قراءة في رواية “الخاتم الأعظم ” للأديب السوري زياد كمال حمامي / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



أنا و الآخر في شروخ مرايا الوطن من خلال رواية “الخاتم الأعظم” للأديب السوري زياد كمال حمّامي.
بقلم: بوزيان موساوي / ناقد مغربي.


“الخاتم الأعظم” رواية من أربعة فصول للأديب السوري زياد كمال حمّامي. صدرت عن دار نون 4 للنشر و الطباعة و التوزيع. الطبعة الأولى 2015. الكتاب من الحجم المتوسط (378 صفحة).
عنوان الرواية “الخاتم الأعظم”: جملة اسمية على شكل خبر (صفة) لمبتدإ محذوف، و التقدير: “هو الخاتم”، “هو الأعظم”. صيغت الجملة على شكل استعارة مكنية ( الاستعارة عبارة عن تشبيه حذف أحد طرفيه وأداته ووجهه). و يُراد بالمشبه المحذوف أنه يشبه الخاتم. و قد أتت المفردة مُعَرّفة (الخاتم) بينما الأصل في الخبر التنكير (خاتم). ما يعني أن المبتدأ المحذوف معلوم، و يعني شيئا أو شخصا بعينه. يفتح هذا العنوان بصياغته هذه نحويا و دلاليا و بلاغيا باب التأويل على مصراعيه؛ و هذه ميزة بعض العناوين التي تجعل من عتبة النص أو الكتاب محطة للتساؤل عن المضمون المنتظر إما لأجل المعرفة، أو لأجل المتعة، أو فقط لإرضاء فضول آفاق انتظار.
صنّف الأديب زياد حمّامي كتابه هذا أدبيا ضمن جنس الرواية. تصنيفٌ وفّر علينا ـ تجاوزاـ الخوض في إشكالية تجنيس هذا العمل الابداعي. لكنه في ذات الآن لا يُجَنّب بعض النقاد ـ هواة التصنيفات النمطية ـ حرقة أسئلة من نوع آخر:
ـ لماذا تمّ حذف (تغييب) الموصوف ب “الخاتم الأعظم” من العنوان و على طول ربوع الرواية؟ و كأن القارئ مدعوّ للبحث عن هوية “الخاتم الأعظم” تماما كما في مشاهد مسرح “العبث”، كشخصيات سامويل بكيت في مسرحية “في انتظار غودو”: تتحاور، تضحك، تحزن، تحاول الانتحار… و “غودو” لم يأتِ أبدا، و لا أحد يعرف هويته. نقرأ في الجمل الأولى من الفصل الأول للرواية: “(…) لعلها (العنقاء)، تعمد إلى تشكيل نفسها من أغصان و أشلاء الأجساد المقتولة على قارعات الأرصفة المهجورة، و تستعد للانتحار، و الاحتراق و النهوض من بين الرماد، و لعلها تبحث مثلنا عن سر الخاتم الأعظم.”
ـ هل “الخاتم الأعظم” هو “الآخر”؟ و أيّ “آخر”؟ شُبّهَ هذا الخاتم بالأعظم؛ و هو اسم تفضيل يفيد ما وضع لأجله، أي التعظيم كما “الاسم الأعظم”، و “الحبر الأعظم”، و “الصدر الأعظم”، و “السلطان الأعظم”… و قد يعني مجازا عكس ذلك تماما، أي التحقير، و السخرية. و ل”الخاتم” تأويلات كثيرة، منها ما يتعلق بعالم السحر، و منها ما له تفسير ديني ك “خاتم الأنبياء” في الاسلام، أو ما يحيل
على مرجعية شيعية لها علاقة ب “المهدي المنتظر”؛ و منها ما يرتبط رمزيا بالمال و الجاه و السلطة و التحكّم، و من هنا يوافق “الخاتم” معنى “الطابع” الرسمي ، أي “تأشيرة” سلطة سياسية متحكمة في العباد و الرقاب. و لعلّ هذا المفهوم السياسي هو المقصود في رواية “الخاتم الأعظم” لزياد كمال حمّامي. النص الروائي لا يصرّح بذلك مباشرة، لكن يوحي بالتلميح داخل الرواية وعبر عدة إشارات نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر إدراج قصة إعلان الرومان الحرب على ملكة “تدمر” (زنوبيا) لأنها صكت العملة و ختمتها باسمها و وضعت عليها صورتها. و هذا تلميح قد يشير إلى تحكّم أخطبوطات و لوبيات الدول العظمى في سيادة الدول و مصيرالشعوب كما الحال مع سوريا و شعبها. و من هنا يتخذ “الآخر” معنى “الجحيم” بمعناه الفلسفي الوجودي، و الإيديولوجي السياسي.
تعتيم مقصود من طرف الكاتب زياد حمّامي. إذ نقرا في إحدى الأوراق الخارجية آخر الكتاب تحت عنوان “إشارات”: “و ذلك لأن الكاتِب يؤمن بأن القارئ هو مبدع آخر للنص، و يمكن أن يكمل بتماهياته ما عجز المؤلف عن البوح به، أو تصويره، و لهذا، يقول لك: أنتَ أنا، و أنا أنتَ.” لهذه الفقرة أكثر من وظيفة و دلالة؛ نذكر منها إحالات شبه مباشرة على نظريات نقدية أو تيارات إبداعية أدبية و فنية ركّزت اهتمامها بشكل رئيس على المتلقِّي مثل “نظرية جمالية التلقي” الألمانية التي من بين ركائزها السؤال عن أزمنة التلقي و أمكنته و مواصفات المتلقي… و المسرح “البريختي” الذي جعل من المتلقي (القارئ/ المتفرج) فاعلا مجتهدا لإتمام عناصر الدراما في الشارع بعد انتهاء عرض المسرحية، و نظرية “الهرمنيوطيقا” (علم التأويل) التي تدفع القارئ إلى إقحام ثقافته العالمة، و الشعبية الشخصية في تفسير النصوص…
و إن كنا قد توقفنا عند مختلف تجليات “الآخر” مَوهوما كان، أو معلوما، و حاضرا، و مُغيّبا داخل دوامة بحث بمعية شخصيات الرواية، ف “الأنا”بدوره في رواية “الخاتم الأعظم” تقديره ليس شخصا بعينه. لمْ يرد أن هذه الرواية “سيرة ذاتية” رغم الشبه الكبير بين الشخصية المحورية “د. زين” و الكاتب زياد كمال حمّامي الذي غيّب الذات الساردة العالمة بضمير المتكلم “أنا”، و استبدلها بما يسميه جرارد جونيه “تبئير درجة صفر”، أي الضمير “هو” من يسرد بُغية التزام “الحياد” (؟)، و “الموضوعية” (؟). لكن في ذات الآن كثيرا ما يطغى على لسان السارد و بعض شخصيات الرواية سؤال “الأنا” من منطلق فلسفي “وجودي” و “ابستمولوجي”: فكما أن الكاتب لا يستفرد بسرد الأحداث المأساوية الناتجة عن الحرب في سوريا، و وصفها، و التعليق عليها، بل يقحم القارئ في محاولة تفسيرها و استيعابها و إصدار موقف تُجاهها (“يقول لك: أنتَ أنا، و أنا أنتَ.”) ، فالقارئ يكتشف كذلك أن الشخصية المحورية (د. زين) لا تشبه الصورة النمطية ل “البطل” في الروايات التقليدية: أيْ كذات فردية بمواصفات و كفاءات معينة قادرة على فك الألغاز، و تجاوز الإكراهات، و الخروج من الأزمات، و الانتصار على عدوّ محتمل. (د. زين) بطل (أو لا بطل كما سماه الروائي آلان روب غريي) بصيغة الجمع؛ هو كائن “ابستيمي” دائم السؤال عن الهوية وجودا و كنها و ماهية (” تدور عجلة الزمن بالدكتور زين، تجرده من وجوده.. هل أنا هو: أنا..؟! أم أنتَ هو أنا؟! بل من نحن جميعا؟! وأين نعيش؟! ماذا يحدث لي … وكأنه يحدث/ ولا يحدث؟!). هو نفس السؤال الذي تطرحه كل شخصيات الرواية بمختلف أعمارها و انتماءاتها… هو ذاته السؤال الذي تطرحه المدينة (حلب/ اللاذقية/ دمشق/ إدلب/ بيروت… ” لعلها (المدينة) تبحث مثلنا عن سر الخاتم الأعظم.”) سؤال وطن يحترق بسبب حرب قد يكون وراء اندلاعها و اشتعالها و ويلاتها: عدوّ واحد، هو الآخر بصيغة الجمع، ذُكر بصيغة المفرد، هو “الخاتم الأعظم”.
قد يكون هذا المعطى من بين رافعات أخرى في الرواية هو الذي أملى عليّ عنوان هذه القراءة كالآتي: انا و الآخر في شروخ مرايا الوطن من خلال رواية “الخاتم الأعظم” للأديب السوري زياد كمال حمّامي: ينقل كتاب “الخاتم الأعظم”هول أحداث مأساوية ابتداء من 2015 عاشتها سوريا إبان و بعد حرب 2012، و من تمّ السؤال: هل يتعلق الأمر برواية تاريخية؟ هي فرضية لقراءة ممكنة، لكنها ليست الوحيدة لأن “الخاتم الأعظم” عمل أدبي ضخم: سلطة لغته معجما و دلالة، و جمالية بلاغته بعمق المعاني و سحر البيان و رونق البديع، تجعلانه يتبرأ من تصنيف يختزله في مجرد سرد لوقائع ظرفية تاريخية سياسية حرجة. الرواية قصة “عبور كبير”، لكن ليس كما في التوراة نحو “أرض الميعاد” حسب المنطق الصهيوني/ الماسوني الذي يجسده في هذه الرواية رمز “الخاتم الأعظم”، هو في سياق الرواية “عبور” بمعنى “الهروب المحتوم/ المفروض” من وطن (سوريا) نحو وطن (لا وطن) بديل/ ممكن (لبنان، و تركيا)، حيث لا وطن فعلا، املا في عودة ممكنة ذات ربيع (“يمضي الراحلون في طريقهم المفتوح بالقهر و الآلام، و الدروب الترابية الحانية، و تمة سرب من طيور (الغرانيق)، يحلق في السماء، و يدور حول رؤوس الجموع، و لعل كل منهما يبحث عن موسم الرحيل، إلى حين العودة في الربيع القادم…”).
و تنتهي الرواية في زمن مستقبلي افتراضي لم يحن بعد:سنة 2150 م. يعني بعد 130 سنة من الآن. و لا عودة. هل هي نهاية متشائمة؟ أم هي نبوءة فنان مبدع؟ أم هي دعوة للقارئ للتفكير في حلّ لعقدة الرواية، لأزمة الإنسان السوري و العربي، و استشراف غد غير ما يتخوف منه أبطال الرواية؟
و لنا عودة.

د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *