الأيقونة البيضاء (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


من غرائب الوجود ألا تدع الحياة لآلئها في زاوية واحدة بل إنها تفضل أن توزع أيقوناتها كهدايا تبهج البر والبحر وما حولهما من جبل ونهر وسهل متراجع غفل عن أحد خضر ثناياه واحة تذيب وحشة الفيافي وتلطف حرارة الرمال الحارقة، تلألأ بريق تحار العين بين جهاته.. كتكة السروال البلدي المنسوجة من خيوط صوفية زاهية، انتقت باقتها من حرير قرص الشمس، وانبثاق اخضر أرض ضيقة، يحرسهما سواد رموش.
إلى هذه الألوان في بهاء يشرق بياض عمامة وقشابة/عباءة ابا عدي الحريص على نصاعة بياضهما غسيلا واقتناء يشعر معهما بالصفاء والعزة والبهجة والإقبال على الحياة.. هو رجل مكتنز متوسط القامة على بشرة بيضاء تستحيل زهرة حمراء على وقع المسرة ودكن غمامة الغيض وشارب أسود كنافورة يتوسط ربيع لحية متناسقة لا يتأخر عنها الموس، قليل وعميق وملغز الكلام، يخرج في نظام وبين أترابه يقضي بعض الوقت ترويحا للنفس المتماهية أخذا وردا وهدرا وفكاهة قلما ينبس بكلمة مكتفيا بابتسامة عذبة غامضة، ثم يقفل راجعا في هدوء متأمل إلى بيته، أب لثلاثة أبناء وبنت كالقمر بين النجوم تحميهم من عين الحسود ان شاء الله يعميها عود.
مرضت الزهرة أم الأبناء فتعهدها بلطفه وعنايته مستحضرا يابس صرر الرياحين وبقايا سحابة ماطرة نفضت الغبار وأسعدت الأفئدة وفجرت مكنون الأرض ذات يوم يتغناه رجع الصدى طنينا يهش نباتا خفيف النسمات ندي الألوان عطر الأنفاس، فدق وسحق وغربل وطبخ وعلى مجمر نثر البخور قربانا للأرواح الخفية -ملتمسا المعذرة مسبقا/ بالتسليم-عساها تغادر وتصعد إلى رحابة السماء مع غمضة الدخان ساحبة وإياها كل بلاء وبأس، ليمد مريضته نصف كأس دافئ من مشروب الإبريق الأزرق بعد أن فاحت رائحته الطيبة ثم زليفة حريرة منسمة بعشبتين يأمل الجميع منها الشفاء العاجل.
ولى الضجر والقلق إثر غفوة لذيذة أكسبت الأم بعض الحيوية ورويدا رويدا تتحسن وتسترد عافيتها الجالبة للارتخاء والفرح مانح الوجوه نضارة مليحة، بعد أن طالها اصفرار الهم والغم مكدر صفاء الحياة التي لا تحبذ السير على وثيرة مكرورة.
على غبطة وسرور ورقصة طفولية ماتعة شهد الحوش وقعها وإيقاعها أكدت الأم شفاءها وهي تدندن منسجها وهي تكنس سقم العلة وهي تترنم أهزوجة تقطر روعة وجمالا معهما تناست عذاب الوجع وهوله. وتأبى الاجواء إلا أن تشارك الأهل سرور جلوس الزهرة بين أفراد أسرتها فقرعت طبول الرعد قرعا متواليا عقبه نث قوي سال متدفقا في الواد الزاحف في صمت،
داعيا إلى الحرث محراثا خشبيا كي يسطر حكاية إضافية في كتاب الزمان.. لبضع مرات تفسحت الزهرة وزوجها حقلهما الواعد في إزالة للنباتات الطفيلية، وهما تطلع وشوق إلى الحصاد وفصل الحب عن التبن.. كرة ثانية تلوذ زهرة ابا عدي إلى الفراش طالبة مزيدا من الأغطية ضاربة عن كل ما يسد الرمق وسط ظلمة حالكة خانقة أرخت بثقلها على الصغار المستنجدين بأبيهم الحنون العطوف والملبي لحاجتهم على مدار الليل والنهار، كالمألوف دائما يتجرد الأب والعيال كل حسب جهده في القيام بأعباء البيت من حطب وسقي وغسيل وطبخ واهتمام بالدواجن، لكن هيهات أن يقوم أحد بعمل الزهرة القوية النشيطة التي تقضي سحابة يومها متنقلة كالفراشة داخل البيت وخارجه خدمة لضرورة العيش، هكذا كان صامت كلام ابا عدي يحدث نفسه -راجيا ألا يطول الحال- وهو يرى ما آل إليه واقع بيته.
ضمن فضاء ذي حصى رقيق أسود تتخلله أخرى بيضاء كشموع تضيء استرسال الليل البهيم، متبعثرة أقيمت تباعا البيوت الطينية الواطئة تتهادى كالسكران ذات اليمين وذات اليسار، والتي لا تكتمل إلا بتظافر الجهود المستجيبة لرغبة تقدمتها رغبات لآخرين تأتي عليها الإرادة المتفائلة بإضافة غرفة ثانية وربما ثالثة إلى جانب الأولى تتقاسمن الأثاث البسيط، على نصف ركزة من الألواح في انتظار تتمة تهب البيت متسع حوش يحميه من العيون العابرة، خلال دفء شعاع شتاء قارس، وسماء تخلب البصر بنور فوانيس تسبح سكون ليلة قمراء، غير بعيد عن خرير جدول طويل رقيق نعناعي المرشف على ضفتيه تمرح شجيرات النخيل المشرئبة إلى دموع سماء عصية، عنها استعاضت بتملي ظل يراقص فتوة وشيخوخة الشمس إقبالا وتراجعا كما هو الحال إثناء لعب احيدوس الذي ينطلق بسيطا ليغور اكواخ النفس في رجة تغسل شوائب الدهر أهزوجة فأخرى ثم أخرى لا يبرح سحر كلماتها الأسماع المحفوفة وسيل أغرودات ترج الروح الحريصة على الارتواء من هذا الفرح. مع تماس وكثبان رملية ذهبية ممتدة على مدى الرؤية.
بعد حصاد وافر البيدر ارتأى الزوجان المريحان أن يقلبا صفحة المرض بالمشاركة في العرس الجماعي فرحا بابنهما حمو المكرم من لدن محبيه ثلاث ليال بيضاء تشدو الحب وأحلام الحب.. على نهاية الأسبوع الأول من تواجد العروسة كنف الأسرة، إبان شاي العصر، أعطى ابا عدي العريسين كيس حبوب ودكس تمر وقدرا وإبريقا وشايا وسكرا وزيتا تكفي لبضعة أيام خاتما عمله أمام حملقات عيون الكل ببنت شفة آمرة:
-لا أريد أن أجدكما بعد صلاة المغرب.
كالنار في الهشيم انتشر الحدث في الحي بين مجمع الرجال ولقاءات النساء عند الفرن أو في السعي وراء الربيع، الماء، الحطب، وحار اليافعون متسائلين عن سبب هذا الأمر الغريب لماذا؟ ما الموجب؟ أخذ هذا الواقع كثيرا من الوقت حتى غدا مشترك الالسنة التي لم يتردد بعضها بنعته بالحمق الكبير، كيف لا؟ فالعقلاء يحتضنون أولادهم، وهذا يفتح الباب أمامهم للخروج. خلال الجلسة الظليلة لأمه الحضور وقد استهجنوا الواقعة غير المتناسبة مع خلق حمو المحترم من طرف الكبار والصغار. بنظرة تفيض رقة حالمة تطلع ابا عدي إلى الوجوه المعاتبة وجوارحه تقول: لا أخالفكم الرأي في استقامة حمو، لكن أمره يهمني أنا.. سوف ترون.. ستكشف الأيام من هو على صواب ومن هو على خطأ.
طورا آخر تذبل الزهرة وإلى أعشابه المجربة وغير المجربة يهرع فضلا عن دعوة ابا عدي إكراما لحبيبة قلبه الفقيه قراءة آي من الذكر الحكيم وكتابة حجاب مع تبخرة الى زيارة وليين صالحين.. حتى الموت تدهورت صحة الزهرة التي أتت كل وصفة تختلف قليلا أو كثيرا عن سابقاتها لتترك جانبا كل شيء، وشيئا فشيئا استعادت حيويتها.
في سباق مع الزمان وحتى تكحل الزهرة عينيها بفرح ولدها كمشرفة رفقة زوجها على الترتيبات كان الانضمام إلى العرس الجماعي فزغردت ولعبت أحيدوس ورحبت بالمدعوات وملأت البيت بشاشة لا تريدها ان تنسى.
في غمرة مسرة العرس المعطرة للأجواء، شرعت عيون الفضوليين تترقب ما ستؤول إليه فترة الضيافة والتعارف حيث عرف ضحى يومها الأخير حركة غير مألوفة تجسدت في تهييء النسخة الثانية الموحية بقرب وداع العريسين الجديدين وقد عزل نصيبهما من متاع البيت، ولم يبق معهما إلا الغذاء وشاي العصر وكلمة الخاتمة المحفوظة عن ظهر قلب:
-بعد المغرب لا أريد ان أراكما في الدار.
في حزم وجد يجهلان التهاون كالسهم انطلق ابا عدي إلى حقله وهو حديث العابرين والمجتمعين ثرثرة وضحكا متقهقها يعرض المستجد:
-مرة اخرى يفعلها ابا عدي!.
-ماذا فعل؟
-أخرج العريسين من الدار.
-مسكين، قاسو لهبال ،الله يستر.
بينما يتسع بيت ابا عدي ينشغل المعيبون عمله بإضافة غرفة للعريسين، ثم غرفة فعريسين يضيق المكان بهم توترا وخصاما وضجيجا وبكاء عيال ولف ودوران واتكال وتكاسل يلزم تقويمهما من طرف الأمهات والآباء. وموازة لتقدم الحياة تزداد المشاكل يوما بعد آخر، يشكوا الساخرون من ابا عدي همومهم ومشاكلهم التي لا تنتهي إلا لتسلك منحى مغايرا حتى استحالت البيوت إلى جحيم لا يطاق، بين الفينة والفينة يستمع ابا عدي حكاية مختلفة أو متشابهة عما سلف دون أن يفوه بكلمة مقتصرا بالنظر إليهم واحدا واحدا وكأنه يعاتبهم، ليتكلم أحدهم -راميا في غضب بالعمامة إلى الأرض- بصوت عالي النبرة يود أن يسمعه البعيد قبل القريب وفي نفس الآن تقديم الاعتذار الى جانب الإقرار ببعد النظر وعمقه ليعرج على ما عرفه البيت من انتظار واتكال.. هذه عروس غاضبة تطلب بيت أبيها.. وهذا رجل لا يعرف الصرف.. وعندما تنطفئ عند هذا تشتعل عند غيره.
عاش الرجل عميق النظر مع زوجته في طمأنينة وسعادة لا يزعج استمرارهما تقرب أو تكلف، عليهما يطرق الباب عرفانا ومساعدة وابتسامة مشرقة تتسابق الى راحة العجوزين.
تحت أسماله البالية الرثة ضيفا ثقيلا حط المرض على الزهرة في محاولة لكسر مقاومتها -ولا داعي لحثها على المستشفى- لتسلم الروح ظهر اليوم الثالث وخلفها بيوت مستقلة تتآخى فيما بينها، ليلحق بها حبيبها بعد مدة غير قصيرة التزم خلالها أن يؤنس وحدة بيته شاغلا ذاته بأعداد وجبات اليوم على أن تقوم آخرة العنقود يطو بخبز رغيفه كد يديه وعرق جبينه.

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *