هذيان على حافة الهاوية: قصة قصيرة / بقلم: ذ. صالح هشام / المغرب


بلورتان زجاجيتان باردتان، تمسحان تضاريس جبيني المثلج، تتشظيان على وجهي، ينز عرقي بغزارة، يجتاح كل جسدي، فأشعر بالبلل يتسرب باردا كالصقيع بين ضلوعي و منامتي، ثم ينحدر إلى أسفل سروالي. أتمسك بالحائط، أسنده ظهري، ويداي مرفوعتان إلى أعلى كمصلوب.

أمرر راحتي على ظهره، أحسه أملس ناعما، يعلق به زر كهربائي قديم كالعلقة. أضغط عليه بقبضتي أريد تشغيله، أجده معطلا تماما. أمعن في التصاقي بالحائط، أرشف منه رشفة أمن وأمان في سواد هذا الليل.

يضمني بقوة، يكاد يكسر ضلوعي، ويسلمني إلى باب من أبواب البيت، تختلط علي الأبواب، كل المساحات تتشابه، لكنها تختلف في الفراغات. لم أكن قادرا على التمييز، أ أنا على الخلفي أم على الأمامي؟ كل فراغاتها في بؤبؤ عيني سواد قاتم.
لم تكن تهمني هذه الفراغات، فما يهمني هو أنه دفعني خارج البيت، فخرجت بسلام. أنحني على ركبتيى حد الركوع، أكاد أقبل التراب، وكالأعمى أتحسس نتوءات الأرض، فأحبو… أحبو… أحبو كأرنب جائع يبحث عن عشب، أو جزرة، أو بعض ما يسد الرمق.

أرفع هامتي/ قامتي، أجدني قشة هشة ترتجف في مهب ريح صرصر. وبصعوبة كبيرة أستقيم، أجس نبض المكان، كل الأشياء أمامي تتساوى، علي أن أخطو خطوتي الأولى، والثانية -ربما- تأتي بعد نجاح الأولى. أضم يدي إلى صدري، ثم أدسهما تحت إبطي، إني أموت فرقا من السواد، يقولون:
-ظلام الليل رهيب، يقطع اليد الشاردة عن صدر صاحبها.

أقيس موضع خطوتي الأولى، أثبتها بقوة على أديم الأرض، ثم أقيس الثانية، أشعربالمسافة بينهما شاسعة، فأشعر أني أقفز فوق مدينة عملاقة، قدمي اليمني في شرقها، وقدمي اليسرى في غربها، فتبوء محاولاتي بالفشل، أبحث -من جديد- عن نقطة ضعف المكان، تزل بي القدم، فأعلق كالمجنون في الفراغ. أستغيث… أصرخ… أطلب النجدة، فيردد صمت الليل صدى صرخاتي.

أشعر بألم شديد، يعصرني عصرا من الكاحل إلى الحوض، أخال وركي من مكانه سيخلع، فأوشوش لنفسي:
-ربما أتسلق ظهر جبل صخري، فهل أنا من فصيلة العناكب؟ وحتى لو كنتها، فإني أريد الهبوط لا الصعود، فمقصدي السفح لا القمة.

أحدد موقعي من جغرافية تيهي، لا أريد أن أخبط العشواء هذه المرة، فقدماي من أقدام البشر، وليستا من أظلاف كائنات أسطورية، لكني أحسهما تفتقران للمرونة الكافية، يقولون:
-في تاريخ الأساطير وهذيان الإنسان: كان هناك أقوام لهم أظلاف، يتسلقون كالماعز، وينطون كالغزلان، ولا يمشون ويعدون كالبشر.
-لكن ماعلاقتي أنا بهذا؟ ولتكن لهم حتى الحوافر، فذلك لا يهمني.

أظن أن نوبة هذيان مقيت تمكنت مني تمكن حزامي من خصري، فاختلط علي الهبوط والصعود، لكني سأهبط… سأنزل… سأطاوع نفسي في الانزلاق في هوة بلا نهاية، فبوصلتي المخبولة لم تكن دقيقة كفاية.
أشعر بلكمة قوية على قفاي، وبأخرى على مؤخرتي، فأقذف كقشرة بصلة في هوة سحيقة، قرارها العدم، إنها الهاوية.
الهاوية: من هوى في الهوة ضاع، ومن ضاع… ضاع، رحيل بلا عودة. وأنا لن أعود من حيث أتيت أبدا. أسدل الستار على عيني، أطبق جفني، وألصق الرمش بالرمش، وأغيب في غيبوبة سكرة هذياني، فتتقلص عضلاتي، ينكمش قلبي، ويدق بعنف، يدق.. يدق.. يدق، وتخبو دقاته وتضعف، يكاد يسكن، يكاد يتوقف عن الحركة، فربما سأموت.

إني أهوي، إني في طريقي إلى عمق الهاوية. أشعر أن كل عضو في جسدي يتخشب، ربما سأمحى من الوجود بعد دقائق، سأزول تماما، وسأتوسد قبضة نسياني في ظلام اللحود، تغيب عيناي في محجريهما، يلوذ حلزوني بأقصى القوقعة، فتتشابك أسناني… تصطك بعنف… يجف ريقي، فأبلعه شوك زقوم في حلقي، أحس بشئ ما يضغط على صدري، يكاد يخنق في نفسي النفس، أستغيث… أطلب الماء لأبلل حلقي المتورم:
-جرعة ماء… جرعة ماء… أموت عطشا يا ناس.

لا مجيب يجيبني، تتشظى استغاثاتي في فراغ الليل، فأسلم روحي وجسدي للهاوية، أتركني أنساب بهدوء كالماء الزلال، وتسرقني مني الهاوية، فأعجز عن المقاومة، مسلوب الإرادة كالمنوم، لم يعد جسدي مني ولم أعد منه، كنت مخذرا تماما:
الانحدار إلى الهاوية جميل، بسرعة أتعود عليه، فيروقني حد الانتشاء: تربتها رطبة ناعمة، جبل من زبد أغوص فيه، أهبطه من قمته إلى سفحه فلا أشعر بالألم بين فخدي، فأستمتع بلذة الهبوط، أحس أني كطائر يحلق في الفضاء بلا أجنحة، ثم أهوي من سابع سماء إلى العدم… إلى الفراغ… لا شئ غير الفراغ ، ومن يدري؟ فتفكيري جمده صقيع الهاوية، ولم يعد يتجاوز أصابع قدمي، أشعر أني أغوص في بحر من عسل، شطآنه مخملية، أوأنزل من عالمي إلى جنة من جنان الخلد، أما نهر الطمي فأستبعده من تفكيري تماما، ما دمت أنزلق في هذا الزبد، ولا أشعر بألم، ولا أحس بدوار أوغثيان.

هناك، أرى… أسمع… لكن لم أكن أدري، فحواسي كانت معطلة. ثمة حشود من الناس مذعورين، يركضون كالجياد، يمتطيهم الخوف، ويتموجون كأسراب حيتان تهرب من قواطع القروش، أسأل أحد الهاربين:
-ماذا دهاكم يا قوم؟ إنكم تعدون في كل الاتجاهات، فأين سيكون مرساكم ومستقركم، إن شاء الله؟
-يا غريب، نحن لا أرض… لا وطن… لا مستقر… لامرسى لنا. محكومون بالعدو كالمجانين -أبد الدهر- في متاهات اللاشئ.
-وما لكم أنتم؟ اتركوا الآخرين يعدون، أولا يعدون فذلك شأنهم.
-لكن، علينا أن نعدو عدوهم أو نموت، فكلنا في الهاوية، ونحن بالهوى سوى.
-كيف ذلك؟ ما ذا تعني؟
-هؤلاء الهاربون يا رجل، أصيبوا بمرض الخوف.
-الخوف؟ ومماذا يخافون؟
-يخافون من الخوف، ينتصرون عليه بنظيره، ونحن أيضا أصبنا بعدوى الخوف: الخوف من أنفسنا، من وجودنا، وحتى من اللاشيء.

نعدو جماعة، فنتلف أثرنا، يحتمي بعضنا ببعض، نحمي أجسادنا بأجساد غيرنا، ولا نترك للخوف مجالا ليحدد طريدته، نقتدي بالطيور في سمائها، وبالحيوانات في برها، وبالأسماك في بحرها، تتماسك وتتآزر فتقهر خوفها، ألا ترى يارجل، أسراب الطيور تحلق في الفضاء بالملايين؟ تطير جماعة هنا.. هناك.. فتتلف تركيزالجوارح التي تعجز عن تحديد هدفها. هذا هو سر هذا الهروب الجماعي من الخوف الجماعي، فقطعان الأبقار الوحشية تشتت انتباه الأسود بهروبها الجماعي، فيفلت جسد بجسد، وتنجو روح بروح. اتحادنا في الخوف من الخوف هو سر استمرارية نسلنا وسلالتنا إلى الأبد، وهذا هو سر تجمع الأسراب طيورا وحيوانا وأسماكا وحتى بشرا أو حجرا أو شجرا. اعد… اعد… اجر قرب أية جماعة من البشر، وتظاهر بالخوف، فالكل سيجري و سيعدو وراءك بلا هوادة. فالخوف يصيبهم بعدوى الخوف.

أشعربرغبة جامحة في العدو، في الهروب مع الهاربين… يهربون فأهرب، يعدون فأعدو مع العدائين، أجرب عدوهم وهروبهم، فأجدني أعدو في الإسمنت اليابس، تغوص قدماي في الوحل، وأنفاسي متقطعة مكتومة، وخطواتي ثقيلة، وكأني أقتلع جبلا من جذوره. فجسدي نحيل وعضلاتي مترهلة، لا تقوى على جر جبل، وأنا أريد اللحاق بركب الهاربين بقوة خائرة، وإرادة مسلوبة، فأنا في الهاوية .

أستفيق من غيبوبتي… من سكرتي… من كابوسي أتصبب عرقا، وأرتجف كقشة واهنة، أجدني وحدي أعدو… وحدي أجري… وحدي ألهث… فلا هروب ولا هاربين… ولا عدو ولا عدائين… لا أسراب طيور ولا أسراب أسماك… فراغ… فراغ… في فراغ الهذيان…

ذ. صالح هشام / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *