الفوضى باءت كل محاولاتهم لفتح الباب بالفشل، فتداعوا على الكراسي الموزعة بصفوف متناسقة، ولكن ليس لمتابعة الفيلم، بل للتعبير عن الذعر الغريب:


-الأبواب مقفلة بإحكام!
-لنحاول البحث عن مخرج غير الأبواب.
-هل توجد نوافذ؟
-أو فتحات للتهوية؟
-يجب أن نحمل بعضنا على أكتاف بعض ونحاول الخروج بأي طريقة.
وتتالت الأصوات المؤكدة:
-هيا.. هيا..
فتسلقوا على أكتاف بعضهم، وتساقطوا تباعاً.
وعندما أنهكت أجسادهم، تهالكوا على الكراسي، يلهثون من شدة الإعياء.
حتى قال أحدهم قاطعاً الصَّمت المخيف:
-لنحاول تكسير الجدران.
-طالما لم نقدر على تكسير الأبواب، فكيف سنحطم الجدران؟
اعترض شخص ما.
فرد عليه آخر وجد الاقتراح مناسباً:
-سنخلع الكراسي ونضرب بها الجدران والأبواب، أيضاً.. علنا نحدث ثغرة ولو صغيرة لنخرج منها جميعاً.
-أجل.. أجل..
تصاعدت الأصوات المؤيدة للفكرة التي جعلت النشاط يدب بينهم.
فخلعوا جميع الكراسي، وكسروها على الأبواب والجدران، دونما فائدة ترجى، وخارت قواهم، ولكنهم لم يستطيعوا أخذ قسط من الراحة
بالجلوس على الكراسي، لأنهم حطموها كلها قبل قليل. ولم يقدروا على الجلوس على أرضية الصالة لارتفاع منسوب الماء الذي يغمر رأس الجالس بقليل..
فظلوا وقوفاً يشتمون المجهول، بكل حقد.
حتى قال أحدهم:
الماء يتدفق إلى الصالة دونما توقف!
فسألت امرأة، وهي تبكي بصوت مسموع:
-وإذا استمر الحال على هذا المنوال.. ماذا سيحدث؟
تجاهل الجميع سؤالها، كأنهم على اتفاق مسبق وأنصتوا للقائل:
يجب منع الماء من التدفق ريثما نجد مخرجاً.
وأكد آخر:
-لنبحث عن منبع الماء قبل فوات الأوان.
فانتشر الجميع يبحثون في كل مكان، علهم يعثرون على الثقوب التي ينسكب منها الماء.
وبعد بحث طويل لم يعثروا على أي ثغرة.
-فقال أحدهم بخيبة:
الماء يأتي من مصدر مجهول!
-يأتي من ثقوب أصغر من أن تراه العيون أو تحس به الأيدي.
-الضوء ضئيل أيضاً.
-يجب أن نبحث عن حل آخر
هتف أحدهم بفرح لا يناسب الحالة:
-إذا عرفنا من فعل بنا ذلك.. سنجد الحل بسهولة لم نتوقعها من قبل!
-من المستفيد من إغراقنا؟
-إن كنا نجهله فهو يعرفنا تماماً!
-لا بد من وجود مخطط خبيث من وراء كل ما يحدث.
-حتماً.. فالمصادفة في ظروفنا مستحيلة!
وتداعى الحوار الذي تشابكت تداخلاته بطريقة معقدة، وغير مفهومة للجميع تماماً، حتى قطع أحدهم الحوار بكلمته:
-الشاشة!
فالتفت كل من في الصالة موجهين عيونهم المدهوشة برعب نحو الشاشة التي تعرض مشاهد للسفينة الكبيرة وهي تغرق رويداً رويداً لترسو ببطء في قاع البحر المظلم..
ولكن قطع لحظة المتابعة التي كادت تنسيهم التفكير بقدرهم المجهول، ذلك الصوت ذاته مؤكداً:
-كيف غفلنا عن ذلك حتى الآن؟
فأخذوا يخوضون في الماء راكضين بأقصى سرعة ممكنة، نحو الشاشة التي ما زالت تعرض مشاهد الغرق، مع أصوات هدير الأمواج المتلاطمة،
وأزيز العاصفة الهوجاء، واستغاثات الغرقى التي لن يسمعها أحد، والتي تتجاوب أصداؤها في الصالة مع الأنفاس اللاهثة والأجساد التي تخوض في لجة الماء.
وعندما اقتربوا من الشاشة.. انقطعت أصوات الفيلم، فخيم سكون مريب يبدده صدى غزارة الماء المتدفق إلى الصالة بصوت مسموع بكل وضوح، مع اختفاء صورها الملونة، فساد سواد دامس،
يقطعه نور واهن يخفت تدريجياً من الكلمة الباهتة التي أخذت مساحة الشاشة التي تتصدر الصالة…
(النهاية…!!!)

الموضوع:
السفينة التي تغرق في الفيلم، هي رمز قد يكون لل “الوطن” أو الأمة أو حتى “العالم”
فعالمنا اليوم “يغرق” في مشاكل البطالة والاوبئة القاتلة والحروب المدمِّرة المتوالية بلا نهايات….
الدول العظمى يقتلها “الغرق” في التكالب على اقتسام خيرات العالم وافتعال حروب عبثية بلا نهايات…
والإنسان متروك لمصيره المجهول وقوداً لها أو قرابين تدفعها الشعوب هباءً بلا أثمان.

القراءة:
الحدث:
نبدأ من العتبة الأولى/ العنوان: “الغرق على اليابسة” الجملة مستفزَّة فيها مفارقة، فالغرق غالباً ما يحصل في البحر أو في المحيط، أو في أي مكانٍ مائيٍّ، أما أن يحصل الغرق على “اليابسة” فهنا تكمن الغرابة!
“الغرق على اليابسة” جملة اسمية, المبتدأ فيها معرَّفٌ ب “أل” التعريف، وهذا يعني أنه “غرق” بالمطلق ودون استثناء,
“على اليابسة” جار ومجرور في محل رفع خبر، و”اليابسة” أيضاً معرفة، وهذا أيضاً يدل على غرق جماعي عمومي يطال كل كائن على هذه الأرض…
-نتابع عتبة الاستهلال بشغف بعدما استفزّنا العنوان، ويبدأ الكاتب/ السارد بعرض فيلم الحدث الدرامي “الغرق على اليابسة”
الذي يبدأ بمشهد إيحائي، فنحس من واقعية التوصيف كأننا نشاهد الحدث بأم العين،
“بحرٌ هائجٌ، تحت سماءٍ متلبدة بالغيوم، “تهب عاصفة هوجاء” فتثور الأمواج وتهدر
“تتمزق الاشرعة” و”تتكسر الصواري” وما يحمل “التكسر والتَّشظِّي” من تداعيات مجازية وإسقاطاتٍ واقعية…
في الوقت ذاته، يبدأ تدفق المياه إلى الصالة دون انقطاع، تتزامن مع حوارات تدور… لتصل حدَّ التناقض وأسئلة مقلقة،
محيِّرة وبلا أجوبة.
ينتهي الفيلم على” الشاشة” ويستمر تدفق المياه مؤذناً بغرق أو موت الحاضرين جميعاً..
في الخاتمة يبقى الحدث معلقاً، قيد التكهنات والتساؤلات …
يسير الحدث متصاعداً على مستويين في آن معاً، المستوى التخييلي والمستوى الواقعي، ويحصل بينهما تمازج حقيقي على أرض الواقع، إذ يتزامن صخب الأمواج والأصوات الهادرة على الشاشة مع أصوات الحضور وصراخهم وهلعهم مما يحدث تناغماً حقيقياً في جو القصة العام، ونحسُّ كمتلقّين، أننا في قلب الحدث وأننا معنيُّون بكل ما يحصل، نحس بالحيرة والقلق حدَّ الاختناق بحثاً عن المخارج وخوفاً من الموت المحقق اختناقاً!! وتنتهي القصة، لتبقى معلقة بأسئلة لا تكفُّ عن التوالد وتكهنات
بلا نهاياتٍ ولا إجابات…!

الزمكانية:
المكان هو الصالة ذاتها التي تعرض الفيلم “إنهم يغرقون الآن” في زمن هو زمن عرض الفيلم، لكن هذا الزمن يستمر، لأن القصة لم تنتهِ بانتهاء القفلة.

الشخصيات:
يمثل الكاتب/ السارد الشخصية الرئيسية في القصة، فهو العليم بالحدث منذ البداية حتى النهاية. الحضور في الصالة هم الشخصيات الثانوية التي تعرفنا إليها من خلا ل الحوارات وتعدد الأصوات، وقد اختار الكاتب الأصوات بدل الأسماء، لأن القصة القصيرة لا تسمح بتعدد الشخصيات، فلم يكن بدٌّ من هذه التقنية للتعبير عن تعدُّد الآراء في أرض الواقع مما يعطي القصة غنى وثراء أكبر.

الحبكة:
حبْكة القصة هي الكيفية التي يتصورها الكاتب ليقدم الحدث للمتلقي بتقنيات كأنها حكاية او نسيج، من خلال أدواته الإبداعية الخاصة وقدرته البلاغية والسردية على جذب وتشويق المتلقي.
والحِرفية والإبداع يكمنان في الفكرة التي توارت خلف الموضوع الذي يقصده الكاتب أصلاً، لتعود إلى الظهور في الختام أي في لحظة التنوير أو الانفراج.
حبكة هذه القصة مدهشة، مشغولة بنسيج محكم، وتوصيف يوظف التفصيلات للإيحاء والدلالة على الحدث/ الغرق الذي يحمل
بؤرة النص.

-بؤرة النص/ القفلة:
تكاد تكون بؤرة النص كامنة في “القفلة” التي أرادها الكاتب أن تبقى (مفتوحة) ليشرك “المتلقي”
في طرح تساؤلات وإسقاطات وتداعيات بلا حدود…
وهكذا أقول، إن النصوص أياً كانت، أكانت شعراً أو قصصاً أم روايات أو إلخ.. لا يحكم على نص ما بالإبداع، إلا عندما يحمل في طياته هموم الجماعة، هموم الإنسان في كل مكان، أما أن يبقى النص حبيس ذات الكاتب، فلن يحكم عليه بالإبداع بالمطلق، وسيبقى الإبداع فيه نسبياً..
بعد كل ما عرضنا، سؤال يطرح؟ إلى أي مدى نجح الكاتب من خلال اسلوبه، أن يوصل فكرته الرئيسية أو هدفه من النص، وهل نجحت أدواته ولغته السردية في إيصال ما كان يصبو إليه..
يقول “يوسف إدريس”
“إن القصة القصيرة مثل الرصاصة، تنطلق نحو هدفها مباشرة ولهذا يجب أن يكون العمل متماسكاً في وحدة بسهولة وصدق، ولهذا يجب أن تكون البداية والنهاية والحدث، على درجة عالية من التكثيف والتركيز، وأرقى صور الاختزال وهو الاختزال على مستوى اللغة”

اللغة السردية:
لن أعيد استعراض اللغة من جديد، فقد استعنت بجمل وتعابير تبيِّن جمالية اللغة وبلاغتها ومجازاتها وتلقائيتها، فالكاتب قد نجح تماماً أن يشحننا عاطفياً وينقل إلينا المشهد المستفز المرعب، لذا أحسسنا أننا نشهد تدفق المياه والضوضاء ونحس اننا نسمع الحوارات والعويل، أيضاً أحسسنا صفير الرياح والعواصف الهوجاء، وتبادر إلى ذهننا أننا نسمع تكسر الصواري وتحطم الأشرعة..
وما الفائدة من لغة مشنشلة بالمجازات والاستعارات والخيالات، إن لم يحسن الكاتب أو المبدع توظيفها في خدمة الحدث أو الحبكة، وإن لم يختر من المدلولات والإيحاءات ما يشوق المتلقي، ويحفز أحاسيسه وذاكرته الصورية، كي يصبح جاهزاً لتقبل وفهم الفكرة الرئيسية أو الهدف من القصة كلها؟
في الختام، أهنئ القاص المبدع الأستاذ سامر أنور الشمالي، على هذه القصة الإِبداعية، التي تؤكد أن الأدب الراقي الجميل، والملتزم بهموم الإنسان وقضاياه المصيرية
ما زال بخير.

ذة. زينب الحسيني / لبنان



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *