نبض المكان وحرير الذكريات (الجزء الثاني) / بقلم: ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين


عمري ينطلق وقطار المطالعة يجري بسرعة كبيرة، السكك الحديدية تخرج من اصابعي التي تمتد إلى رفوف الكتب وقد تحولت إلى أصابع ديناميت تفجر الكلمات، لتحولها إلى سهول أركض فيها بحرية وعشق مجنون للكلمة والحرف وأخوض الصفحات المجهولة، أقتحمها وأفك طلاسمها وعذريتها.


قرأت ديوان “الرحيل” وصور النسوة اللواتي يبكين ويحاولن حجب دموعهن عنا، وصورة الرجل الذي صعد الى “السدة” ونزوله وهو متأبط رزمة الكتب والدموع تترقرق من عينيه ما زالت تثير في نفسي الوجع.


سألت أمي بعد ذلك بسنوات عن النسوة اللواتي كن يبكين، فقالت:
مسكينات قريبات الشاعر “مطلق عبد الخالق” والشاب الذي صعد الى “السدة” مطلق ابن شقيق الشاعر.. فقد أصر صبحي شقيق الشاعر على تسمية ابنه مطلق تيمناً بشقيقه، وأيضاً بعد وفاة أخيه جمع قصائده وأصدرها في ديوان حمل اسم “الرحيل” وقد قام بطباعته في بيروت عام 1938 و البيت الذي نسكن فيه هو بيت الشاعر الذي مات بحادثة القطار قبل النكبة، وقد تركت عائلته البيت عام 1948 على أمل العودة، ولكن الذي جرى لم يكن في الحسبان فقد أغلقت الحدود وعاشوا في الشتات لاجئين، لذلك لا تتعجبي من منظر النسوة وهن يبكين.


وكانت رزمة الكتب المخبأة فوق “السدة” هي ديوانه والنسخ الوحيدة الباقية من عام 1938،
وقد حافظت عليها أمي ولم تفرط بها، بل كانت تقوم بلفها حتى لا تتلوث عندما تضع تنك الزيت أو المؤن الأخرى.
عام 1977 التقيت مع الشاعر ورئيس البلدية آنذاك توفيق زياد وطلبت منه تصليح الشارع المؤدي الى بيت الشاعر مطلق عبد الخالق واطلاق اسمه على الشارع.. ووعد بالتصليح.. ومرت سنوات وكنت كلما التقي به في مناسبة أذكره بوعده ومات توفيق زياد ومات الوعد.


قبل عدة سنوات التقيت مع خطيبته (خطيبة مطلق) عجوز يحوم حولها احفادها وسألتها عن ذكرياتها مع مطلق… ضحكت.. بانت أسنانها الاصطناعية.. وقالت بحسرة.. أيام.. ولم تكمل.. أمي نبهتني الى خطورة خيالي الواسع عندما قالت لي: في تلك السنوات هل كانت العروس تعرف خطيبها، قد تكون رأته مرة أو مرتين.


جلست مع شقيقته – أم أسعد – قبل وفاتها كانت تسكن في ذات الحارة وقد حدثتني عن شقيقها “مطلق” مع أن الذكريات يحيطها ضباب وخيالات وآبار قديمة مغلقة، التسلل اليها نوع من اثارة الحزن الرابض، الا أنها تذكر شقيقها وهو منكب على الكتاب.. هادىء.. صوته منخفض.. علاقاتها به علاقة أخ يناقش ويحاور ويكتب ويستقبل الاصدقاء ومعارفه المهمين في المجتمع، يكتب في الصحف المقالات والشعر والمستقبل مفتوح أمامه، ووالدها كان يصر على أن يتعلم، وهي بنت صغيرة تنظر الى اخيها كعملاق وقوي يرفع الرأس لكن موته كسر ظهورنا، لقد قصف مثل الوردة، قالتها وتفجرت دمعة حبيسة من ينبوع قد ردم منذ زمن طويل.


تزوجنا و خرجنا من البيت الواحد تلو الآخر، هذه سنة الحياة.. وبقي البيت الذي ولد فيه يوما شاعر فلسطيني كبير يتغنى النقاد والقادة بشعره وباسمه، ولكن لا أحد يهتم ويحافظ ويقدر آثاره، فالطريق ما زال كما هو مليئ بالمطبات والصعوبات والبيت يحاول النهوض ويقف بفضل الترميمات البسيطة لكن يعاني من التساقط من هنا وهناك، لا أحد يعرف من أهل مدينة الناصرة أن في تلك الحارة المخبأة في ظل العمارات العالية بيتاً كان يوماً مهداً لشاعر لم يحظ باهتمام ورعاية.


أحد أقارب الشاعر يطبق المثل الشعبي – ما بحك جلدك غير ظفرك – قام بجمع تراث مطلق عبد الخالق واصدر ديوان “الرحيل” بحلة جديدة، ويجمع كل شيء كتب عنه، ويملك الكثير من البرامج الثقافية والأدبية التي يريد بواسطتها ترسيخ قيمة هذا الشاعر الذي مات شاباً قبل أن يفرز عسله بعد، نتساءل نحن أين مؤسساتنا الثقافية؟؟ ان الشعب الذي لا يملك ذاكرة تحترم مبدعيه ورجاله ونساءه الذين قدموا له لا يستحق الحياة، فليس بالشعارات وحدها تحيا الشعوب وترتفع قيمتها .

ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين

*أنقر لقراءة الجزء الأول



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *