بيوت بلا أبواب: قصة قصيرة / بقلم: ذ. صالح هشام / المغرب


تلملم ذاكرتي أطرافها، ترتق بخيوط الماضي ثقوبها، توقف زحف حياتي نحو المجهول، وسرعان ما تنفلت منها صورة: صراخ العصافير المتمردة يملأ حينا ضجيجا، فيتضجر منه كبارنا كالعادة. يخرج سربنا الجانح الجامح يطلب المغامرة في أحياء الآخرين، نتسلل عبر ممرات دروبنا المشبعة بالرطوبة، مصفوفة على طول متاهاتها الحلزونية أبواب سماوية قزمية ملتصقة بالأرض، اهترى خشبها وأكل الصدأ مساميرها الكبيرة، تتمايل وتترنح كالسكرى، فتوشك على السقوط.
دوما أسمع الآباء يتأوهون ويتأففون، فالصدأ سم قاتل ينخر الحديد، فما بالك بالخشب؟ وبيوتهم الحقيرة ستبقى عرضة لهذا الخلاء بلا أبواب، أما نحن الخنافس المتمردة أبناء الحرافيش كنا نعشق بيوتنا بلا أبواب مفتوحة على الفراغ، الأبواب تخفي وراءها أكواما من الأسرار، ونحن شفافين كقناديل البحر، ليس لنا ما نخفيه، والفراغ يعني لنا حرية بلا حدود ولا سدود.
تلوكنا رطوبة حينا كالعلك، نتجرع نتانة الحيطان الباردة، ورغم ذلك ننتشي بها حد الثمالة، ونشمها ملء الرئتين، ونحمد الله كثيرا. نعشق ركوب أمواج المغامرة لكشف أسرار ما وراء تلك الأبواب المنقوشة، أبواب قصور وفيلات فخمة قرميدية السقوف، تتربع على مساحات تمتص كل بيوتنا الطينية الحقيرة في جرعة ماء.
نتسلل من الباب الخلفي للمدينة العتيقة، نعبره، وتعبرنا رغبة جامحة مشبعة من حموضة: حموضة الفقر والقهر، والطموح الكبير والجناح المكسور. نخترق كالنبال الزقاق رقم 8، وهو يتلوى كالأفعى، فيربط أطراف مدينة البؤساء بمنازل طبقات متوسطة تذكرنا بحكاية البنفسجة الحمقاء، ومن تم يتفلنا في حي الفيلات، فننتشر كالجراد في عالم غير عالمنا، لم يكن مرحبا بنا عند هؤلاء القوم، فهم -صراحة- يعلنون القطيعة بيننا وبينهم، فلا هم منا ولا نحن منهم. ربما يكرهوننا لأننا همج في نظرهم، لكنهم يتناسون أنهم يقتاتون من همجيتنا ويشيدون القصور، ويجحدون نعمة عرق جيوب هؤلاء الرعاع.
نشم بلهفة الروائح الزكية، روائح تختلف عن رطوبة حينا الآيل للسقوط: بنفسج… ياسمين… نيلوفر… نمعن في الشم بشراهة، علنا نشفط من أجسادنا النحيلة ما علق بصدورنا من روائح مطارح نفاياتهم التي تطوق حينا. نملأ عيوننا التي أذبلها القهر بأكوام الموز وعناقيد العنب المعلقة فوق أسوار تلك المساكن الفخمة، تتلذذ بها الطيور والحشرات، فتعبر أدمغتنا الصغيرة حكاية القط واللحم المعلق، لكن، كل روائحهم ملوثة بروائح دم وعرق جبين وآباط فقراء حينا المقهورين، فنشعر -رغم طراوة العود- بالامتعاض والغبن، وبحقد نكيل للزمن الشتائم.
كيف؟ ما هذا العدل؟ هم يأكلون من رأس السوق، ونحن نمضغ روائح ما يأكلون.
يفرج زعيمنا أصبعيه الغليظين، يطل من بينهما، ويغرزهما في عيوننا، فهو مشبع بحس الثورة حتى النخاع، ويصرخ فينا:
-الغد لكم يا صغار الحرافيش.
-الغد نهاية صغار الخفافيش.
-في حلوقهم لحمنا مر ومالح.
-هيا، إلى (…) هيا يا صالح.
فننطلق كأحصنة وحشية مذعورة، نطقطق رخام الأرصفة بنعالنا البيضاء الممزقة. يا للعجب! حتى أرصفة بيوتهم حريرية ناعمة الملمس، وإذا كان هذا، فكيف ستكون المنامة؟ كيف سيكون اللحاف؟ كيف سيكون التبان؟ لا أظنهم مثلنا يتكومون على أنفسهم ويتكدسون مصفوفين كحبات السردين، وتحت لحاف بارد واحد، ضحاياه ميمنة الصف حينا، وميسرته أحيانا.
يمسح ذلك الثخين الأرعن -ابن خالتي وردية- مخاطه الأصفر بكم قميصه المتسخ، ويدخل ألف نملة ونملة في الغار، ويخرجها من خرم الابرة (ولد الحمار)، ويقول ببلادة فيها حكمة:
-هؤلاء يا رفاقي، يأكلون جمالا مشوية، واقفة، يفترسونها كالنسور بالسكاكين وبمدار صغيرة.
نقهقه عاليا ساخرين من هذا البليد الحكيم:
-ليست مدار يا غبي، إنها الشوكة، استوردها لصوصنا -في زمن مضى- من لويس الرابع عشر، ومنه تعلموا آداب المائدة، وتدربوا على استعمال الشوكة والسكين، وحتى شرب لبن العصافير، ألا ترى يا بليد، أنهم لا يتكلمون لسانا غير لسان صاحب الشوكة والسكين والشارب المعقوف؟
يسرط ريقه في نفس عميق، ويقول:
-بنت جيراننا خادمة في قصور هؤلاء، وهي تحكي لنا بعظمة لسانها حكايات غريبة عنهم، فهم لا ينهشون اللحم بالأظافر كما نفعل في نهاية الأسبوع، هم يوكلون مهمة تقطيع السقائط المشوية لرجل أنيق قوي البنية، هم يأكلون، وهو يقطع، وبطونهم كجهنم كلما امتلأت تطلب المزيد، ويستعمل السيف بدل السكين، تتلمس شوكاتهم الذهبية جنبات السقيطة المحمرة، لكن لا تحظى منها بنت الجيران ولو”بشنتيفة” أوعظمة، فتكتفي المسكينة بمضغ البخار، لأن ما يبقى يرمونه في حاوية القمامة، هي خادمة بنت حرفوش، وإذا حصل وأكلت من جمالهم، فإنها ستنبت أجنحة، وسيفقص بيضها، وتكسر حواجز الحشمة وتتمرد، فتخرق طقوس السيادة.
يشدها كبير الدار الكبيرة من أذنها، يحكها حتى تحمر، ويهمس لها:
-لحم الجمال يا غبية، ينشر بينكم -معشر الحرافيش- القمل والبراغيث، عصيدة شعير حافية فيها بركة وأجر عظيم، وخالية من الكوليسترول.
تبلع بنت الجيران ريقها، يبهت الجوع بريقها، تعود إلى كوخها الصغير كسيرة حسيرة، تنتشي بمضغ الروائح، تحلم بجمل محمر فوق ظهره تحلق، ومن سنامه تأكل حتى التخمة. وتنتشلها أمها من حلمها بصفعة قوية، لأنها كانت على وشك أن تبتلع نصف اللحاف.
تدق حكاية بنت الجيران في نفوسنا مسامير صدئة حد الألم، فننشد جماعة:
-عروشنا… كروشنا.
-مآسينا…. كراسينا.
تتدلى فواكه استوائية شهية، تحبل بها أشجار باسقة تغالب الأسوار العالية، تجتاحنا رغبة حمقاء في كشف ما وراء هذه الأسوار والأشجار. لكن، لماذا كل هذه الأسوار العالية؟ لماذا كل هؤلاء العسس؟ نحن نعشق بيوتنا بلا أبواب، ربما لأن كروشنا لا عجين فيها، أو ليس لنا ما نربحه أونخسره.
من بين الشقوق، تدغدغ أبصارنا فتاة شبه عارية، ترتدي تنورة شفافة، خلناها منامة السلطانة هيام، شقراء، بيضاء البشرة كالثلج، تستلقي على عشب أخضر داكن، وبجانبها يتمدد كلب مخيف كبير، بلطف تمرر أناملها البلورية على فروته المسدولة، يبدو أنها أكثر نعومة من الحرير، توقظ رومانسية المشهد في نفوسنا مواجع رغبات مكبوتة: فنحن حرافيش صغار: حيلتنا قليلة… يدنا قصيرة… عيننا بصيرة.
ويتأوه زعيمنا، ويتأفف من هذه الدنيا العجيبة: تركلها بالحذاء فتعانقك بالأحضان، غانية تستعذب الاغتصاب. يخبط صدره بقبضتيه كغوريلا، ويتنهد تنهيدة عميقة، ويصرخ فينا:
-كلابهم منكم أوفر حظا يا كلاب، تأكل شهي طعامها من معلبات مستوردة من الغرب، وتنعم بدفء أحضان مرمرية، وتستمتع بنعومة اللحم الأبيض، أما أنتم ففراغ أيديكم فراغ في فراغ، وفي كل ذرة منكم فراغ.
ندخل خطبته الرعناء من الأذن اليمنى، ونخرجها من اليسرى. ونتزاحم حول الشقوق كالخطافيف، نتلصص على بنت الأكابر، نمضغ فتات رغباتنا المقموعة، نستلذذ بحموضة كبتنا، ونفترس الطفلة كمجانين (الزومبي) بعيون وقحة تكاد تنط من محاجرها، نجرد المسكينة من تنورتها الشفافة، ويشذ ذلك الأرعن عن القاعدة:
-يا أصدقائي، إني أحس ببلل ساخن وبانتفاخ لذيذ.
ويقوم بحركات بلهاء تستفز كبرياء الفتاة، وتوحي بأنه يتحرش بها، فالأرعن من طبعه لا يفكر في العواقب.
يقعي الكلب كالأسد على أهبة الاستعداد، تتسمر أذناه كرماح مركوزة في الفراغ، وينتظر أوامر سيدته، هؤلاء قوم من عالم آخر، كل شئ عندهم بالأوامر، ولهم طقوس يفرضونها حتى على الكلاب، فما بالك بمن هم لهم كلاب؟
تشده من أذنه الطويلة، وتحرضه علينا:
-روكس، إليك بالكلاب … attaque…attaque …attaque.
يقفز كالنمر في فراغ الحديقة، وينطلق نحونا كقذيفة (ر ب ج) مجنونة. كجياد نتعثر… نكبو… نركض… ونسابق ريح الريح، حفاة وأنصاف عراة، وقد اجتاح البلل سراويلنا القصيرة. وننتشر كالقراد في أزقة منازل الأكابر، نطلب تلك الأشجار الكثيفة لقصر فخم مهجور، وقبل أن نتجاوز هذه الأزقة ببضعة أمتار، نفاجأ بخالتي الواشمة (…) تسد أمامنا كل المنافذ، يترجل منها شرطي منفوخ الصدر ببدلة عسكرية، وعلى صدره نجمة نحاسية تلمع في سماء حريرية مطروزة. يحاصرنا في زاوية ضيقة كأسراب سمك علق بالشباك، يتقدم نحونا، بسحنته القمحية وبخطوات مرتبة، وكرشه تتدلى أمامه، يفتح شكله المخيف متاناتنا، فنتبول بغزارة، يطقطق بحذائه العسكري الثقيل على إسفلت الرصيف، وهو يتفحص وجوهنا الشاحبة، فيأمرنا بنبرة صارمة:
-بطاقات هوياتكم يا كلاب!
نتبادل نظرات الحيرة والاستغراب، لم نكن نملك بطاقات هوية، نحن مجرد حرافيش، لا نخضع لقوانين الهوية، لأننا نعيش خارج الدائرة. يغرز أصبعه الغليظ في صدر زعيمنا، ويقول له بسخرية :
-بطاقتك يا ابن العاهرة!
يلصق الزعيم عينيه بالأرض، ويقول:
-أنا يا سعادة الشاف، مواطن لكني بلا هوية، أكتفي بوطنية مدفونة في أعماق قلبي، أما الوطن فهو لأصحاب المنازل الفخمة والكلاب المدللة، نحن الحرافيش لنا هواء الوطن، وهم لهم ما في باطن أرض الوطن، فما الفائدة من بطاقة هوية ما دمت لست في حاجة لها؟
يرميه الشاف بسهم من سهامه الحاقدة :
-هذا كلام غليظ عريض يا حثالة، يعاقب عليه القانون، يا ابن الق…
يصفد معصميه، يعصب عينيه بخرقة سوداء، ويزج به في (خالتي الواشمة) وركلات حذائه الحاد كرأس الرمح تلاحق مؤخرة زعيمنا، وهو يتمتم كلاما مبهما:
-(السيلونات) فارغة تماما هذه الأيام، كل (الفايقين والعايقين) بلعوا ألسنتهم، فلا أحد يتكلم في السياسة، وبصمتهم هذا سندخل في عطالة قسرية. يلتفت إلينا، والشرر يتطاير من عينيه البراقتين، ويقول:
-أما أنتم يا كلاب البرية، فتهمتكم ثقيلة جدا.
يمسح الأرعن دموعه الممزوجة بمخاطه، ويقول وهو يرتعد كالقشة:
-وماذا فعلنا يا سيدنا الشاف؟
-أنتم تحجبون أشعة الشمس عن عرصات عنب الأكابر، تسرقون عناقيد الموز من حدائقهم، وتتحرشون ببناتهم وراء أسوار قصورهم، كل هذه جرائم خطيرة ترتكبونها في حق أولي الأمر منكم.
ويحدق طويلا في الأرض المفروشة برعبنا، يطرق هنيهة، وفي قرارة نفسه:
-أنتم تسرقون عناقيد العنب، وهم يسرقون أكوام الذهب، وسرقة البيضة أثقل من سرقة الجمل، إنكم لم تستوعبوا دروس الوطنية في محافل خطب دجلهم السياسي.

ذ. صالح هشام / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *