في رواق طويل، لازالت تمسك رأسها بين يديها، لم تحتوه نظرا لصغر حجم كفّها، أخذت منديلا رماديّا ولفّت به اسطوانة تعجّ صخبا، وتصدر ضوضاء تشبه، ضوضاء الشّوارع، وفوضى النّاس الهائمة في براري الخوف والضباب، تنظر لصورة جدّتها التّي كانت ترعاها، وعندما باغتها الموت ذات ربيع، تركها لوحدة مبهمة بين أب وأمّ وإخوة، لا يمكنها تحديد روابطها بهم،
كلّما تأمّلت الصورة، تفيض حيرتها من تلك الرّسوم الزّرقاء تعلم سرّ ملامحها فيها وذلك الوشم المحفوف بالرّموز، تمرّر يدها مرتجفة على سمرتها التّي ورثتها منها، فهي حادّة النعومة مثلها، تحسّس شعاع باهت من بين قطرات العرق المنهمر على سفح عمر مهمل، منسكب من بين خصلات شعرها الملقى على هامش الجغرافيا، ما هذا الوجع في الٱعالي، الذّي يلازمها كلعنة ٱلهة، ماهذا الوجود الموعود بالفناء؟! هذه اسئلة تؤجّج لهيبا في كيان الصّخر لا فقط في كيانها! فتصرخ، وتبكي، وتمزّق ثيابها وتخرج عن سيطرة العقاقير والعقل…
فتراها بعينها الثّاقبة المحشوّة برأس موجوع ومهشّم خذلان، لا تغفل على لطم تفاصيل حلم وأده أهلها وهي لازالت في شرائط البراءة الزّهريّة تعدّ أحلامها أمواجا وأقلامها قوارب ابحار، حين زجّوا بها في بنود صفقة ثراء لهم وعذابات نفسيّة مستمرّة لها، وببرود حدّ القساوة، تأتي ابرة الممرضّة لتخرجها من نوبة صراخ هستيريّ لغيبوبة في سرير مهترئ كأيّام رحلتها الممتدّة شقاء!