الثقيل (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


منذ أول شعاع الصباح على ظهر حماره الأشخم اللون، المتنحنح بين الفينة والأخرى تحت الثقل المضاعف، الشبيه بصخرة الواد جراء ارتخاء الرجلين الغليظتين المفلحتين في نعلين مغبرين غير المنفرجتين حول العنق، حافظ التوازن المريح، يقطع المسافة بين مقره غرب القرية وجنانه شرقا، مرورا ببعض المقاهي من أجل فطور متقطع متنقل من طاولة إلى طاولة في جمع بقايا الخبز وتقشير الخضر.
في الحقل إلى حماره يرمي بما يشبع جوعه، وعلى تموج صفير مندفع متراجع كأنفاس ناي يحثه ري عطشه، ثم إلى ركن مشمس قطع الخبز ينشر.
فرحا منتشيا يتفقد بساطه الأخضر جولة سريعة تملي عليه بداية يومه الكثير العمل، وفي مقدمتها تحريك المضخة العجوز المصابة بضيق التنفس، فالتشذيب والحفر والقلب والتسوية ونثر الحب هنا وهناك وهو يخاطب نفسه:
-سيخصص للبحيرة.
يرتاح الرجل القوي متوسط القامة مفتول العضلات خشن الأصابع، بندورة لفحتها الأشعة مزيج حمرة وسمرة، والشمس تخطت الزوال على انتقاء خبز مع خضر طبيعي نيئ للفصل وشربة ماء عذبة من البئر، ثم يستأنف الشغل بما يراه مناسبا لملء عيني حمله جزرا مشمشيا ولفتا أقحوانيا أو ربيعا فواحا أو برسيما طريا ختام طلعة منحنية أحضان أرض ندية وهواء صاف وهدوء مريح تتخللهم زقزقات تبعث الأنس والطمأنينة.
عبر ممر آخر يلج السوق فيصرف حمله كفا تفيض دراهم يحلو له أن يدفئها ويبعثرها في جيبه وهو إصغاء كامل لرنينها مدغدغ خياله وأحاسسه، يقفل عائدا إلى سكنه بداية الغروب، تلبية لتلويحة خلوته مع علبة القطع النقدية التي حال بينها وبين رؤية النور والاستمتاع بالتداول وصخب التنقل بين الأيادي والجيوب، التفت وجار آخر الدرب قد وضع طعام العشاء على الكوة الجنوبية الخفية عن العين وشغب الأزقة، وهو أمر يثلج صدر المتباهي بثقل وصمم العلبة.
يتناول العشاء ويغسل الماعون ليدعه فارغا قبل المغادرة في المكان المعلوم، يتكرر الأمر لبضعة أيام، لأسبوع وأكثر دون أن يفكر الثقيل مبادلة الهدايا، هدية سلة خضر وقطعة لحم على فاكهة، رحلة تجسد زهو وبشاشة الإناء ذهابا وإيابا يتقاسمان الإخاء والمحبة.
خاوي الجوف، حافي اليدين ذليلا يتوقف عند هذا المقهى واثنين من بعده في ميل الى رد فعل منفرد سبكته الصدفة بين برودة محتشمة وثانية أبانت عن حاجتها، بعد أن لمحت ثم أفصحت عن رغبتها في أن تذوق وتقتني من عطاء أرضه الحمراء الرملية الخصبة، بلا كأس شاي يطرد ظلمة الليل ويفتح كوتي النهار خاوي الوفاض مهموما مرفوعا يسوقه حماره في كلل وملل استيقظا من عبئهما وهما على باب الجنان.
جناح كسل مكدود لم تعهده نفسه أتى جزء صغيرا مما ألف في افتقار إلى الطعم وراحة البال، خضم رماد الانكسار تفتقت قصيبات تجبير الأمر المريحة من الهم والغم، على خمول زادت من حدته شمس لم يستغفلها بمظله، وهو يعد هدية ناس ممر الصباح رباطا متنوعا.
تحت وطأة العياء والاختناق والجوع وحرارة غير طبيعية تقضم الجسد الممتلئ المتين سيل عرق جارف يقلبه يمنة ويسرة كجريدة في مجرى الماء.
في غيبة طارئة قصيرة لأيادي الجود، على إقبال وإدبار الزائرة يقضي الثقيل ليلته واليوم الموالي بين غيض حمى غارزة وقرقرة أمعاء فارغة.
أثار نهيق الحمار المتضور جوعا، انتباه الجار وهو عودة من سفر خاطف فهب مسرعا يدفع الباب بقوة والهذيان ليطرق سمعه وسط عتمة أجهز عليها دخول هواء جديد، في سرعة البرق دق العرعار وأوراق الورگية والخل ساقيا مسام الجسد المتفور بهذا الخليط البارد الفعال مرتين متتابعتين خلفتا فتاتا يابسا، ثم قدم قدحا من الحريرة المنسمة اعشابا مختلفة أخمدت في سند ثنائي اللهيب المشتعل ظاهرا وباطنا، تبعها بلول مبرج بالخضر وعبق لحية الشيخ وفلفل ومسواك لحم وشحم أشبعوا نهم الأكول.

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *