إدغار موران: نحو مزيد من التعقيد نحو عقلانية مركبة / بقلم: ذ. فؤاد لعناني / المغرب


لعلها الهاوية، ذلك العمق السحيق الذي يتكبد فيه الأفراد مرارة السقوط دون أن يدروا حجم المسافة التي تقع بينهم وبين قشرة الأرض. إنه قدر سيزيفي مؤلم وعبثي في نفس الوقت. قدر ليس بريئا بالمرة بما أن إنسان الحداثة رفع شعار تحدي العلم للطبيعة  وتحدي الفلسفة للدين. ولعل هذه المكابدة التي عاشها الغرب في نسخته الأنوارية لتجد ظلتها عند مفكر وعالم اجتماع معاصر كادغار موران حيث يصرح هذا الأخير أن بداية الحداثة من وجهة نظره لا تحتوي على تاريخ محدد للانطلاق حيث نجد أن الأحداث القديمة مثلا ساهمت بشكل كبير في حدوث هذه الرجة التي عرفتها المجتمعات الغربية. يقول موران في هذا الباب “إن تكون الأزمنة الحديثة تبتدئ بسقوط آخر إمبراطورية في العصور القديمة، وهي الإمبراطورية البيزنطية في سنة 1453 أو سقوط القسطنطينية.

وبعدها ما كنا نسميه استيعاديا بالعصور الوسطى، التي رسخت فكرتها في القرن التاسع عشر، كان الانبجاس التاريخي الذي حدث ابتداء من القرن السادس عشر والذي يشكل الأزمنة الحديثة. فليس هنالك تاريخ معلوم لميلاد هذه الأزمنة، فهل هي 1453 أو 1455، مع اختراع المطبعة على يد غوتنبرغ، أم 1492 مع اكتشاف أمريكا على يد كولومب، أم هي 1520 عندما أثبت كوبرنيك أن الأرض ليست هي مركز العالم…” (1) ولعل هذا اعتراف ضمني بأن أزمنة الحداثة متداخلة ومتعارضة في نفس الوقت. فالحداثة لا ترتبط بموعد محدد وتفصيلي كما أنها ليست حداثة انتقائية تقدم لنا درسا تاريخيا جاهزا بل هي حداثة تقوم على حوارية الدين والعقل والإيمان والشك. إنها حوارية مثمرة وعجيبة حيث نلاحظ أن فيلسوفا كباسكال قد أدخل الشك في الإيمان من خلال ذلك الرهان الشهير الذي قام به بين الإيمان بوجود الله وعدم الإيمان بوجوده، والذي خلص إلى أن الإيمان بوجود الله هو الخيار الرابح، لكن يظهر أن خصيصة الشك هنا قد اشتغلت على حدث فاعل وأساسي وهو استثمار العقل في إثبات وجود الله، حيث لم يعد هناك برهان مطلق على وجوده كما كان سابقا. معطى ثاني يمكن الحديث عنه هو ذاك الحس التاريخي الموسوم بماركسية أرضية تنشد موعدا لخلاص الإنسان البروليتاري من كنف النظام الرأسمالي الجشع. فالشيوعية هنا لم تتجاهل الدين بل كانت تستبطنه فجعلته يقينا يستثمر ماديته العلمية عن طريق مراحل لتفسير وجود الإنسان على وجه البسيطة.

إنه تداخل عجيب وتصور معقد ومركب للصيرورة التاريخية. فموران يرفض أن يكون الماضي والحاضر معلومان أو أن عوامل التطور الخطية تمكننا من التنبؤ بالمستقبل. بل ما يقتضي العمل به هو أننا في خضم تاريخ، لكن هذا التاريخ ليس جدليا أو جدليا مقلوبا في صيغته الماركسية. بل إنه عملية تفاعلية وتبادلية، عملية تأثير وتأثر بين الماضي والحاضر والمستقبل في حركة أزلية تتخلى عن كل تكهن يقيني بالقادم.

يتحدث موران أيضا عن ثلاثة أساطير كبرى شهدتها حقبة الحداثة حيث نجد: أسطورة التحكم في الكون التي قال بها كل من ديكارت بوفون وماركس… وأسطورة التقدم والضرورة التاريخية التي باتت تفرض نفسها مع كوندرسيه، وثالثة هذه الأساطير هي أسطورة السعادة. وقد قال سان جوست : ( إن السعادة فكرة جديدة على أوربا) ثم صارت الثقافة التي نشرتها وسائل الإعلام في الفترة الممتدة من القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن العشرين تشيع أسطورة تقول إن السعادة قد باتت في متناول الأفراد في حضارتنا المعاصرة .” (2)

إن سردية الحداثة لتقدم لنا وجهين مختلفين. فرغم حاجتنا إليها كنظرية تجعل من الإنسان كائنا مفكرا وتاريخيا يسهم في تطور العلوم والمعارف والموسوعات التي أنتجها، إلا أن تطور هذه العلوم التي بدأت تنفرد بمبدأي الاختزال ( اختزال المعرفة كمجموع في أجزاء) و الفصل ( فصل المعارف عن بعضها البعض مما جعلها أكثر انغلاقا)  نتج عنه من وراء هذه الكواليس الخفية آليات تحكمية، أفرزتها ماهية التقنية كما يقول بذلك هايدغر. إنها حداثة تختص بشيء وهو تطوير قدرة هائلة على الموت عن طريق السباق نحو التسلح وخلق بؤرات ومحيطات لرمي مخلفات هذا الكائن البشري الذي يدعي سيادته على الطبيعة. “إن الحداثة حسب موران لتنتج نقيضها وتكبته في ان واحد.” (3)

1- حداثة منطلقة:

يصف موران هذا النوع من الحداثة بأنه حداثة تعبر عن نوع من أزمة الأسس على حد تعبير نيتشه. فالاعتقاد الأصيل بأن العلم الذي تحول إلى تقنية والاقتصاد الذي كرسه الربح سيوفر لنا سبلا للرفاه والمزيد من ضمان فرص عيش أفضل كان مجرد أسطورة تعبر عن أزمة إنسان سلم مصيره le destin  لمنطق علمي عقيم يتنبأ بالمستقبل و لتقدم تقني آلي جر عليه كوارث كوكبية عويصة. ولعلنا نشهد على هذا من خلال حركية المجتمع الصناعي الذي تحول عماله إلى مضخة تصنع أسبابا للحياة كما أنها تكتب وصية لموتها المرعب. ” إن مجموع المجتمع قد أخضع لمنطق الآلة الاصطناعيةـ القائمة على العقلنة وعلى التوقيت المفرط للزمن، مما أدى إلى رد فعل يتجلى في الميل إلى التهالك على الملاهي والاستغراق في العطل.” (4)

ولعل نقد هذا المجتمع الصناعي الاضطهادي كما يسميه هاربرت ماركيوز قد وجد ظلته في ما يسميه هو بالعقل الأداتي الذي ينتج عقلانية منتجة وشاملة ومبررة يستحيل معها تصور الوسائل الكفيلة لتحطيمها.

يعترف موران أنه لابد لهذا النقد الذي ينهجه أن لا يتتبع فكر الصيرورات التاريخية التي تجعل من الأرقام والتواريخ سبيلا لفهم الحداثة. فالحداثة نوع من الغرق المستمر في فهمها. إنها صيرورة زوبعية وتكرارية يشترك كل عنصر من عناصرها في صنع العناصر الأخرى. “فالحداثة تنتج مسوخا كما تنتج عجائب. والسؤال كله يكمن في معرفة هل المسوخ هي التي ستقضي على العجائب، أم العجائب هي التي ستقضي على المسوخ.”(5) 

2- عقلانية مركبة :

ضمن هذه السياقات التاريخية والعلمية التي جعلت من الأنوار مشعلا تعلق على ألواحه إيجابياتنا فقد وجب القول بضرورة فحص اندحارتنا الدوغمائية والزائفة. بحيث يطرح موران سؤالا قد يبدو كلاسيكيا في البداية وهو كيف نبحث في ما بعد الأنوار؟ هنا القول بالتجاوز أي إدماج ما يوجد في الأنوار من عناصر صحيحة. لكن يكون هذا الإدماج مراعيا لشروط البرديغم الجديد بلغة توماس كون. ثم يطرح سؤالا ثانيا كذلك ما الذي نريد في ما بعد الأنوار؟ إننا نريد به افتحاص العقل، فينبغي أن نتجاوز العقلانية المجردة والزائفة والأولوية التي تجعل من الحساب والمنطق المجرد حقيقة أحاذية. كما ينبغي أن نتخلص من العقل التجزيئي كمرض يصيب العقل. إنها دعوة صريحة للتخلص من كل راديكالية تنفي الشعور والألم الإنساني. فالتفكير الذي يجزئ ويفتت ويقطع وفق منطق متحكم فيه وغير إنساني  ينعكس سلبا على مجمل علاقتنا الإنسانية التي تجعلنا نقطع بشكل تدريجي مع كل ما هو ذاتي ووجداني وحس سليم. لذلك نجد أن موران ينفتح على عهد جديد من التلاحم بين العقلانية والوجدان ونحو ما يسميه هو بالعقلانية المنفتحة، عقلانية تجر النقد معها دائما كقنديل يشعل نوره في عتمات تدعي يقينية زائفة “إننا نحتاج إلى عقلانية مركبة تواجه التناقضات واللايقين، من غير أن تغرقهما أو تفتتهما.” (6) عقلانية تحضر ضمن سياق العصر الكوكبي الذي لا يشترك فيه الناس فقط في الأصل البشري أو في انتماءهم للطبيعة بل  اشتراكهم  في المصير الإنسي من حيث يصبح شيئا ملموسا إلى جانب النظر إلى هذه العقلانية في تعقدتها .

لعل دعوة موران المنبثقة من تعقد المشكلات الكوكبية للإنسانية اليوم قد أصبح رهانا لا تخطئه عين متأمل. فوحشية الحضارة الغربية أو ما يسميه بالعصر الكوكبي الحديدي تظهر بشكل معقلن من أي وقت مضى حيث يعوز النفي أو القطع معها، لكن مزال أمامنا فرصة النجاة من تقدم حتمي يقودنا إلى مزيد من التقهقر.

ذ. فؤاد لعناني / المغرب


المراجع المعتمدة:

(1) إدغار موران- هل نسير إلى الهاوية ؟ ، ترجمة: عبد الرحيم حزل- افريقيا الشرق- المغرب ط1 يناير 2012 ص: 21-22

(2) المرجع نفسه ص : 25

(3) المرجع نفسه ص : 26

(4) المرجع نفسه ص : 27

(5) المرجع نفسه ص : 32



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *