جبران خليل جبران في مرآة ميخائيل نعيمة بريل – 2023 / بقلم: ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر



عقب عودته من غربته في أمريكا عام 1932 اعتزل ميخائيل نعيمة في الشخروب ليكتب كتابه المهم عن صديقه جبران خليل جبران الذي دامت صداقتهما حوالي خمسة عشر عاما من قبل تأسيس الرابطة القلمية إلى تاريخ وفاة جبران عام 1931.
في كتابه «جبران خليل جبران حياته، موته، فنه، أدبه» في 356 صفحة كان فيها الكاتب فنانا أكثر من سارد للتاريخ والمؤلفات، وذلك لن يغني القارئ في الولوج إلى كنه الروح الجبرانية وماهية إبداعها، في تمردها وفي رفعتها واصطدامها بضرورات العيش ونزوات الجسد، وقد استهل الكاتب الكتاب المهم بمقدمة أبان فيها عن أسباب الكتابة عن جبران بشكل مختلف، وهو الكاتب والشاعر الذي طارت شهرته في الآفاق منذ قصيدة «المواكب» وكتبه اللاحقة «دمعة وابتسامة» و «عرائس المروج» و «النبي» وغيرها وهو كذلك الرسام الذي أقام المعارض وتسابق الأغنياء إلى اقتناء لوحاته، لقد كان من تلك الأسباب التي سردها الكاتب بموضوعية وأمانة مطالبة الكثير من الأدباء والفنانين الكاتب نعيمة بالكتابة عن جبران، كونه عاشره وساهم معه في العمل في الرابطة، ولكن بروح موضوعية لا تغرق في المديح، حتى تجعل جبران الإنسان أسطورة فوق المكان والزمان. وقد وقف نعيمة على الكثير من أسرار حياته وعرف منها الكثير ولا يجدر به السكوت عنها ما دام جبران من صناع التاريخ الأدبي الحديث وحياته صارت ملكا للتاريخ ولقرائه يستجلون منها غوامضها وعلاقتها بحياة جبران الفكرية، فهل يخون الكاتب القارئ ويسكت عما ليس يعرفه القارئ من حياة صديقه؟ وهو لا يقصد البتة بهذه الكتابة الإساءة إلى صديقه والحط من قيمته، أو تقدير نفسه وإبرازها على حسابه، ذلك أن مبالغات كثيرة اعتبرت جبران أسطورة، أو هو من أنصاف الآلهة ومخرقات كثيرة رسمت له صورة في ذهن القارئ والناس بعيدة كل البعد عن صورته الحقيقية، كما عرفها نعيمة وخبرها ومن تلك المبالغات ما رآه نعيمة أثناء زيارته لضريح جبران في دير مار سركيس في بشري، والعبارة المكتوبة عليه (هنا يرقد نبينا جبران) التي تحولت بعد النقد إلى (بيننا) مثل هذه المبالغات أدت إلى تشويه صورة جبران، مع أنه ظل إلى الرمق الأخير في صراعه مع نفسه لينقيها من كل شائبة، ويجعلها نقية جميلة كالجمال الذي لمحه وعاش له وبثه بسخاء في رسومه وشعره، ثم هناك التشابه بين حياة نعيمة وجبران، فكلاهما شاعر وكاتب، وكلاهما أدركا أن وراء المادة روحا كلية تسيّر الكون، وإن اختلفت الحياتان في التفاصيل.



حياة جبران
كتاب نعيمة جدير بالقراءة، لأنه يسلط الضوء على حياة جبران في أمريكا إلى أن وفاه الأجل في 10 نيسان/أبريل 1931 وهذه المرحلة مهمة في تكوين جبران الفني والفكري وعلاقته بأسرته وأصدقائه من أعضاء الرابطة القلمية. في الجزء الأول الذي شاء له عنوانا أطلق فيه العنان لخياله «الشفق» تناول فيه نشأة جبران في بشري في لبنان وظروف الحياة القاسية وعلاقته بأبيه الذي كان مدمنا ومتخليا عن مهامه الأسرية، إلى الحد الذي هاجرت فيه الأسرة إلى أمريكا أسوة بكثير من الأسر اللبنانية التي عانت الأمرين من جدب الحياة واستبداد الأتراك وإثقالهم كاهل الفلاحين بالضرائب المكلفة، وهذه المرحلة لم يعرفها نعيمة، إلا ما حكاه جبران له ثم تأتي الهجرة إلى بوسطن، وليس الطريق مفروشا بالورد، فهناك معاناة أخرى كالنظرة الدونية إلى كل عربي، والكدح وشظف العيش، وتشاء الظروف أن يموت الأخ ثم الأم ثم الأخت ولم يتبق في دنيا جبران في أمريكا من أسرته غير أخته ماريانا، وقد أظلمت الدنيا في عينيه إلى الحد الذي كان يتعاطى فيه المخدر ليتناسى آلامه، لولا أن ساق القدر إليه ماري هاسكل المعجبة بشخصه وبفنه فتعهدته بإرساله للدراسة في باريس، حيث التقى وتعلم من رودان النحات العالمي ثم رعاية معارضه في أمريكا ومساعدته ماديا 75 دولارا شهريا حتى آخر يوم في عمره.

الصومعة
حين عودته أقام في نيويورك في شقته التي سماها الصومعة متأملا وقارئا ورساما متنعما بقرب هاسكل منه ورعايتها له، إلى أن يأتي الحدث المهم وهو التقاء لفيف من الشوام السوريين واللبنانيين المقيمين في نيويورك والذين كانت لهم ميول أدبية ورغبة في إحياء الأدب وبعثه من سباته بترك التقليد والتكلف وميوعة العاطفة، والانصراف إلى الحياة، بما أن الأدب هو للحياة التي حلموا بها لأوطانهم العربية حرة كريمة في كنف الرخاء والتقدم، فتأسست الرابطة القلمية في نيويورك يوم 20 أبريل 1920 وعهد إلى جبران عمادتها وإلى نعيمة أمانة سرها ووليم كاتسفليس أمانة مالها، وإليها يعزى الفضل في تعريف المشارقة بأدب المهجريين عموما، وكان يصل لماما عبر مجلة «الفنون» أولا التي أسسها نسيب عريضة، ثم السائح لسان حال الرابطة، التي أسسها عبد المسيح حداد. وقد تلقف القراء العرب في المشرق إنتاج الرابطة بكثير من الاحتفاء، خصوصا ما كان ينشره جبران من خواطر وأشعار وقصص يعطي فيها للخيال القسط الأكبر مازجا بين روحه الثائرة والطبيعة منتقدا كثيرا من الخور والجبن في الإنسان، إلى الحد الذي يبتذل فيه وجوده ويرهن حريته، وعلى الرغم من النقد الذي وجه إلى إنتاج الرابطة من قبل المشارقة كونه هش البناء اللغوي حتى كتب جبران مقالته الشهيرة «لكم لغتكم ولي لغتي»، إلا أنه كان يكتسح ساحة المقروئية أيما اكتساح. لقد خاطبت تلك النصوص الشعرية والنثرية الوعي الباطن في العربي المرتهن للتاريخ والتقاليد، وهي عبودية أشد وأنكى فأحدثت استجابة كبيرة، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالشهرة التي تمتع بها جبران والصداقة العميقة والحارة التي ربطته بأصدقائه أعضاء الرابطة والمؤلفات المكتوبة بالعربية والإنكليزية التي لاقت احتفاء كبيرا، والرسوم التي حظيت بتقدير كل معجب بفن نافذ إلى بواطن العبقرية الأصيلة لم تجد جبران فقد كان يستعد لمغادرة العالم في ريعان العمر، مهدما مبقور البطن كبروميثيوس قابس النار مشدودا إلى صخرة الوجود، وقد حضر نعيمة احتضار الكاتب ووصفه بتأثر شديد، ولكن بشجاعة فنعيمة لا يرى في الموت إلا رحلة تتقمص فيها الروح جسدا آخر وتخوض في معمعان الحياة بجلد وكفاح حتى تتطهر من جميع خطاياها، وتكون جديرة بلقاء الفرح الأبدي في رحاب الله.
ضم الكتاب ملاحق مهمة كجنازة جبران في أمريكا، ثم نقله إلى بشري مسقط رأسه ودفنه في دير مار سركيس ووصيته والرسائل المتبادلة بينهما وصورا خاصة من ألبوم نعيمة، ما يجعل من الكتاب بلمسته الفنية وصدقيته وموضوعيته وثيقة أدبية وتاريخية لحياة جبران وفنه وأدبه، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب.

نساء جبران
لقي الكتاب أثناء صدوره ترحيبا كبيرا من قبل الأدباء والنقاد، وقد أثنت عليه ماري هاسكل نفسها، لكن في المقابل أثار على الكاتب زوبعة من النقد والاعتراض والشجب، كون الكتاب يكشف المستور ويعرّض بجبران ويشهّر بنقاط ضعفه وهي نقاط ضعف كل كائن بشري وما كان يليق بنعيمة أن يتعرض إلى ذلك، وقد أفضى جبران إلى رحاب الله، وانصب النقد على تناول نعيمة بإسهاب علاقات جبران النسائية منذ أن كان في بداية الشباب في بوسطن، وقد كتب بشأن أول علاقة (ودع جبران ملاكه الحارس نحو الساعة الحادية عشرة من الليل، ومعها ودع صباه وعفة الصبا وطهارته وأحس عند خروجه من ذلك البيت وكأنه خارج من أتون).

كما تعرض الكتاب لعلاقة جبران بماري هاسكل، ثم إيميلي ميشيل الفرنسية المعلمة في المدرسة التي كانت تديرها ماري هاسكل، وهكذا توزع جبران بين عقل هاسكل وجسد ميشيل، وكتب نعيمة بشأنهما كذلك (إن جبران تمنى لو يحل عقل ماري في جسد ميشلين) ثم علاقة أخرى نشأت مع معجبة ظل جبران يعاني الأمرين بسبب رغبته في السمو والتطهر والاحتفاء بالجمال الروحي الذي مجده، ولكنه يقع في تناقض في ترديه في عالم الشهوة وما يجره ذلك من إيذاء لروحه الطامحة إلى كل جمال روحي، الكامن خلف الظواهر المادية، ولم يكن تصور رد فعل الكثيرين إزاء هذه الكشوف ليمنع نعيمة من مواصلة الكتابة والشهادة، إنصافا للحقيقة وللأدب وللإنسان منبها إلى بشرية جبران لا ملائكيته وأسطوريته وصراع الخير والشر في نفسه وترديه بين عالم المثل وحواجب الحس، وجبران نفسه أشاد بلقاء الأرواح فكيف يسف هذا الإسفاف:

والحب إن قادت الأجسام موكبه
إلى فراش من اللذات ينتـحر

ولم يكن هذا التناقض في نفس جبران وصراع المادة والروح في داخله ليغيب عنه قد قال مرة لنعيمة (أنا نبأ كاذب، هو ضعف تردى برداء القوة وتصنع امتسح بمسحة الجمال وشهوة نهمة بدت كأنها العفة الصائمة فرأى نفسه نبأ كاذبا وهاله أن يكون ذلك النبأ في حضرة الطبيعة التي لا تعرف لا الكذب ولا الغش).
لقد جاء جبران في ظرف تاريخي كانت الأرض فيه عطشى، فكانت تلك الشآبيب الجبرانية بركة خير، ولكنها تجربة تنضاف إلى تجارب إبداعية دون تعمد الغلو والأسطرة، فهو روح صفت للحق فاصطفاها وتعلقت بعالم الروح والقيم والمثل في مكابدة أمام نوازع المادة، وحجب الحس ولئن تعثرت مرة ومرة فقد كانت تهفو دائما إلى عالم ما وراء الحجب حيث مستودع الأرواح ومكمن الفضائل وهذا ما كان يعبر عنه في شعره وفي سائر مؤلفاته فهو أعظم كاتب ظهر في الشرق منذ أجيال وهو متفرد ليس في هذا الشرق وحده، الذي لم ينجب بعد رسامين معدودين، بل في الغرب الذي يعد رب الفن وموئل الفنانين.

الثورة الجبرانية
لقد كان أحد أسباب الثورة الجبرانية هو عدم توافق تأملاته وانطباعاته ومواقفه في عالمه الداخلي مع سلوكياته في العالم الخارجي فبعد النجاح الذي أحرزه ككاتب ورسام صار يسعى إلى نيل رضا الناس وإعجابهم وتضخيم رصيده في البنك، وأن يكون عند حسن ظنهم متلطفا متوددا متصنعا ليزيد في تعلق الناس به، ولكنه في الصميم كان يرفض ذلك ويثور على نفسه ثورة اللاهوت على الناسوت، وهذه كانت إحدى مآسيه ومكامن الصراع فيه. وكان أمين الريحاني من أكثر المناوئين للكتاب وكثير ممن تناولوا نتفا من الأخبار وتداولوها ولم يقرأوا الكتاب، فهم يرون كما يرى الريحاني أن جبران منزه عن كل عيب، بل هو النبي الذي ألف النبي، وقد هاجم الريحاني نعيمة كونه شهّر بجبران وتناول أمورا تافهة ولم يستر الضعف البشري، فالكتاب أنانية جارحة واسترسال في التزييف والتحقير وسخافات سيكولوجية، وليس من سبب لذلك إلا الحط من قدر جيران، ليبرز نعيمة وكان رد نعيمة قاسيا وغير معهود، فالمألوف هو صيانة فمه عن الابتذال والعزوف عن قعقعة السلاح في المعارك الأدبية في الصحف، ولكن الريحاني هيج غضب نعيمة فرد عليه بمقالة نارية غير معهودة هي الأولى والأخيرة في حياته، التي سوف تمتد إلى قرن ومن تلك الردود أن الريحاني يبيض صفحته مع جبران الذي نقم عليه وجعله منبوذا في الرابطة، ثم هو يحاول القضاء على نعيمة بعد بزوغ نجمه في سماء الأدب وخوفا على مكانته وهو الذي كان يصف أدب جبران بأنه عاطفة مائعة تتصنع الرقة. سرعان ما خبا هجوم الريحاني وترسخ في الساحة الأدبية كتاب نعيمة لقيمته الأدبية والتاريخية، فقد ذهب الزبد جفاء وبقي ما ينفع الناس وطلاب الأدب. هو كتاب تاريخي في كل المقاييس، يسلط الضوء على ما خفي من حياة جبران وصراع الفنان بين عالم الروح وعالم المادة، وتوقه إلى الحرية الشاملة، ثم هاجس الإبداع والنزوع نحو الكمال ذلك المبتغى الذي يسعى إليه كل عبقري، دون أن يبلغه كما يسلط الضوء على ظروف نشأة الرابطة القلمية ودورها في تحريك وإثراء الساحة الأدبية العربية، ويكشف جانبا كبيرا تاريخيا من معاناة اللبنانيين والسوريين في المهجر في بداية القرن، فقد كانوا ينتزعون اللقمة من بين شدقي فم الأسد وصدق نعيمة إذ وصف الحياة في أمريكا كأنها في دردور، أي دوامة تأخذ من عقل المرء وقلبه ووجدانه، وهو الذي تركها عائدا في ما بعد ليستقر بصفة نهائية في لبنان، وليعتزل الدردور، واجدا السكينة والسلام اللذين طالما تغنى بهما في أدبه الشعري والنثري في أحضان الشخروب.

ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر


المصدر: جبران خليل جبران في مرآة ميخائيل نعيمة (alquds.co.uk)



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *