في وادٍ سحيق تحرسه التلال، وتنسدل عليه أشجار الغابة كسُتورٍ من الغموض، كانت تعيش ثعلبة تُدعى دهية، اشتهرت بين سكان الغابة بدهائها الشديد ولسانها المعسول، لكنها كانت تُخفي قلبًا لا يعرف الوفاء، ولا يرعوي عن الخداع والمكر، وذرفت كثيرًا من دموع المكر، لا شفقةً، بل طمعًا في نيل ما ليس لها في مقامه.
ذات يوم، شحّ الماء في الوادي، وجفّ الجدول الذي كانت تشرب منه الحيوانات وتغتسل. فهرعت الحيوانات إلى اجتماع طارئ في ظلّ شجرة البلوط العتيقة. قالت الثعلبة دهية بصوت مملوء بالحكمة المصطنعة:
-لا حلّ لنا سوى أن نحفر قناة توصل الماء من النبع البعيد إلى جدولنا اليابس.
فرحت الحيوانات بالفكرة، واتفقت أن يعمل الجميع صباحًا. بدا الاقتراح نبيلًا… لكن نية دهية لم تكن كذلك.
قبل أيام، تسللت الثعلبة إلى النبع سرًّا، وشقت سردابًا صغيرًا يقود الماء إلى مغارتها المخبّأة في جوف التلّ. وبينما كانت الحيوانات تكدّ وتكدح تحت الشمس، كانت دهية ترفل في الماء البارد وتأكل التين والبلح وقد نبتا على حوافّ النبع المسروق.
بعد أسبوع من التعب، بدأ الشكّ يتسلل إلى قلوب الحيوانات، ولم يظهر للماء أثر. عندها رفعت الذئبة الشابة، نَاهِدة، عينيها الحادتين وقالت:
-هذا ليس طبيعيًّا… الماء لا يضلّ طريقه إلا إذا دلّه أحد.
وساد الصمت. واقترح عصفور الدوري، الخفيف الظل والذكي، أن يُراقب الجو من فوق:
-دعوني أُحلّق الليلة، فالعين التي ترى من السماء لا تخطئ.
وفي الليل، وبينما سكنت الغابة، طار الدوري يحوم بصمت فوق التلال، حتى لمح خيوط الماء تتسلل من النبع وتختفي داخل مغارة محجوبة بين الصخور. اقترب بخفة، وسمع صوتًا خافتًا:
-هنيئًا لي… الماء لي وحدي!
عرف الصوت فورًا… إنه صوت دهية.
في الصباح، اجتمعت الحيوانات، وجاء عصفور الدوري يرفرف بحماسة، فروى ما رأى وما سمع. غلت الدماء في عروق الذئبة ناهدة، وقالت بصوت جهوري:
-خانتنا الثعلبة! ونحن نحفر ونتعب، كانت تسرق الماء وتضحك علينا!
خرجت دهية من مغارتها متظاهرة بالبكاء:
-أنا؟ مستحيل! إنكم تغارون من ذكائي! الدوري كاذب! والذئبة لا تحبني منذ زمن!
لكن لا الماء كُذّب، ولا صوتها الخائن نُسي.
قررت الحيوانات طرد دهية من الوادي، وأقسموا ألا يُسمح لمن يخون الثقة بالبقاء بينهم.
وهكذا، خرجت الثعلبة تجرّ ذيلها خلفها، بين صخور القفر، لا ماء يرويها، ولا أنيس يُصغي لها. كان مكرها كفيلاً بأن يُنهي كل شيء… فلا الذكاء يُغني عن الوفاء، ولا الحيلة تُنقذ من سوء الطبع.
ذة. سعيدة محمد صالح / تونس
