“نحنُ بحاجة الى هُدنه مع أحزاننا الدّائمة..”
بحاجة إلى هدنة، وعقد اتفاق عدل أيضا على أن لا تهاجمنا وتأخذ منا الحرص المبالغ فيه حتى ونحن في عز فرحنا، فلتلتزم بوقتها ولتترك الفرح يعشش في قلوبنا مطمئنا ولو كان وقته ضئيلا لايكفي لسد كل الثغرات المهشمة داخل صدورنا…
قليلاً ما كنت أشعر بالسرور، والحقّ أنني كنت أجده مريحاً إلى حدّ ما، يهدّئ نفسي، يخفّف عنها أعباءها، يهذّبها، ثم يعلو بها إلى ارتفاع السحاب، ولكن هذا السرور كان يتبدّد سريعاً. كان يبدو باهتاً ومنقوصاً دائماً، كان خفيفاً وفارغاً مثل “بالون” في يد طفل صغير، بإمكان نسمة هواء مفاجئة، أن تسحبه من بين أصابعه الرقيقة، وأن تحمله إلى مسافات هائلة، ولم يكن يحتاج الأمر لأكثر من وخزة إبرة لكي يستحيل إلى قطعة بالية من المطّاط. أما الحزن فكان برغم ثقله، ينفذ لداخلي بخفّة رهيبة من مسامات جلدي، يركض في شراييني، يفتّت عظامي، يسمّم أفكاري، يحتلّ تعابير وجهي، يعبث بي، ثم يجثم فوق صدري إلى ما لا نهاية. لم أره مرّة ناقص الملامح، بل كان دائماً صحيحاً واضحاً، كان يبدو غنيّاً ومتكاملاً كوجبة أعدّتها أمُّ لولدها العائد إليها بعد سنين طويلة من بلاد بعيدة… قد أصبحت أيامنا تحتضر على أيادينا يوما بعد يوما، تتبعها أعمارنا تطوي معها الأقدام، فنراقب الإثنين ونتعلق بأذيال وبقايا صور طفولتنا البائسة، دون أن ندري إلى أين حقا يستعجلان، فهل يُعقل أن يكون الآتي مثيرا ليستحق كل هذا الاستعجال، لاسيما أنني لم أر أناسا كثر يسعدون بكبر سنهم، بل ويبدو لي أنهم يغادرون أجسادهم المتكورة، ويطلقون العنان لذاكرتهم لتعود بهم إلى هاته النقطة، تتذكر ما شاءت وتشوه ما شاءت وتزيف ما شاءت، فينتشي العجزة المساكين بروائح عقبات تلك الذكريات التي أفعمت أنوفهم ، بروائح زكية فأقف أنا حائرا لاأعرف أيهم أدهى، فهل أتقدم فقط، وأترك أيامي لرياح القدر، أم أتمسك بكل أيامي حتى أملأ ذاكرتي لذاك السن الآتي، حتى أجد ما أستنزف منه، وماسأجتره في تلك السويعات التي ستخونني فيه معظم قوى جسدي.. تغلبني الأفكار فأتقلب للجهة الأخرى، لعل عقلي يشفق علي ويوقف سيل الأفكار التي لامعنى لها وينعم علي بالقليل من النوم وانا أعلم أن الغد ليس بالأفضل… كمّ مرّة قلنا أنّ الصباحيات لا جدوى منها ما دامت تجبرنا على خلع قلوبنا مع البيجامة فور القفز عن السرير، كمّ مرّة قلنا إن هذا يوم سيء: الشّاحن قرر الاختفاء، النظارات الشمسيّة موجودة فوق رؤوسنا ونبحث عنها، القهوة تصبح فوق القميص، وقطّة عنيدة ترفض النهوض من تحت عجلات السيّارة، كم مرّة قلنا أن بعض الصباحيات، تحمل نكهة العتمة، تضيء على الكون.. لا على أرواحنا، وتعطي الجميع حقه إلّا وجوهنا المتعبة. كم مرّة قلنا إنّ الصباحيات ضدنا، ضدّ رغباتنا في الغيبوبة، لكن تبقى وحدها العلاج بعد كلّ حفلة تصدّع قلوبنا في ليلٍ مضى..
قررت أن أقوم أخيرا من فراشي لأواجه نفس الروتين القاتل، ولكم من المؤسف أن تنهض وأنت تؤمن كل الإيمان أن يومك لن يختلف عن أمسه بشيء، ستلتقي نفس الوجوه، ستدخل نفس الأماكن الميؤوسة، ذاك المكتب المختنق الذي لايبعث شيئا من الراحة في النفس، لينكب على فرز الأوراق كالعادة، ويعيد التحقق من الفضائح التي تكتبها المجلة التي أعمل فيها، يوم بلا أهداف سوى هدف إكماله فقط، من كان يظن أني أنا الذي لم يكن صدره يتسع لأحلامه، سيصير ما آل إليه الآن، تأبطت حقيبتي وخرجت متجها للمجلة، سي المحجوب يستقبلني أمام بابها بوجهه المنتفخ الأحمر، فأرد عليه التحية وأدخل فقط، لقد فقدت حتى حس الدعابة، أنا أعلم جيدا أن كل مايٓبُس داخلي يستطيع العودة ولكن هنا المشكلة المستعصية لا أعلم كيف، كيف أعيد الحياة لي، كم أن القدر ظالم حقا، كيف يُعقل لزميلي الذي درست معه في المدرسة، الذي لم يدخل يوما حصة، والذي لم يسلم من ركلاته أحد من صبيان حيه بما فيهم أنا، أن يستأصل منه حلمه هو الذي كان أجمل زملائي وأذكاهم وأكثرهم أناقة، ويسافر إلى أورپا، بينما أنا أتعفن داخل مكتبي هذا، وتتآكل أحلامي المتبقية يوما بعد يوم… لكن مع كل هذا مازلت أردد مع نفسي أني مدين للوحدة، مند أن تركتني “تلك الفاتنة” وأنا أردد ورغم ذلك أنا مدينٌ للوحدة،
حتى وهي تخرط جسدي، وتوزعه على كراسي البيت لتهيئ طقسًا ما، طقسًا يشبه استقبال الضيوف لعشاء خفيف يشبه روتينية الأعياد الثقيلة يشبه حفلات الزفاف الموسمية ورغم ذلك أنا مدينٌ للوحدة، حتى وأنا أربي الأعلام على يدي، فتكبر كثيرًا ويضيق الوطنُ أكثر حتى وأنا أكشف رأسي للمارة الوحيدين مثلي وهي تمنحني اللغة الوحيدة،
وهي تُصّدر لي المشاهد المتتابعة عن الحزن حتى وأنا، اهذي واهذي واهذي
أنا مدينٌ للوحدة…”…
(تلك.. سمراء فاتنة دوماً كالقهوة والشوكولاطة، وحينما أغازلها يتضرج الأحمر على خديها احمرارا بهيا، و يبقى الوصف الأدق لدخولها حياتي هو أنها أتت كالمعجزة تماماً لقد وجدت نفسي فيها، جعلتني اخرق جميع قوانيني و خطوطي الحمراء بلا وعي ولا إدراك مني، و كأنها مارست على عقلي التنويم المغناطيسي و على قلبي أيضاً..
كنت نادراً ما أمسك هاتفي أو انتظر رسالة من أحد أو حتى أجيب على الرسائل التي تصلني، الآن أصبحت اتفقد هاتفي بين كل حين، بكلمة منها ترسم على وجه قلبي تلك الضحكة التي لم أعرفها إلا معها و بكلمة أُخرى ترفعني حتى حدود الشمس و أنا في أشد حالات اكتئابي)…
عدت إلى المكتب وأنا أردف حسي إلى عصفورة وديعة مالت من النافذة إلى الداخل، فأغمضت عيني ولم أدر فيما أفكر، وفجأة ارتعدت فرائصي كلها، وانعرض شريط الذكريات الكريه (شريط) برائحته المقيتة على الوضع السريع، طردي من المدرسة، وفاة والدي بعد علمه بعلاقتي الحرجة مع الفتاة التي قررت أن تهجرني لعلي أنعم بالسلام، وهي لا تعلم أنها لم تزد الطين إلا بلة، وضاعفت مشاكلي أضعافا، إذ كنت في أشد الحاجة إلى ذاك الوجه الملائكي كاعتذار من الحياة على ماتطعنني به يوما بعد آخر، لكنها آلت للحل الأثقل على قلبي المحتضر، تذكرت صورة أمي أيضا، التي ماتخلت عني يوما عندما فعل الجميع، والمزيد من سيل متضارب من الذكريات الأليمة التي غشيت الخمس سنين الأخيرة من حياتي، فضاق به قلبه، وضاقت بي ربطة العنق التي رحت أفكها بكلتا يديي، شعرت بالألم داخلي يعتصر كياني من جمجمتي إلى أسفل قدمي، لم أدر ماحلّ بي، ربما أنه كتم أكثر من اللازم، وحان الوقت،
وقت ماذا؟
شعرت برغبة في التحرر، من ماضي، حياتي، ذاكرتي، ومن جسدي إن توجب الأمر، أريد حريتي فقط ولشد مانسيت طعمها، كما نسيت طعم السعادة أيضا، على الفور قمت فهبت العصفورة محلقة إلى الشجرة قرب النافذة أما أنا فقد قصدت أحد البنوك وأخرجت كل مابحوزتي مما جنيت من ذاك العمل اللئيم، اتجهت إلى المطار وقد استشعرت النبض وهو يعود لقلبي، والدم الساخن يسري في عروقي…..
ذخلت البيت وفي حوزة يدي تذكرتين.
أمي فلتجمعي ثيابنا، ابنك كاتم ولأنت أعلم بما به من عينيه، سنرحل غدا لعلي أولد من جديد في بلد جديد، لعلي أطهر ما لوثته من كتاب حياتي بيدي وأقتلع تلك الأوراق الكريهة، باركي لنا سفرنا ياأماه وهلمي، أرض الله واسعة، ولاشيء يشدني إلى بلد لاتذكرني إلا بظلم الحياة، وغفلة عين القدر.
مبدع انت يا صديقي . متمنياتي لك بالتوفيق والنجاح المستمر ❤️