لا يختلف اثنان على أن اللغة هي المحرك الأساسي لآليات النص مهما كان، ولا يعتلي هذا الأخير منزلة الإبداع الا اذا كانت العبارات راقية ودقيقة، تعبر من مواقعها عن المقاصد في مبناها ومعاناها، ولا وجود لمركبة ترفع من قيمة الأسلوب إلا تنامي اللغة مع تنامي الحدث باختيار الجواهر من كنوز اللغة وما يتلاحم ووجهة النص في تبليغ الرسالة. لا شك أن ثورة التوليد في بعض اللغات جاءت عندما تجاوز تفكير أهلها كلماتها، هذا الذي تستغنى عنه لغتنا العربية في كثير من مجالات الابداع بثرائها، وباستعدادها (الفطري) لكل تعبير، والدليل على ذلك، ها هي دي تساير كل المدارس الأدبية الفكرية والفلسفية، واستطاعت وبكل جدارة أن تنقل إلينا و إلى غيرنا كل ثقافات الشرق الى الغرب بأمانة وإخلاص، بل تجاوز الأدباء العرب في تحميلهم لثقافة الغير وأصبحوا يضاهون في طروحاتهم ما ابتكره الغرب إلى درجة الذوبان في الآخر، وبمجرد ما تترجم النص العربي إلى اللغة الغربية تشك في انتمائه، فلا تستطيع أن تمس أي ركيزة لتبرير هذا الذوبان فان فعلت سقط البناء على رأسك.. فزادت هذه الممارسة في قيمة الأدب الغربي وتسببت في ابتذال الأدب العربي وتمييعه بل وتدجينه فلجأ الكثير الى ما يسمى بالسهل الممتنع (الرخيص) الذي ساعد على انحطاط النص الى مستوى لغة الشارع، بل كتب عمالقة الأدب العربي أعمالا بلهجاتهم العامية، طبعا، كانت حجتهم إيصال رسائلهم إلى السواد الأعظم الذي يفتقد إلى أدنى ما يجعله يواكب الأفكار بانتشار الأمية و تدني المستوى التعليمي في كل مراحله، وراء هذه الممارسة نية حسنة حقا وأطماع تجارية لا شك فيها، بالمفهوم الواسع أصبحنا ننتج الأدب الإستهلاكي من حيث التركيبة اللغوية (أنا لا أقصد بهذا الأهداف والقناعات). فهل غيرت هذه الكتابات من الوضع الثقافي والحضاري المزري الذي تعيشه الأمة العربية بصفتها القاطرة الرئيسية ومن بعدها الأمة الاسلامية؟؟.. بالطبع لا، والواقع يشهد على ذلك.
فضحي الكثير باللغة العربية وما لها من مميزات و فنيات وأسلوب للتواصل والرقي من أجل تبليغ رسائلهم بلغة الشارع في حلقات الأسواق، وبلغة الأرصفة في المقاهي، فإذا كنا نحمل فكرا قادرا على التحدي فمع الفكر الآخر نقيم الحوار، والتبسيط تضمنه وسائل أخرى بشرية ومادية، وبطرق مشرفة أكثر، هكذا من القمة الى القاعدة (تنازليا) ومن القاعدة الى القمة (تصاعديا)، فيرتقي المجتمع ويدخل الجميع في نقاش مسؤول وواع، كل حسب مستواه .
من المؤسف جدا أن نقرأ لأقلام عربية، من المفروض أن تخاطب مجتمعاتنا من أعالي المنصات، تدعوهم للتداول والنقاش والإثراء، تتبنى الخطاب الدنيء بحجج واهية…
حقيقة، أن المدارس الفكرية و الفلسفية والأدبية المعتمدة في الوطن العربي كلها غربية، أغلقت علينا في اطار مسيج ومكهرب منعنا من تحرير الأدب العربي من هيمنة الفكر الغربي و قتل كل المبادرات التي تريد أن تخرج النص من هذا الحصار الرهيب في عملية (استيراد افكار مفككة و تركيبها).
كم أتمنى أن تضاهي القصة عندنا الشعر وتحاديه الرواية، حيث تجتمع لذة القراءة ومتعة السياق، حيث تجتمع فنيات الخطاب وتساير تنامي الحدث، على إيقاع سمفونية بلاغية رائعة تطرب النفس، وتغذي بمنطقها الفلسفي العقل.. قضية عادلة بلغة راقية ومنطق سليم قابل لكل نقاش معتدل و موضوعي بعيدا عن التعصب الفكري الممقوت. وكم أتمنى أن يتمرد الكاتب العربي ويبدع ما يميزه عن غيره ليشارك في هذا الفسيفساء الأدبي والفكري العالمي بلون خاص يصبغ أعماله… أم هي العربية عقمت؟
ان اعتمادنا على الأدب الاستهلاكي الجاهز لن يرفع من قيمة اللغة الى المكانة التي نأمل، ونعوّد المتلقي على البلع دون هضم، ونراهن على الكم عوض الكيف، فيتقاعس الإنسان العربي بموت دوافع الجد والكد والبحث والاستنباط، وتموت خلايا اللغة، وعلى وجودنا البقية في حياة الغير.
هكذا ضاعت رسائل الأدباء العرب وتفرقنا، واتهمنا بعضنا بعضا، وشردنا بعضنا بعضا، وتفككت وحدة نخبنا، وكثر الهرج، إنها مخلفات سوء استعمال الكلمة وسوء توظيفها.
اخفاقات في توحيد الخطاب العربي على كل المستويات، وشرخ كبير بين الشعوب والنخب والأنظمة أنتجه سوء تسيير اللغة التي بدورها أنتجت لنا المهندس الفاشل، والفقيه الفاشل والفبزيائي الفاشل، والكيميائي الفاشل، والسياسي الفاشل… إنها وبكل بساطة مخلفات ذلك الذي اعتمد في نصوصه على الخطاب (المجاني) لإيصال فكرته إلى (الأكثرية).
مستحيل يا سيدي أن تضع رجلا في أعلى السلم والرجل الأخرى في أسفله..