إلى النّور… / بقلم: ذة. جميلة بلطي عطوي / تونس


لملمت شتات حزنها وجلست في الزاوية المعهودة، زاوية الصّمت تحط فيها الرّحال كل مساء لتصبّ آلام يومها في دنان الصّبر المعتّق ثم تسترخي باحثة عن عالم مغاير يسقي روحها المتعبة بعض الدفء والرواء لكنّ اللّيل هذه المرّة واجهها مقطّب العتمة وقد شمّر عن سواعد الأرق تحاصر فسحتها اليوميّة. تسلّل السّهاد إلى عقلها، نبش في الأركان التي حاولت أن تسكت أصواتها منذ اقتنعت أن لا سبيل إلى تغيير المقدّر. بدأت المشاكسة عراكا على ضفاف جفنيها إذ كلّما حاول النّوم ان يتسلل إليها تلقته نصال ونصال.
جلست في فراشها البارد دون ان تشعل النّور. سعت إلى الاستعانة بالاستغفار والأذكار لكنّ الفكر بدا عنيدا، إنّه يقطع عليها المحاولة بغياب التّركيز بل تمادى فرسم على صفحة السّواد أوجاعا خالت انها هضمتها مع الزّمن.
ها هي ترى المشهد من جديد: بيتها المتداعي والنّيران تحاصره من كل حدب وصوب. إنها تسمع صراخ ابنيها بل تحسّهما وهي تحاول ان تفتكّهما من ألسنة اللّهب. ثم ماذا جدّ بعد ذلك؟ هي لا تعلم لأنّها فقدت الوعي بعد الشعور باختناق رهيب. كلّ ما تذكره انها استفاقت صارخة رامي، هنيدة أين انتما، أين ذهبتما فكان الردّ من ملائكة رحمة
-اهدئي سيّدتي، حاولي ان تساعدينا على إنقاذك
اهدئي أرجوك
ازداد صراخها
-عن أي هدوء تتحدّثين؟ أريد ابنيّ، أينهما؟ هل هما بخير، أرجوك أخبريني بصدق هل هما بخير؟
وازدادت الحالة تشنّجا لكنّ الممرّضة لم تجبها ولم تشف غليلها، كلّ ما فعلته انّها حقنتها إبرة أغرقتها في سبات عميق.
ظلّت على تلك الحال فترة من الزّمن والجميع في المشفى يحاولون مساعدتها لكنّ الصّدمة كانت شديدة إذ علمت ان ابنيها ماتا في الهجوم الذي كان يستهدف زوجها المناضل، ذلك الزوج الذي استشهد في موقع آخر وهو ينجز عملا بطوليّا.
لقد مرّت الأعوام والسّنوات على تلك الحادثة لكنّها في كلّ مرة تعيشها وكأنها اللّحظة. وها هي الذّكرى التي كانت طوال الوقت مخزّنة في اللّاوعي تطفح من جديد على صفحة الذّاكرة، بل ها هو اللّيل يسخر منها ويخرج لسانه ليعلمها انّها ستظلّ طوال عمرها حبيسة زاوية الصّمت، أسيرة العتمة، ثكلى لا بعرف النّور إليها سبيلا. إنها تشعر بمرارة وأيّ مرارة. الفقد مؤلم فما بالك إذا كان ظلما وعدوانا، ما بالك إذا سقطت فيه أرواح بريئة دون ذنب، وظلّت الأفكار تتصارع في باطنها. سالت على خدّيها دموع ساخنة فاحسّت ان الصّقيع بدأ يتحلّل تماما كما يحدث للارض عندما تتسرّب إليها أشعّة الشّمس الدّافئة فتتشرّب أكوام الثّلج، ترتوي منها العروق وتستعدّ للانبعاث. خامرها إحساس غريب ثمّ
مدّت سبّابتها متوعّدة. نفضت شلّال الألم النازف ولوّحت بكلتا يديها في وجه اللّيل.
-لا تسخر ايّها الأبكم الجاثي على صدري، لقد حان وقت خلعك ولن اتركك تحتويني من جديد.
لقد قرّرت ان تصنع لنفسها معبرا إلى الضّفة الاخرى، إلى النور، إلى الحقّ والحريّة. تحاملت على نفسها متحدّية القوانين المجحفة، مدّت يدها إلى صندوق عتيق أكلت النّيران جانبا منه. هو آخر ما تبقى من ركام بيتها، هي تذكر جيّدا كيف حضنته بعد عودتها من المستشفى. تذكر انّها لم تجد اثرا لأيّ شيء عدا هذا الصّندوق الذي نجا بأعجوبة وكأنّه يريد أن يكون شاهدا على الغدر والعدوان، وهي قد لاذت به علامة تذكّرها أنّها مازالت على قيد الحياة. ومن يومها وهو الوحيد الذي يؤنس وحشتها القاتلة بل الوحيد الذي يقول إنّ الحياة أقدار مقدّرة لذلك جعلته يشاركها خلوتها اليومية وقد زاده قيمة أن وضعت فيه شالا مزركشا يعود بها إلى زمن البهجة والاطمئنان، شال أهداه إيّاها زوجها الشّهيد عندما انجبت بكرها رامي ذاك الشّال الذي نجا هو الآخر لأنّها أعارته لإحدى قريباتها قبل الحادثة بيومين.
سحبت الشّال، رمته على كتفيها وخرجت متحديّة حظر الجولان. ظلّت تسير وهي تردّد
-من اليوم لا عتمة لا سواد، لا حزن يملأ قلبي، من اليوم أرفعه شعاري، أسقط به العجز، أسقط انكساري، “إلى النور فالنور عذب جميل” إلى النور فالن.. ولم تكمل اللفظة لانّ يدا خفيّة سحبتها من طريق رصاصة مميتة.

ذة. جميلة بلطي عطوي / تونس



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *