قراءة في رواية “أراك في كل مكان” للروائي الليبي محمد التليسي / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب


رواية “أراك في كل مكان” للروائي الليبي محمد التليسي

تحت عنوان: رواية “أراك في كل مكان” سؤال التجنيس و الشعرية.

1ـ حيثيات منهجية:
سؤال: ـ أي مقاربة منهجية ملائمة لقراءة كتاب “أراك في كل مكان” للكاتب الليبي محمد التيليسي تحت مُسمّى “الرواية”؟
بعيدا عن القراءة الانفعالية للقارئ العادي، يُنْتَظَرُ من قراءة الناقد أو الدارس أن تكون “مُحْكَمَة” تعتمد مرجعيات ذات مصداقية أكاديمية، و آليات نقدية تطبيقية مُمَنهَجة و مُؤَطّرَة نظريا؛ شريطة أن لا نُمَيّع هذه القراءة النقدية التطبيقية بالاقتصار على “ملء خانات” و قوالب لوصفات جاهزة نُسْقِطُها تعسّفا على نصوص هي ربما منها براء؛ أو نلجأ إلى أسلوب “الإنشاء” و الزخرفة الأسلوبية لتكرار ما قاله الكاتب بصيغ مختلفة غالبا ما تُقَوِّلُ الكاتب، باسم التأويل، و مبدأ تعدد القراءات، ما لم يقله أصلا مباشرة أو تلميحا.
حدّدَ الكاتب محمد التيليسي على “عتبة” الكتاب (واجهة الغلاف) جنس عمله الابداعي؛ فسماه “رواية”؛ و بالتالي، فأي تحليل لخطاب عمله عبر الوصف (الميتا ـ لغة)، و “المسح الطوبوغرافي” لعمران الكتاب، و التفكيك، و التحليل، و الاستنتاج، و التقييم، و التعليق، لابد أن يحترم خصوصيات خطاب الجنس (الرواية)، و المجال (الأدب).
و بناء عليه، يُفترضُ، استهلالا، و من باب “الحكامة المنهجية” طرح سؤالين جوهريين:
ـ هل كتاب “أراك في كلّ مكان” رواية؟
ـ ما الذي يجعل من هذا الكتاب عملا أدبيا؟

1ـ كتاب “أراك في كل مكان” و إشكالية التجنيس:
تعريف الرواية كجنس أدبي ليس بالسهل بمكان؛ تتعدد التعاريف بتعدد المدارس و المذاهب و التيارات النقدية. كما تختلف من دارس لآخر حسب المرجعيات و التمثلات و الانتماءات، و غالبا من روائي لآخر. لكن، هذه التعددية في الرؤى لا تنفي كون جنس الرواية في تغيراته له ثوابته؛ من بينها:

أ ـ العتبة : يستشرف القارئ من “عتبة” الكتاب (جنس العمل، و العنوان الرئيس، و لوحة الغلاف.) الجنس “رواية” كما أراد الكاتب، و العنوان يوحي بذات متكلمة (شخصية رقم 1)، و ذات مُخاطبَة (شخصية رقم 2)، (بتقدير الضمير المتصل “ك” في “أراك”)، و الحدث: “أراك في كل مكان”، و الزمن (فعل مضارع دالا على الهنا/ الآن)، و الفضاء الروائي (كل مكان). و يستشرف القارئ كذلك من خلال قراءة سيميولوجية للوحة التشكيلية لغلاف الكتاب بعدا دراميا مرتبطا بأحداث متأرجحة بين محاكاة الواقع، و جموح الخيال.

ب ـ نوعية النص المهيمنة في كتاب ” أراك في كل مكان” تنتمي للسرد عبر تسلسل كرونولوجي (تصاعدي/ تنازلي/ متداخل الأزمنة…). مدعمة بآليات نظرية التلفظ لتنويع الخطاب بشكل وظيفي من سرد إلى وصف إلى حوار بتقنيات سنتعرض لبعضها في تضاعيف هذه المقاربة. تنويع يعطي للعمل الروائي تفرده كجنس نبيل في احتواء الأجناس الأدبية الأخرى من قصة قصيرة، و مسرحية، و قصيدة شعرية، و مقالة…

ج ـ البناء الدرامي: جوهر الحكاية في هذه الرواية “أراك في كل مكان” لا يبتعد كثيرا في عمقه عن نمطية الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسة أو بالعربية كما عند ألبير ميمي (تونس)، و محمد المديني (المغرب)، و ألبير كامي (الجزائر)، و لا حتى عن ما قرأناه لبعض الكتاب المشارقة مثل المصري طه حسين، و السوداني الطيب صالح؛ نمطية ما يسمى بأدب “الهجرة إلى الشمال” (الإلدورادو الغربي). روايات تسلط الضوء عن الأزمات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية في البلدان الأصلية؛ ليبيا في هذه الرواية، و حلم الهجرة إلى أوروبا الغربية (بلجيكا في هذه الرواية)، و ما يترتب عن ذلك من تداعيات ذات علاقة بالحرمان، و الحنين، و الإحباطات المتتالية، و صعوبة الاندماج في البلدان المستقبلة، و قضية الهوية، و العنصرية، و العلاقات العاطفية… روايات تمّ السرد فيها غالبا ـ كما في هذه الرواية ـ بضمير المتكلم “الأنا” كذات ساردة تعتمد تقنية “التبئير الداخلي”، و كشخصية محورية تصنع الحدث أو تكون ضحيته (كما عمر في الرواية). و تغليب الضمير المتكلم “الأنا” في ملفوظات النصوص يؤدي غالبا إلى تصنيف هذه الروايات ضمن خانة “رواية السيرة الذاتية”.

د ـ الحبكة: قد يبني القراء عدة فرضيات قراءة لرواية “أراك في كل مكان” لتعدد العناصر الدرامية للحبكة إما منفصلة أو مجتمعة؛ منها:
ـ كَأنْ تُقرأ الرواية على أنها “وثيقة” شاهدة على محطة حرجة من تاريخ ليبيا بُعَيدَ سقوط “نظام معمّر القدافي” و قبله بقليل، سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا. و ما ترتب عن ذلك من صراعات، و أزمات، و عدم استقرار، و الرغبة في الرحيل.
ـ و أن تُقرأَ كرؤيا ابستيمولوجية للشباب المغاربي و العربي هنا/ الآن لنوعية الحوار شمال/ جنوب، مع تصحيح التمثلات المتعلقة بنظرة “الآخر” (الغرب) باعتباره بهيلمانه و غطرسته و جبروته اقتصاديا و استراتيجيا و ثقافيا و حضاريا، سبب كل الأزمات و المشاكل و المآسي التي تتخبط فيها شعوب جنوب المتوسط وغيرها. و كأن “الآخر هو الجحيم” دائما.
ـ و أن تُقرأ كسيرة ذاتية بكل أبعادها العاطفية (قصة حب)، و الوجدانية (الحنين إلى الوطن)، و الاجتماعية (البحث عن الاستقرار المادي و الأسري بالشغل)، و الفكرية (جدلية الأنا و الآخر، و الهوية)، و الوجودية (متاهات استشراف غد غامض).

2ـ رواية “أراك في كل مكان” كعمل أدبي:
إن نحن اتفقنا ـ تجاوزا لكل الجدالات العقيمة أو المتنافرة بخصوص تعريف الرواية ـ على أن كتاب “أراك في كل مكان” ينتمي لجنس “الرواية” كما سماها مؤلفها الكاتب الليبي المبدع الشاب محمد التليسي، لابد من سؤال جوهري آخر:
ـ ما الذي يجعل من هذه الرواية عملا أدبيا؟
سؤال يعيد إلى الأذهان نظريات “الشعرية”، أو “الأدبية”، أو “البلاغة” (بمفهومها الشمولي) التي قاربت نفس السؤال.
و رغم كون كاتب هذه الرواية “أراك في كل مكان” المبدع الليبي محمد التيليسي في بدايات مسيرته الابداعية كروائي، قدّم عمله للمتلقي ب”هندسة” تروم مقايضة الانطباع بالدهشة، و القراءة بالمتعة، و الفضول بالمعرفة، و الخبر بجمالية المعجم و البلاغة، و ذلك بتقنيات من إبداعه الفردي، و من خلاصة قراءاته للأدب العربي و العالمي؛ نذكر منها:

2ـ 1 ـ تقنية الغرابة و التغريب: فمنذ العنوان الرئيس للرواية، يتساءل القارئ باستغراب عن هوية هذا الضمير المتصل “كً المتواجد في كل مكان. هل هو الله حسب المرجعية الدينية؟ (حيثما ولّيتم وجوهكم)؛ أم هو كائن خرافي يدخلنا إلى عالم الجن و العفاريت كما في الأدب العجائبي الغرائبي؟ (كما كتابات إيدغار بو)؛ أم أن هذا العنوان مستلهم من أدب العبث كما كتبه هوفمان و كافكا؟

2ـ 2 ـ تقنية التعتيم: تعودنا كقراء للرواية الكلاسيكية الغربية أو العربية (ذات التوجه الواقعي أو الرومانسي خاصة) التموقع زمنيا و مكانيا (الفضاء) منذ الصفحة الأولى من الرواية كما مع بالزاك و والتر سكوت، و نجيب محفوظ، و عبدالكريم غلاب… لكن الروائي محمد التيليسي خرج عن هذه النمطية ليخلق عنصر التشويق لدى المتلقي؛ إذ تأتي المعلومة بالتدريج (“شحيحة”)، فلا نكتشف مكان الحدث (مدينة لييج البلجيكية)، و جنسيته (الليبية)، و اسمه (عمر)، و انتماءه الطبقي (من أسرة غير ميسورة الحال)، و اسم حبيبته، و أصدقائه إلا بعد عدة صفحات من ربوع الرواية.

2ـ 3 ـ تقنية “الفلاش باك”: تقنية تداخل الأزمنة و عدم تراتبية السرد كرونولوجيا ليست جديدة على جنس الرواية، لكن الكاتب الليبي محمد التيليسي فاجأنا بتقنية تذكرنا بالعالم الروائي لمارسيل بروست في سلسلته الروائية “البحث عن الزمن الضائع” باعتماد تقنية “الومضات” (réminiscences)؛ فتراه يخرج من السرد إلى الوصف؛ لكن بوصف بعيد في توظيفه عما يسميه بعض النقاد “الوصف كاستراحة للقارئ”؛ عندما يصف الكاتب على سبيل المثال نهر مدينة لييج و عائلة البجع العائمة فيه، يحيلنا على علامتين (من وجهة نظر سيميولوجية) محفزتين لسرد أحداث أو أخبار جديدة؛ عائلة البجع العائمة بررت تذكره لأسرته و ظروفها المعيشية في ليبيا؛ و ماء النهر داعب شعوره بالحنين إلى مدينة طفولته و شبابه (جنزور) و المتواجدة على بعض أمتار من البحر.

2ـ 4 ـ تقنية التناص: في هذا السياق استبعد الكاتب إحالته مباشرة أو عبر التلميح على أقوال مأثورة لكتاب غيره. لقد أشار على سبيل المثال لا الحصر، و بذكاء ثاقب، للشاعرة الروسية “آنا أخماتوفا” باعتماد مشهد مُمَسرح ببطلين عمر و حبيبته التي طلبت غذاءها، فاستغل فرصة قراءتها لكتاب الشاعرة “أخماتوفا” ليوطد علاقته بها من أول تعارف بينهما. و برر ذكره للأديب العالمي (سيد أدب العبث) فرانز كافكا، بربط حديثه عن شاطئ مدينته “جنزور” بكتاب “كافكا على الشاطئ” من تأليف الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي.

2ـ 5 ـ تقنية تعدد الأصوات: رغم توظيف الكاتب لذات ساردة بضمير المتكلم “الأنا”، حاول الاستعانة للخروج من “التبئير الداخلي” إلى “التبئير الخارجي” بشخصيات أخرى في الرواية بغية تعدد الأصوات المتدخلة، و من ثَمّ تعدد الرؤى و الآراء بخصوص مواضيع شائكة فكرية/ فلسفية، و سياسية، و عقائدية؛ و ربما خير مثال على ذلك تقنية تغليب الحوار على السرد و الوصف في عدة محطات من الرواية، كما الحوار الذي دار في الجزء الثاني من الرواية بين عمر و مصطفى و حسام و حاتم بخصوص الدين، و الأخلاق، و التاريخ، و الهوية. آراء يتداولها شبابنا اليوم داخل متاهة “موت الايديولوجيات”، و سيطرة توجهات متطرفة باسم الدين، أوالسياسة…
عزيزاتي أعزائي القراء، قراءة ممتعة أتمناها لكم لرواية “أراك في كل مكان للمبدع الليبي الروائي محمد التيليسي، و إلى أن نلتقي، لكم تحيات نافذة النقد

د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *