بنية الصورة الشعرية في ديوان “حوريات بِقَدَم الكون” للشاعر المغربي جمال أزراغيد / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب


“حوريات بِقَدَم الكون” للشاعر المغربي جمال أزراغيد

ـ مدخل:

أ ـ بطاقة تعريف: “حوريات بِقَدَم الكون” مجموعة شعرية للشاعر المغربي جمال أزراغيد. صدر عن دار “مقاربات للنشر و الصناعات الثقافية” فاس / المغرب 2018. الكتاب من الحجم المتوسط (80 صفحة)، يتكون فضلا عن أوراقه الخارجية من إهداء و فهرس على 19 نص شعري بين الطول و القِصر. لوحة الغلاف من تصميم الفنان أمين الشرادي.

ب ـ حيثيات منهجية: ـ لماذا اخترنا سؤال “بنية الصورة الشعرية” كمِحْوِر رئيس لقراءة نقدية ممكنة في ديوان “حوريات بِقدَم الكوْن” للشاعر المغربي جمال أزراغيد؟ و ما المقصود ب “الصورة الشعرية”؟

قبل الإجابة، ارتأينا اقتراح قراءة استكشافية أولية لمقطع من نص يحمل نفس العنوان الرئيس للديوان “حوريات بِقدَم الي لكون” (ص. 45)؛ يقول الشاعر جمال أزراغيد فيه:

“ليليت

ما ضمّختْ يدها بالحنّاء

يوم تعاركت النيازك

في قُبّة السماء

باحثة

عن النّجمةِ الأمّ المُخَبّأةِ في أديمِ الليل.

أشعلتِ الأرضَ

تحتَ قدَميها

نارا      

تُحلّق فوقَ نَمَشِ الطريق…

و مَضَتْ تُنَقِّبُ عن فواكه الوجود”.

:”مَسْح” أوّلي للمقروء على المستوى اللغوي يفيد بأن

ـ المفردات المستعملة في المتناول و كثيرة التداول (حناء، نيازك، قبة, سماء، نجمة، ليل، أرض، قدم، طرق، فواكه…)؛

ـ التركيب على مستوى “نحو الجملة” في حدّ ذاته لا يدعو للارتباك و “مأزق التأويل” كَوْنَ الجُمَل الثلاث (رغم بنيتها المركبة بأكثر من “فعل”) تحترم القواعد المعيارية المُتعارف عليها…

لكن، ما سيستفز فضول القارئ دون أدنى شك هو تلك العلاقة “الغريبة” بين مكونات الجمل و المقاطع (“تعاركت النيازك”… “النجمة الأمّ”… “المُخَبّأة في أديم الليل”… “أشعلت الأرض تحت قدميها نارا”… “تنقّب عن فواكه الوجود”…). علاقة “غريبة” يستنتج القارئ من خلالها ابتعاد لغة الشاعر عن الأساليب اليومية المباشرة الصريحة المألوفة حَدّ المفارقة و الغموض: و هو ما يسميه النقاد “الانزياح” (و يكون لغويا و أسلوبيا) باستعمال لغة الايحاء بالمجاز و الرمز، و ما تقتضيه البلاغة من “بيان”، و “بديع”، و “معاني”… أساليب لها مرجعيتها من حيث التعاريف، و أصالتها و فرادتها من حيث الابتكار و الابداع…

لذا يعتقد العديد من النقاد خارج فلك “التيارات البنيوية و الشكلانية”، و منهم ميكائيل ريفاتير بأنّ “دراسة الصّورة الشعريّة أكثر ما تخضع للمنهج الأسلوبيّ، لما له من علاقة وثيقة بالشعريّة…”، و بأن “المبدع يسعى للفت انتباه المُخاطَب، والوسيلة: هي شيفرات تستوجب كشفاً من القارىء.” (و يقصد ما يُسميه هو “القارئ النموذجي).”

فما هي الصورة الشعرية؟ و كيف رسم الشاعر جمال أزراغيد معالمها الظاهرة و الباطنة على طول ربوع ديوانه “حوريات بِقَدَم الكون”؟

سنستأنس هنا بتعريف لعبد القادر القط :الصورة الشعرية بمفهومها الحديث هي“الشكل الفنّيّ الذي تتّخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بيانيّ خاصّ ليعبّر عن جانب من جوانب التجربة الشعريّة الكاملة في القصيدة مستخدمًا طاقات اللغة وإمكانيّاتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع، والحقيقة، والمجاز، والترادف، والتّضاد، والمقابلة، والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفنّيّ…”

ـ كيف رَسَم َ الشاعر جمال أزراغيد معالم الصورة الشعرية الظاهرة و الباطنة على طول ربوع ديوانه “حوريات بِقَدَم الكون”؟

1- تشكيل الصورة الشعرية بالحرف إعلان تَحَقُّق قدر محتوم، ميلاد قصيدة:

فِعلُ الكتابة عند الشاعر جمال ازراغيد يتجاوز معاني الألفاظ و الجمل لِيشْبِه بوسائله و مراميه و تداعياته طقوس الفن التشكيلي التجريدي… ميلاد الصورة الشعرية في تصور الشاعر جمال أزراغيد يشبه “الوحي”؛ هو منذ بدء التكوين مكتوب في مكنون الغيب (واجب كينونة في “سدرة منتهى”)، فَتحدُثُ معجزة “النزول” ليسري الحرف بين أصابع الشاعر، لِيُخضّب الورقة البيضاء بكل ألوانه كما “فراشة”… و كأن عملية الابداع عند الشاعر أزراغيد تُشْبِهُ “المحاكاة” بالمفهوم الأفلاطوني؛ نقرأ في هذا المقطع من قصيدة “معبدُ الحروف” (ص64

“عِمْ مساء

سيّد اللوح المكلّل بالحروف

الهابطة

من سِدْرَة المنتهى

إلى سواحلِ اليَدَينِ

تمضي هائمة…

لامعة…

في شساعة السّوادِ

الألوان تُضَمِّخ سُرْعتَها إلى البياض

كفراشة، وُسْعَ الحياة، تفرش ألوانَها

للقادمين إلى النور…”

2- تشكيل الصورة الشعرية بالحرف كعلامة فارقة من وحي الطبيعة:

كثيرُ الشِّعْرِ ألْهَمتهُ الطبيعة… عناصرُها في مقام الآلهة في الملاحم الكلاسيكية؛ هي “أمّ”ً و ملاذ لشعراء الرومانسية؛ هي “الفوضى” و “النظام” عند السرياليين ؛ هي “الصدفة الطارئة” عند الوجوديين…

عند جمال أزراغيد، تتمظهر الطبيعة على طول الديوان ك “دالات لغوية” مُجَرّدة؛ هي صوّر لا تدركها سوى الحواس الباطنة (“الحس المشترك”، و “الخيال”، و “الوهم”، و “الحافظة”، و المُتَخيّلة… كما جاء في بحث لابن فهد الحلّي). و هنا يكمن الاختلاف بين التشكيل بالأشكال الهندسية و الألوان (كما في الفن التشكيلي)، و التشكيل بالحرف (كما في الفنون التعبيرية مثل الشعر) رغم أن في العديد من الحالات يكون التجريد في كلا الفنين هاجسا واحدا يُعبّر عن مدى غموض الواقع المعيش…

في ديوان “حوريات بِقَدَم الكون” وظف الشاعر “الادراك الرمزي” لعناصر الطبيعة: أي أن المفاهيم يتمّ تمثيلها في ذهن الشاعر عبر رموز من صنع خياله… هي كما الأمكنة صَنَع منها ملكوته، و تربّع على عرشه منفردا و متفرّدا، كما في نص قصيدة “شرنقة الوجود”، هذا مقطع منه (ص. 21 و 22

“أمام النافذة

قبل أن تغمضَ الشمس عينيها في قبة السماء

و تصيرَ خيوطا مضيئة

منها أنْسُجُ شَرْنَقَةً للوجود

مِنْها أخيطُ عالما صغيرا

أسكنُهُ بمعيّة أرواحٍ

أخبِرُها هامسا بصوتٍ حميمٍ

لا شبيهَ لي…!

3- التشكيل بالحرف ك “مؤدَّى الوظيفيّ للصّورة الشعريّة”

كتب الدكتورخليل بيضون “اتّخذت أساليب تشكيل الصورة الشعريّة في الشعر العربيّ الحديث أشكالًا متعدّدة لدى الشعراء، توزّعت بين التقليد، والتجديد، والحسّ، والتّرميز، معتمدين في رسم أبعادها ودلالاتها على الثوابت البلاغيّة من تشبيه، واستعارة، وكناية، وأنواع المجازات الفنّيّة على اختلافها…”

بدل عبارة “الثوابت البلاغية” (كما سماها خليل بيضون، أعلاه)، تبدو لنا مقولة “الإيقاع” أكثر ملاءمة عندما يتعلق الأمر بمقاربة نصوص شعرية…

و الإيقاع نوعان: إيقاع خارجي: و من خلاله نتساءل إن كان الشاعر قد التزم بوزن محدد، و تفعيلات القصيدة، و القافية و الروي… بهذا المعني، لا يعنينا في هذه القراءة في نصوص تمّ تشكيلها خارج نمطية “الشعر العمودي”…

لكن في سياق هذه القراءة، قد تكون مقاربة “الإيقاع الخارجي” آخر هواجسنا لكون نصوص ديوان “حوريات بِقَدَم الكون” للشاعر المغربي جمال أزراغيد تنتمي للشعر الحر و لا علاقة لها بالأوزان التقليدية للشعر العمودي أو شعر التفعيلة ، و ذلك رغم اعتقاد مخالف لبعض النقاد، و من بينهم الدكتور عز الدين إسماعيل الذي يرى ب “أن الإيقاع غير الوزن، وكثيراً ما يتعارض الإيقاع والوزن ؛بحيث يضطر الوزن إلى كثير من التغييرات، “فالإيقاع هو حركة الأصوات الداخلية التي لا ـ ـ الإيقاع الداخلي باعتباره “بنية بلاغية”، و “بنية دلالية”، و “بنية مرئية” (كما جاء على لسان نديم دانيال الوزة).

أ ـ “الايقاع باعتباره بنية بلاغية”:

أ ـ 1 ـ المستوى الصوتي: يوظف الشاعر جمال أزراغيد في العديد من نصوص هذا الديوان تقنية “صدى” الأصوات بتكرار بعض الحروف الصوتية في آخر السطر من النص في وضعية “تقاطع” مع حرف صوتي آخر يتم تكراره… و خلاف ما يعتقده البعض، فكل حرف له دلالة: هو علامة (بالنسبة للسيميولوجيا)، و نوتة ذات معنى (في لغة الموسيقى)، و انفعال (في قاموس علم النفس)، و رمز (كما في المدرسة الرمزية)… نقرأ:

“يدي على يدها

صرخة الهوى في محاجر المدى

تفُضّ غيمة الندى

إذا غدوتُ جنبَها

تَنَبّأتُ بِظِلالِ كُرومِها

على أرضٍ تنبذُ ضدها

في دهشة السّهى.” (المقطع من نص “كُحْلُ الأسرار” (ص35

التكرار جليّ للحرف الصوتي “دى” (في “المدى” و “الندى”) : هو تعبير عن مفارقة تعارُض “صرخة الهوى في محاجر المدى” (سطر 1) مع “أرضٍ تنبذُ ضدها في دهشة السّهى” (آخر سطر)، و كأننا أمام صرخة حبّ تؤرق مضجع شاعر مُغرَم تتبدّدُ في ظلمات النسيان و الانكار، كأننا أمام انهيار علاقة حب بين قافيتين متقاطعتين “الهاء” و “الدال”

أ ـ 2 ـ المستوى الدلالي:

يتذكر المهتمون باللسانيات الحديثة كيف وجه تشومسكي في منتصف القرن الماضي، انتقاداته لنظرية “النحو التوزيعي”: الدراسات النحوية في اعتقاده ـ كما جاء في نظريته (“النحو التوليدي”) ـ لا يمكن أن تقتصر على وصف مُكوِّنات الجُمَل عموديا (من الناحية المورفولوجية) كعناصرمستقلة ذات دلالة خارج السياق، و وصف نفس المكونات أفقيا (من الناحية التركيبية) في إطار شبكة علاقاتها المنطقية الخاضعة للقواعد المعيارية ، دون إخضاعها لشرط “سياق فعل الكلام”. غير أن نظريات النقد الأدبي الحديث لم تكتف في دراساتها للمُتون الشعرية المعاصرة بالأبعاد الدلالية للنصوص من خلال تفكيك تركيب الجُمَل كبُنى نحوية وظيفية، بل ساءلت الإطار المرجعي للانزياحات باعتبارها “إيقاعات داخلية” للنصوص يتدخل خيال الشاعر في ابتكارها و تشكيلها… و من بين الأمثلة: تقنية “التقديم و التأخير”. كإيقاعات داخلية كما وظفها الشاعر أزراغيد عبر ديوانه.

:”عندما نسمع `التقديم والتأخير، نعرف أننا بصدد الحديث في ترتيب عناصر الجملة العربية . والجملة العربية إما فعلية وإما اسمية ، فإذا كانت فعلية فترتيب عناصرها واضح ، والفعل هو المقدم في الترتيب على الأصل . أما إذا كانت اسمية واستوى طرفا التركيب وكانا معرفين معا ، فقد اختلف في أيهما يمكن أن تصدر به الجملة ، وأيهما تجعله خبرا ، فأما النحويون فلم يتعرضوا للتحديد ، بل تركوا للمتكلم الخيار ، وأجازوا أن يكون كل منهما هو المبتدأ والثاني هو الخبر ، ويعربون المقدم مبتدأ والمؤخر خبرا ، ” لكن البلاغيين بحثوا الأمر بحثا فكريا منطقيا دقيقا ، ناظرين إلى حال المخاطب ، وما هو الأعرف لديه من ركني الإسناد اللذين هما من المعارف ” (عبد الكريم دخيسي)…

و من بين لأمثلة على ذلك في ديوان “حوريات بقدم الكون” لجمال أزراغيد:

ـ تقديم الجملة الإسمية لتأثيث فضاء وجداني يشبه الحلم تتحقق فيه “نبوءة” شاعر: نقرأ هذا المقطع من قصيدة “ألوان” (ص. 40

“ألوانٌ بحجمِ رُؤايا

سَمَتْ فوق عروش الأقمار

دَنَتْ منَ الكِيّان

تَرُشّ

حروفه بالندى

علّه يَشِعّ حَماماً

في المدى…”

ـ تقديم “شبه جملة” باعتبارها “جملة ظرفية”:

في مطلع نص “مثوى الظّل” (ص. 27)، تُبرّرُ الجملة “الظرفية” (“بعيدا عن البحر.. أنْثُرُ أوراق ليلي…”)، و هي ظرفية “زمنية” تعرضت لحذف بلاغي ل “وقتَ ما كنتُ” بعيدا عن البحر…، توالي الجُمل الفعلية داخل جملة مركبة طويلة: إذ يتّصل الظرف مباشرةً بحدثُ ثانويّ، تتلوه أحداث رئيسيّة تتمظهر بلاغيا على شكل “مجاز مرسل… نقرأ:

بعيدا عن البحر

أنثُرُ أوراقَ ليلي

على أرصفةٍ

تُلامسُ

خصْرَ الريحِ عشقا

أزرعُ أنغام َ قيثارتي

في جسدٍ

يُخَبّئُ وجهَهُ في عطر الأيَامي

لحظةَ شوقٍ

أستعيرهُ

من فصاحةِ النّار

في مشانقِ الّلسان.

قراءة ممتعة للديوان أتمناها لكم

د. بوزيان موساوي / المغرب