الحروف المتمردة / بقلم: ذ. عز الدين الزريويل / المغرب


ظل الكاتب يبحث في نصه الجديد عن هوية وطبيعة الحرف الضائع، أغلق عليه غرفته، ومنع زوجته من دخولها، وأمر أبناءه بالتزام الصمت، وإيقاف لعبتهم المفضلة. في ركن غرفته البسيطة جلس يفكر ملياً في سبب تمرد الحرف الضائع، شك أحياناً في زوجته لعلها محته سهواً أو عمداً إذ جاء عرضاً في جملة عاطفية، ومنح المعنى لكلمة متمردة على قلب عاشق. وفي آحايين أخرى اعتقد أن مخبراً لعيناً اطلع على نصه، وتواطأ مع ابنه البكر على إعدام الحرف مقابل قطع حلوى حتى لا يصبح الحرف رمزاً للمحتجين في شوارع المدينة النائمة

سعى الكاتب إلى استنطاق حروفه الطيعة لكنها صمتت وأبت البوح له بسر اختفاء الحرف. فاستدرج بعضها إلى جلسات استنطاق منفردة، مغرياً إياها بالحرية خارج نص آخر تستلذ فيه سعادتها. لكنها كانت تصاب بالعمى كلما حاولت أن تعترف بالحقيقة، ليفقد النص معها معناه، ويتيه الكاتب في بحر اللامعنى المظلم
قاد حرف الألف تمرداً داخل النص ضد الكاتب، وصار سوطاً لقمع الحروف الخائفة[…] جن الكاتب وفقد سيطرته على حروفه التي خرجت من سياق الجمل وأفقدت النص معناه الأصلي، وصار النص يمجد حاكم المدينة و يستعرض مناقبه وأعماله العظيمة، فتحدثت الحروف الخائفة في الفقرة الأولى عن حياة الزعيم في طفولته، فشبهته بملاك صغير نزل إلى الأرض وأعجبه المقام فرفض العودة إلى عالمه. وجاء في الفقرة الثانية أن الحاكم وسع سجن المدينة وملأ غرفه بالشعراء والكتاب، وأنه خلص الفقراء من معاناتهم بأن أعدم الآلاف منهم شاركوا في مظاهرة الخبز
قرأ الكاتب النص من جديد وتلعثم وتساءل: هذا ليس نصي؟
صرخت الحروف الحائرة: أنت خالقنا، ومبدعنا فاتركنا نعيش في جلباب نصك السعيد، وافتح لنا أبوابه للخروج إلى حديقة الحاكم نتنفس الحرية
أخرج الكاتب قلمه فصرخت الحروف: لا تفعلها سيدي الكاتب، لا رغبة لنا في مغادرة نصك من جديد، العيون تتلصص علينا وقد نسجن في خيالك إلى الأبد، حريتنا في عبوديتك و حياتنا في رضى الحاكم عنك
توقف الكاتب وفكر ملياً متسائلاً عن الذي دخل نصه وبعثر حروفه وأعاد تشكيل فقراته من جديد لتحمل معنى آخر،أطال النظر في حرف الألف الذي كان يتكئ على سيارته الفارهة، ويحمل غليونه فتساءل عن سر التحول في حياته،فبعدما كان حرفاً ضعيفاً تتخذه الحروف عصاً تتكئ عليها وتهش بها على سياقات المعنى في الجمل، صار الآن سيد الحروف والآمر والناهي فيها

تململ الكاتب وجر قلمه، فدعا الألف إلى دخول مكتبه، فأجلسه على كرسي دوَّار وشرع في طرح الأسئلة عليه
كان الألف يجيب بأريحية وباستعلاء أفقد الكاتب هدوءه. اعتبر الألف أن حياة الحروف قصيرة داخل النص، وأي خطأ بسيط في المعنى لا يساير تطلعات المؤسسات القارئة له قد تجعل من حروفه سجناء رأي، فتصبح حياتهم بدون معنى،ودعا الكاتب إلى إعادة النظر في نصه القديم، فالحروف قد تتمرد عليه إن أصر على كتابته بتلك الطريقة
صمت الكاتب[…] وتابع بنظراته الحائرة خروج الألف من مكتبه مستغرباً من تغير أحواله، وهو الحرف الذي اعتاده مناضلاً وصامداً في وجه كل المحاولات السابقة لحجب نصوصه. اعتقد أن معركة الحرية تطورت أسلحتها، لم تعد مرتبطة بحجب الكتب واعتقال الكتاب والشعراء، وشراء الذمم بل اقتحم الحاكم عالم النص الداخلي واستمال الحروف إلى صفه، وحرضها على التمرد ضد الكاتب
طرق الباب بحذر،تساءل الكاتب: من الطارق؟
جاءه صوت زوجته الضعيف: افتح الباب يا كاتب

فتح الباب فوجدها تقف أمامه متأبطة أربعة حروف مبعثرة، فتساءل: ما هذا؟
ردت عليه باستغراب: حروفك وجدتها تحاول الخروج من المنزل

أدخلها إلى مكتبه،فانتظمت على الكرسي مشكلة كلمة [حرية]،تفاجأ الكاتب وقال: حتى أنت يا أعز كلمة في حياتي تحاولين الهروب من نصي؟
ردت عليه: سيدي الكاتب،لقد ضاق علي فضاء نصك،وتآمرت علي حروفك، ورمتني خارج أسواره، ففضلت أن أخرج من عالمك بحثاً عن كاتب آخر يؤمن بمعناي

استشاط الكاتب غضباً، ودعا الحروف إلى مكتبه،فدخلت متدافعة، محدثة هرجاً كبيراً. صرخ الكاتب فيها وطالبها بالتزام الصمت، فتحدث طويلاً عن مبادئه وأحلامه داعياً حروفه إلى الطاعة، لكنها تمردت عليه وهاجمته محاولة خنقه قبل أن يستفيق على وقع نداء زوجته

رشيد،رشيد […] استيقظ إنها الثامنة صباحاً.

ذ. عز الدين الزريويل / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *