من وحي بهاء الكتابة / بقلم: ذ. مجد الدين سعودي / المغرب


استهلال
في الكتابة نشوة الإبداع وشهوة الإمتاع وقوة الإشعاع.
في الكتابة نتجرد من العالم المادي ونغوص في أعماق عالم الخيال الجميل واللامادي، فيكون الإبحار بطعم الحروف البهية.
ان جنة الكتابة لا يدخلها الا المؤمنون بقدسية الحرف، والمبشرون بجنة الكتابة متميزون، مناضلون، مبدعون، تحيط بهم ملائكة الحرف وأنبياء الكلمة، إنهم يؤمنون حد الاستشهاد بتوهج الحروف البهية ومخاض الخيال وألم ولادة إبداع بهي.
في مدينة الكتابة الأفلاطونية، يتجرد الكاتب من الحقد والبغضاء ويتطهر بماء صفي ويصلي في ملكوت رباني.

1- في قوة وانبعاث الكتابة
في خشوع الكبار يكتب فرانز كافكا: (الكتابة شكل من أشكال الصلاة).
في الكتابة يخرج طائر الفينيق من رماده، ينبعث حيا، ويهتف: (حي على الكتابة)، وزرقاء اليمامة واسعة النظر والرؤيا، ترى أكثر كلما قرأت وتعمقت أكثر.
لهذا تكتب أحلام مستغانمي: (الكتابة بوح صامت، وجع لا صوت له).
الكتابة وحي، قراءة عميقة، الهام لامتناه، خارطة طريق.
يختنق الكاتب عندما لا يكتب، لكنه بالمقابل يحيى ويبعث من جديد عندما يكتب، رغم أن (القلم يجرح غالبا أكثر من السيف) كما يقول المثل الدانمراكي.

2- في إرادة الكتابة
الكتابة هي إرادة الحياة والمثل اليوناني يقول: (إذا أردت أن تصبح كاتبا، أكتب).
الكتابة عزيمة وإصرار، الكتابة بوح معبر عما يشعر به الكاتب.
الكاتب الحقيقي لا يهاب الحقيقة، ولا يكتب إلا من أجل الحقيقة، وله إرادة الحياة والسفر في أشواك وشعاب الواقع المرير.
وها هو الروائي أومبيرتو ايكو يكتب: (أنا أكتب ما أكتبه).
للكاتب إرادة من فولاذ، يستمد قوته من حمولته المعرفية، وكلما قرأ أكثر كلما توسعت مداركه وخياله وامتلأ عشقا للثقافة والكتابة، لهذا تبقى إرادة الكاتب من فولاذ ابداعي وبهاء إنساني، لأن إبحاره في الثقافة الإنسانية يجعله أكثر إنسانية وبهاء، ورغم أن (الكتابة تجرح من دون دم) كما يقول محمود درويش.

3- في بهاء وفعل الكتابة
ونحن نعشق الكتابة ما استطعنا إليها سبيلا، فيقول تشارلز بوكوفسكي: (ما الذي أبقاك حيا؟ الكتابة)، والحقيقة هي أن (الكتابة تصفي كدر الأفكار) كما كتب جول دي جروف.
أكتب في حزنك.
في فرحك.
في صمتك.
في تأملك.
أكتب عندما يغيب الآخرون وعندما يهاجر الآخرون.
ذات بهاء قال الفنان الفار التو: (أنا لا أكتب،أنا أبني)
أكتب عندما لا تكتب.
أكتب وأنت تكتب.
أكتب في صحوك.
في نومك.
أكتب في هذيانك.
أكتب في هدوءك وتعقلك.
أكتب في ليلة غاب عنها القمر.
أكتب في محراب عشقك ومناجاة مطرك.
أكتب،
أكتب،
أكتب.
ولهذا قال محمد شكري وبصراحته المعهودة: (ان الكتابة تبارك من يخلص لها ولا تتخلى الا عن الانتهازيين).

4- في الممكن واللاممكن
من الممكن ينطلق الكاتب، يعرج على سبع سماوات، وهناك يجد ملكوت الخيال، ويحول الممكن الى اللاممكن، والعكس صحيح، والابداع كما قال أحد المبدعين هو أن تحول الشيء العادي الى شيء غير عادي.
الكتابة تعرية، وعبد الفتاح كيليطو قال: (كنت دائما متأثرا بعنوان لبودلير “قلبي عاريا”، من الممكن أن هذه هي الكتابة).
الكتابة هي عالم اللاممكن الذي ينطلق من الممكن، ويجعل المستحيل أنشودة يكتبها الكاتب انطلاقا من نار ووجع ومعاناة. يلحنها في خياله ويغنيها لكل الأطيار التي تزقزق في سماء الحرية.
صحيح أن (الكتابة اقتراب واغتراب، ويتبادلان الماضي والحاضر) كما صدح بذلك محمود درويش. لكن يؤكد صنع الله إبراهيم (كل شيء يجب الكتابة عنه ويمكن ذلك).

5- في الحلم
الكتابة هي أجمل الأحلام، فيها نحقق ما لا يتحقق على أرض الواقع، تمنحننا فرصة الطيران إلى عالم بهي، حدائقه نصوص إبداعية، أزهاره روايات ومسرحيات، عبيره قصص وأشعار وومضات وشذرات وخواطر، ومملكة نحله وعسله دراسات ومقاربات نقدية وفكرية.
يقول واسيني الأعرج: (على الكتابة أولا أن تمنحنا فرصة للحلم).
لهذا يكون الحلم شهيا كلقاء ووصال، بهيا كغجرية جميلة تطلق شعرها وتغني للحبيب المسافر.
ولهذا يكتب خورخي لويس بورخيس: (الكتابة ليست إلا حلما موجها).
البعض يحلم بصدور ممتلئة وسيقان عارية، فيتلذذ بالمرئي والمسموع، فتكون لوحته عبارة عن استيهامات جنسية وغرائز شبقية، لكن الكاتب يحلم بكتابة نصه الإبداعي، عاريا، شفافا، على أوراق بيضاء، ولهذا تأتي لوحته الفنية والابداعية أكثر فنية وجمالية.

6- في تشظي الكتابة ونزيفها
الكتابة (وصف ما لا يوصف) وتمزق روح الكاتب، وتداعيات ما يحسه وما يراه وما لا يراه.
يكتب اميل سيوران: (إذا كانت كتبي كئيبة، فذلك لأني أبدأ الكتابة حين تكون لدي رغبة بإطلاق رصاصة على نفسي).
الكتابة تشظ، فتتفرق ذات وروح وقلب الكاتب إلى ذرات إلهام مسافرة في ملكوت العطاء.
لهذا بطريقة تشويقية يقول ارنست همنغواي: (ليست الكتابة بالأمر الصعب، ما عليك سوى أن تجلس أمام الآلة الكاتبة وتبدأ بالنزيف).
يجلس الكاتب وحيدا، قد تأتيه (فكرة) في الليل والناس نيام، في لحظة قيلولة، فيحمل أوراقه وأقلامه وشموعه وأفكاره، ثم ينزف حد التعب، يتصبب عرقا، يتوجع، يتألم، ليكتب نصه الإبداعي.

7- في وطن الكتابة
يقول ادوارد سعيد: (الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتخذ من الكتابة وطنا يقيم فيه).
الكتابة هي وطن من لا وطن له.
ولهذا يقول محمود درويش: (إذا لم تخطئ في كتابة كلمة نهر، فسيجري النهر في دفترك).
الكتابة كوثر ورحيق.
خاتمة بطعم الكتابة
في البدء كانت الكلمة…
في البدء كانت الكتابة…
وكل كتابة بهية وأنتم بألف فكر وسحر.

ذ. مجد الدين سعودي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *