رغم دخول العالم في أجواء الرسائل الالكترونية والسطور القصيرة، السريعة، الخفيفة، إلا أن الذي عاش زمن المراسلات وانتظار ساعي البريد، وصوت اللهفة وهي تفتح الرسائل و موسيقى الشهقات أو الغضب والشتائم والدموع والتنهدات، يعرف معنى تلك الرسائل، أما ذلك المغلف الذي تعددت أشكاله والوانه، فهو حكايات في داخلها الأسرار التي تصافح الغياب، وقد تكون نبضات تحضن دفء الاشتياق، وقد تكون تراشق كلمات في نهايتها تُهدي مستلم الرسالة زوبعة وفقدان راحة البال، ولكن تبقى مرحلة جميلة مزروعة في الوجدان.
و خلال السنوات كانت الأغلفة وطوابع البريد هي الجسور الهامة، وقد نشرت رسائل العظماء من مفكرين وشعراء وأدباء في كتب ومجلدات وأقيمت حولها دراسات، وما زال أدب الرسائل تفوح منه الاعترافات وصدق المشاعر وازدهار الإحساس في تلك اللحظات، ولكن مع دخولنا عصر السرعة وعالم التواصل الاجتماعي وبكبسة زر تصبح الرسائل أمام الآخر بطريقة تقهقه على ما وصل إليه الانسان، لم يعد للخط قيمته، ولم نعد نمزق الأوراق و تتكوم أمامنا لتصبح تلالاً حتى نصوغ كلمات تأتي بكامل البهاء وتدفق الاعجاب.
أذكر صديقة لأمي قالت لي والدها منعها من التعليم حتى لا تكتب يوماً رسالة لرجل.
وأذكر عندما كانت تأتي رسالة مهربة من الأخوال أو الأعمام من لبنان أو سوريا بعد عام 67، كان يحملها أحد الأقارب من جنين أو نابلس، تأتي مطوية عدة مرات، كأن الذي حملها أراد أن يدفنها قبل أن يكتشفها حفار القبور -الحاجز الإسرائيلي- وكانت الرسائل المطوية دون طابع بريد بل اليد باليد، وكانت تحمل السلامات والتحيات والأشواق ودموع الغربة.
أما طابع البريد الراقد على المغلف فله حكايات تاريخية، إذ لكل شعب طابع بريده الخاص به، عليه مواسم فخره وتاريخه ووجوه قادته الذين يعتز بهم.
أول مرة أعرف قيمة طابع البريد عندما كنا في الابتدائية طلبت منا مربية الصف بدلاً من صرف النقود التي بحوزتنا على الحلوى، علينا شراء طوابع بريد نلصقها على دفتر خاص وعندما يمتلئ الدفتر نسلمه للموظف في البريد ونأخذ المال.
وفعلاً كنت أذهب إلى مكتب البريد في حي الميدان في الناصرة، واشتري الطوابع الصقها وبعد يومين اذهب لقبض المال، حتى زهق مني الموظف “ميخائيل” يوماً وقال لي: أنا مش فاضي للولدنة تبع معلمتكم.. خلص سكرنا الموضوع..!!
في المرحلة الثانوية أصبحت هوايتي جمع طوابع البريد، اشتريها أو انزعها من الرسائل التي تصلني من الدول الغربية، أقرباء وأصدقاء، حتى أصبح عندي عدة البومات ما زلت احتفظ بها حتى اليوم.
وعرفت أن طابع البريد هو الاعتزاز بالمواقف السياسية والاجتماعية واحتراماً للشخصيات التي قدمت للوطن، وعندما عرض علي صاحب أحد المحلات في منطقة خان الخليلي في مدينة القاهرة مفتخراً مجموعة من الطوابع النادرة للرئيس جمال عبد الناصر، طوابع بريد تؤرخ للثورة المصرية وللعدوان الثلاثي عام 1956 وأيضاً لتأميم القناة والإصلاح الزراعي مثل طابع “راقصات حاملات السلال وهن في الحقول” وغيرها، كان يشرح عن كل طابع بريد باعتزاز، كأنه يحمل تاريخ مصر على ظهره، وانصب اهتمامي بعد ذلك على الطوابع التي عليها الوجوه النسائية هناك طوابع عليها كليوبترا و أم كلثوم، الكاتبة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، المطربة ليلى مراد، والعالمة سميرة موسى، والفنانة فاتن حمامة.
ونسيت موضوع الطوابع، ولكن قبل أسبوع أصدر المغرب بمناسبة عيد الأم وعيد المرأة العالمي هذه السنة طوابع بريد لثلاث شخصيات نسائية، مالكة الفاسي (1919 – 2007) المرأة الوحيدة من بين الشخصيات التي وقعت على وثيقة الاستقلال، ثريا الشاوي (1936- 1956) أول ربان طائرة في المغرب والعالم العربي. والكاتبة فاطمة المرنيسي (1940- 2015) أستاذة علم الاجتماع والباحثة الشهيرة.
وهنا حاولت التفتيش على وجه المرأة الفلسطينية على طابع البريد المرأة الشهيدة، الأسيرة، اللاجئة، الكاتبة، الشاعرة، ربة البيت فلم أجد -أتمنى أن أكون مخطئة-
وتساءلت إلى متى ستبقى المرأة الفلسطينية غائبة عن طابع البريد، مع إنها تشارك وتصارع وتقارع الاحتلال، وقدمت وما زالت تقدم لوطنها مثلها مثل الرجل.
ملاحظة لا بد منها: اول طابع بريد يحمل اسم فلسطين كان عام 1923 بعد ان أصبحت تحت الانتداب رسميا، وهناك طابع عربي أصابني بالاكتئاب لأن مصيره كان النسيان، بعد ان وصلت تقارير حول قيام رجال اعمال يهود بشراء الأراضي من بعض الفلسطينيين بأموال طائلة، اجتمع سفراء الدول العربية في جامعة الدول العربية لبحث الاقتراح بإصدار طوابع بريدية تلصق على جميع المكاتبات ويرصد ريعها لمنع بيع اراضي عرب فلسطين، ومساهمة الحكومات والشعوب العربية في صندوق الامة العربية لإنقاذ أراضي العرب في فلسطين.