قراءة في “صمت المساءات” للشاعر الحسن أسيف / بقلم: ذة. أمينة نزار / المغرب


“صمت المساءات”
في إيقاعات عشر
بنكهة قهوة.. سمر.. حلم وقوس قزح
*******
الإيقاع الأول
من القلب..
تتبرعم زهور
يتساوى عندها
الغرب والعرب.
هي تعرف أن الألم
يولد من رحم واحد
فيعتمل في النفس
ويكبل الأرواح الفتية.

الإيقاع الثاني
من عقال اللحظات
تخرج الدهشة و الحرقة
تمتد في خيط من الكلمات
فتتوقد المعاني
بين الذهن و الشفتين.

الإيقاع الثالث
العاطفة النبيلة
تستحق التضحية
لابتلاع الهموم
ومحو الشجون.
أول الجرح
انشطار الحلم
بين جدائل البحر
وأعناق البنفسج.

الإيقاع الرابع
في البدء..
كانت الحاجة
حاجتي إليك..
وحاجتك إلي.
حاجتك المؤقتة
وحاجتي الدائمة
قصيدة
من أجل الحياة.

الإيقاع الخامس
في ملامح الأسرار
الفواصل الموسيقية
غريبة.
رغبات قلبي
متناثرة.
لواعجه
ساخنة
تدفع الروح
إلى الحريق..
إلى لعق لهيب الاشتعال.
هو الوهج الذي
يطفئ العطش.

الإيقاع السادس
أول ضوء في رحلة العمر
عناق ..
ريق يٌبلع..
هواء يُستنشق
ملء الرئتين.
دخول عالم
بلا جواز سفر.

الإيقاع السابع
بين وردة ووردة
الجراح..
لا تسببها السكاكين
حين يأتي طيف
يحاصره هواء
ويتأبط هاجس خوف
تحت رائحة سماء
تمطر وتمطر
يصرخ رعد
ويلقي بِبَرَده
عند رِجْل الليل
كحبات رمل.

الإيقاع الثامن
كل الليالي
مغلقة.
تعانق وتفرِّق
عند جداول الايام
المتشحة بالسراب.
المقاهي ..
تقصف بالموسيقى..
بالعناوين البراقة.
الدخان..
الأقداح..
اللغط واللغو..
رجال ونساء
أجساد تجلس
على قارعة الصدفة
باتجاه الآخرين
تهرب من نفسها
لتتعرف على نفوس أخرى
تتقدم الليل والنجوم
والقمر
لتحطم علاقات قائمة
وتعزف على كل وتر
وتنتظر.

الإيقاع التاسع
يمتد الليل..
يذوب..
وينبلج النهار
وما تزال الشفاه
تهدي الدمعات
وجمراتٍ قذِرة
إلى سيد الحلم
وزهرة البنفسج.

الإيقاع العاشر
أيْ أنت..
لست حارسا على أفكاري
قد أكون جرحا جديدا
في قلبك.
لكن صوتك
يأتيني من بعيد
يتقطع..
ثم يمتقع..
فينفلت عقال اللسان.
الحرارة حاضرة
والنار مشتعلة
تأكل قصائد محفورة
على جذوع أشجار
لتدفع بالحنان الى الظهور
وتخلصه من الاغتراب
لينطلق من جديد
في صحة و عافية
بين هدير كائنات
ورموز أشيــــــــاء.
*******

تقديم:
يعتبر العنوان أو مايصطلح عليه ب”العتبة” مدخل النص ومفتاحه وكلما اختير بعناية إلا وكان أكثر تعبيرا عن فكرة النص ومضمونه.. و”صمت المساءات” مثل كل العتبات، تفرض علينا التوقف عند هاتين المفردتين “صمت” و “مساءات” ومحاولة استقراء خلفياتهما.
هما كلمتان متداولتان ولاغرابة فيهما، وهما على بساطتهما تخفيان أكثر مما تظهران، والكاتب لم يخترهما اعتباطا بل لغرض في نفسه، ولأنه يريد من خلالهما إيصال مايعج به فكره ونفسه من أفكار وانفعالات قوية تعجز الكلمات والحروف عن إيصالها، فيصبح الصمت بهيبته وسلطته وبلاغته أكثر قدرة على تحقيق الهدف..
أما “المساءات” فهي الإطار الزمني الذي اختاره الكاتب لإيقاعاته العشرة، و في المفاهيم المتعارف عليها، المساء هو الفترة الانتقالية بين النهار والليل، وهوعادة يكون لمراجعة الحصيلة اليومية من المنجزات وتقييمها وتحديد المؤجل منها إلى اليوم الموالي.. وكونها بصيغة الجمع تعني أن هناك تراكمات لعدة مساءات تعتمل في نفس الكاتب، حمولة ثقيلة جاء الوقت لتفريغها على الورق.
ومن خلال الخلفية التي اختارها، يظهر أنه حضر كل الأجواء لتقويم حصيلته و هيأ الطقوس اللازمة لتدوين هذه الحصيلة: قهوة لضبط المزاج، سمر مع الذات لأن وجود الآخر لايخدم عملية الكتابة، رذاذ مطريوحي بالشاعرية والحلم الذي هو النفس الذي ينفخ الروح في الحرف فيعطيه معناه، وهذا الحلم جاء بكل ألوان الطيف “قوس قزح”.. والألوان بكل أنواعها ودلالاتها مستمدة من الطبيعة، و هي في عمقها تعني الحياة.. والكاتب عاشق للألوان والحياة، يتميز بحس فني مرهف، ويوظف الألوان في الصورة لخدمة الكلمة والحرف.

عرض:
من خلال قراءة الإيقاعات العشرة ل “صمت المساءات” يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
*يبدو من الانطباع الأولي أن النص يفتقد لوحدة الموضوع حيث يشكل كل إيقاع وحدة مستقلة بذاتها، لكن إذا تأملناه بعمق سنجد أن هناك خيطا ناظما بين هذه الإيقاعات وهو الحس الإنساني في مفهومه الكوني الشامل الذي يوحد بينها، ويجعلها تنصهر في منظومة قيمية آمن بها الشاعر وتشبع بها، وانعكست في كتاباته أكثر من مرة “تتبرعم زهور يتساوى عندها الغرب والعرب…”/ الإيقاع الأول..
*يتصاعد الإيقاع حينا وينخفض حينا آخر حسب طبيعة الفكرة والشعور المراد تبليغهما للقارئ… إذ ترتفع حدته كلما خاطب العقل، ويصير أكثر ليونة ورقة كلما انبعث من العاطفة وتوجه إليها.. فتصبح هذه الإيقاعات بأبعاد متعددة:
-بعد فكري: يتتبع فيه الشاعر مسار الفكرة والمسافة التي تقطعها بين الذهن والشفتين لتصير خطابا يولد المعنى: “من عقال اللحظات/ تخرج الدهشة والحرقة/ تمتد في خيط من الكلمات…”/ الإيقاع الثاني… وهنا كما أشرت تصير المفردات أكثر قوة وحرارة مقارنة بسابقتها في الإيقاع الأول .
-بعد وجداني روحي: وهنا لابد من التوقف عند “كلمات/ مفاتيح” نستشف من خلالها رهافة حس الشاعر ورقة مشاعره، فهو كما تتبع ولادة الأفكار يرصد ولادة الأحاسيس ويحدد منبعها ومآلها:
“•من القلب تتبرعم زهور..”، يوحدها الألم الذي يعتمل في النفس ويكبل الأرواح ويحد من انطلاقها وحريتها، لاتمييز في ذلك بين إنسان وآخر مهما كان انتماؤه، و العاطفة النبيلة تستحق التضحية لحاجتنا إليها فهي التي تستوعب آلامنا وشجوننا…
• الحلم: هو تأشيرة مرور نحو الحياة، بل هو دليل حياة لأن الموتى لايحلمون، وعندما ينشطر الحلم تبدأ الجراح، ليس الجروح بمفهومها العضوي بل جراح لاتسببها السكاكين، جراح بمعناها النفسي والروحي والتي يصعب بل يتعذر أحيانا تضميدها وعلاجها… وضحاياها “جدائل البحر” و “أعناق البنفسج” وهي تعبيرات رمزية، “أنسنة لأشياء” بهدف تبليغ رسائل إلى من يعنيهم الأمر.
•الحاجة: والمقصود هنا الحاجة المعنوية التي تتولد عند شخصين في علاقة جدلية، حاجة كل واحد إلى الآخر، ضرورة حيوية تبدأ مؤقتة لتتحول إلى دائمة من خلال تماه، حلول وتوحد… فتصبح “قصيدة”، نسغ روح ومبرر حياة…
•الفواصل، الرغبات، الاحتراق.. ذلك الوهج الذي يؤدي إلى انصهار الأرواح و تطهيرها من كل الشوائب..
•عناق أو لقاء بالمعنيين المادي والمعنوي، وتأملات في رحلة عمر تبدأ بشهقة وجرعة هواء تسافر بك في عالم مفتوح دون جواز ولاتأشيرة مرور …
ونجد امتدادا لهذا البعد الوجداني داخل كل الإيقاعات تقريبا.
-البعد الاجتماعي: ويحدد له المقاهي كمكان، والليالي المغلقة -التي تنهي المساءات- والممتدة حتى الصباح، كوعاء زمني لتفاعل كل هذه المشاعر الإنسانية المتناقضة “تعانق وتفرق… تقصف بالموسيقى الصاخبة، بالعناوين البراقة… اللغط واللغو…. “خليط من الأشياء والكائنات تؤثث هذه الفضاءات التي خلقت أساسا للاستهلاك المادي والمعنوي، علاقات مشبوهة لمنبوذين لفظهم المجتمع، يحاولون ترميم ذواتهم المتهالكة المهترئة التي أفسدها الزمن ورواسب المجتمع على حساب آخرين، أجساد تحترف التدمير والانتظار..” وماتزال الشفاه/ تهدي الدمعات/ وجمرات قذرة/ إلى سيد الحلم وزهرة البنفسج.” ويالها من هدايا!!؟؟؟/ الإيقاع التاسع.
وإلى جانب رفض الشاعر لهذه السلوكات المشينة يعبر عن رفضه لوصاية الآخروحجره على أفكاره ومشاعره بدوافع الاختلاف أو الحقد والكراهية أو دوافع أخرى…
وهنا -وليسمح لي الأستاذ أسيف- سأكسر “صمت المساءات” التي لم تكن صامتة أبدا، لأسائل معه -وبأعلى الصوت- الضمير المستتر أو الغائب فينا:
لم الصمت حين يمكن الكلام؟؟ لم كل هذا العنف وهذه البشاعة؟؟ لم يقتلون كل شىء جميل فينا؟؟ يئدون الحلم ويصادرون الفكرة، يفرضون علينا رقابة جزئية أو كلية ماهي إلا إعادة إنتاج لرقابة أكبر وأعلى، أكثر تسلطا وتحكما.. لم التجريح وإحداث أعطاب بالروح يستحيل لملمتها وعلاجها؟ لم التأويل؟ يسقطون علينا تفاهاتهم واختلالاتهم النفسية لمجرد التلذذ بسادية مرضية عجزوا عن تصريفها بشكل سليم خدمة لأنفسهم وللمجتمع….؟؟؟ والأسئلة تتناسل..
والجميل أن يختم الكاتب إيقاعاته بنبرة تفاؤل، إذ يؤمن بأن الحب أوالمحبة كما يسميها جبران، في مفهومها الإنساني الواسع هي البديل.. و هذه الحصيلة السلبية التي رصدها في صمت مساءاته “تدفع بالحنان إلى الظهور/ وتخلصه من الاغتراب لينطلق من جديد في صحة وعافية بين هدير وكائنات وأشياء”./ الإيقاع العاشر.

خاتمة
تأملات أسيفية عميقة في الذات وفي الآخر، تتأرجح بين الخاطرة والقصيدة برمزية محببة تحترم ذكاء القارئ وتترك له هامشا للقراءة والفهم والتأويل، تمتح من فلسفة حياة، من كاتب متمرس يرصد أعطاب المجتمع بعمق في الرؤية وتمكن من أدوات الاشتغال.. فأعطت إبداعا جميلا في مبناه، راق في معناه… أتمنى أن أكون قد وفقت في فك بعض شفراته لتقريبه من القارئ العادي،
تحيتي وتقديري أخي أسيف.

ذة. أمينة نزار / المغرب