تتوسط ساحة المدرسة دائرة كبيرة مركزها أخرى كمزهرية، شرقا تنحني نخلة طويلة تقابلها نخلتان متفاوتتا الطول غربا، يحفهما عش، على ممر مائي محيط الدائرة المجزأة إلى عدة أجزاء متساوية تشع خضرة برسيم طري، ووردة كشامة مليحة على خد أسيل تعلن بهجة الربيع بورودها المتبرعمة المتفتحة حماية شويكات بنية لا تخيف عيون الشغب.
على الجناح الشمالي المرصوص أربع حجرات سميكة الجدران، عالية السقوف، يتعانق مزيج أحمر وأصفر على بهاء نوافذ كبيرة خضراء زجاجية، تعلوها أخرى صغيرة تفيض ضياء على نور الحجرات المطلية زهرة نوار الشمس.
من هذه النوافذ العليا واللوح سيل كتابة، لفت انتباه الفتى حمام يطعم صغاره في صيء خافت لا يود إزعاج الدرس، وطورا آخر في نافذة مجاورة تبادل احتضان البيض، وعلى الساحة أثناء وبعد وجبة العدس أو الفاصوليا وغيرهما من الوجبات اليومية، إلى جانب التلاميذ يمرح الحمام دون خوف في التقاط ما تساقط، وما تمنح الأيادي الصغيرة الناسجة لعلاقة يسودها الود والاحترام.
تناسى الفتى الأمر، لكن خرجاته الصباحية لاستنشاق هواء نقي، تضرب له موعدا مع الحمام أمام باب الرحى، ثم وهو يجوب الفضاء بجناح منبسط، وخلال الضحى لحظة لعب الكويرات يسمع طقطقة الأجنحة، واسترسال الهديل ومتعة مشاهدة المطاردة والتودد فالعناق ودفء اللقاء والارتخاء، على جدار واجهة البيت الذي يضج صياء وهديلا وهمهمة.
في غفلة من الفتى اختمرت البذرة وتفتحت الزهرة، حيت لا يذكر كيف ساقته قدماه إلى دكان الحاج، الرجل الأسمر القصير القامة، الدامع العينين، بجلباب بني، وبين سبابته والوسطى سجارة سوداء، جوار قفف تحوط أنفاس أرانب مختلفة الألوان وردية العيون والركن المحاذي ديوك ودجاج وحمام مزركش.
تردد الفتى على الحاج فابتاع زوجين، وحلمه أن يرى منقار حمامه فضيض مكسور ساق السنبلة والخشاش المعدين له قبلا لبناء عش لن يأتي، عاود الكرة باقتناء طرحة صغيرة على أساس أن تكبر تحت رعايته، جزء سعف النخيل في استعجال نقله، تحقق المرام لكن العش لم يفز بإشراقة الوضع.
تمت مشاركة الحاج في الأمر، فكان رده:
-ربما يعود السبب إلى كونهما ليسا من طرحة واحدة…
حار الفتى بعد أن جرب الحمام الكبير والصغير ولم يلبيا المبتغى في الجلوس إلى فراخ تنتظر حب أبويها المنداح حبا وماء.
بات العاشق يسأل عن أحوال الحمام صديقه الذي ينام ويستيقظ على رفيف زغب وهديل مختلف الألوان، والذي كانت أجوبته قصيرة باردة.
بقي الفتى يحلم بالحمام وصغاره وهديله/ الصلاة على النبي وبتصفيقه الثناء المطاردة الغرامية والدفاعية التي تتوجس خطرا، وكذا التحليق عاليا حول الدار، ثم السعي إلى البيادر خماصا وبطانا تعود وجوقته طرب يذيب الصمت، لحظة لها يرقص الفتى على رجل واحدة.
تأخر الحلم الحمامي إلى أن جاءت خالته زيارة عابرة، ورأت اهتمامه بغسل وتغيير ماء الجرة المكسورة، ونثر حب القمح، فوعدته بفرخين.
طالت الأيام، وطال معها الانتظار، حتى عاد صاحب الدراجة الزرقاء، ومحملها فرخان أبيضان منقطان أزرقا يميل إلى السواد ظهرا وأجنحة وفوق الرأسين.
لم تطل إقامتهما، حتى بدأا في تأثيت المطرح، ووضع البيض، وكأنهما على علم بشوق العاشق إلى هذا الفرح الغامر، وإشباعا لرغبته، كانا كلما فرغا من واجبهما نحو صغاريهما، أسرعا إلى تهييء مبيت ثم وضع لؤلؤتين، ولا تسل عن سرور الفتى، المتصدق لهذا الدفق صدقة تحفظه وتزيد من خصوبته التي غمرت المسكن، نسلا لا يختلف كثيرا في طرزة ريشه عن ريش الأبوين الملتزمين بالمستقر، فلم يبرحاه في طلب الحب كما يرغب العاشق.
صادف هذه الفرحة أن اشترت الأسرة منزلها الطيني، فكان الرحيل التدريجي لمتاع قليل على أياد صغيرة تنوء تحت حمل خفيف ثقيل، إلى أن تجرد الوالدان، ووضعا حدا لكل تقاعس، وأخر عودة إلى البيت الأول مساء والأجنحة انكماش وغفوة، لتنقل داخل علبتين كبيرتين وطرفا الأجنحة عقدتا خيط أحمر أزرق أخضر وأصفر ريثما يكون الاستئناس، بادر الأبوان التحليق، ثم تبعهما الباقي والفتى العاشق لا تفوته مشاهدة رقصة الهديل واستعراض النفوش المتباهي ونصف فتحة الجناحين وجر الذيل تليه بضع خطوات الكبرياء والانتشاء، ثم الهديل والالتحاق بأعلى البيت فالعودة إلى الرف ، فالسطح ذو القشرة الاسمنتية المشققة.
في منتصف ليلة صيفية حارة، والكل نيام ذعر الحمام الكبير فطار، ليعود بعد يوم، ثم غاب الى الأبد… ومثل ما أقبل الحمام سريعا أدبر سريعا، وقد خلف الإشباع والنظافة والصبر والتأمل، وإن أشياء الحياة تبدأ صغيرة ورويدا رويدا تكبر، تماما كما هو حال عشه.