المسألة / بقلم: ذ. أحمد بن قريش / الجزائر


-وبعدها، استفسر الصهر. كان قد أشعل سيجارة” بسطوز“ وبدأ ينفث من منخريه دفقات دخان طويلة.
-في اليوم الثالث دفعوا بي في المغطس والأسئلة… الأسئلة… دائما الأسئلة… نفس الأسئلة كانوا يطرحونها من عدة جوانب… لكنها هي نفسها…
كان العجوز يجلس فوق مقعد صغير وسط القاعة. وكان صهره واقفا أمامه. وكانت ابنته منسحبة الى الوراء وظهرها للحائط. وكانت تنظر عبر نافذة الحائط الآخر إلى الروابي الجارية على مدى بصرها نحو جبال بني صالح الشامخات التي لم تكن تميزها جيدا طالما تبدو قممها محاطة بهالات من غبار ساطع وبها تتشبث غيام.
قرب قدميه كان كلب ممدودا على البلاط.
-لم تكن ذكرت شيئا… طبعا، قالها الصهر…
-لا… أجاب العجوز. ثم تحرك فوق مقعده الصغير وكان يبدو فزعا الآن… وكان نظره يستقر أحيانا أكثر من دقيقة على الكلب.
-لا… لا، صرخ فجأة ومرتعشا في وجه صهره.
تفحصه هذا الأخير مليئا ثم قال بلطف: لا علينا إن لم تكن تكلمت… ثم رفع نظره نحو زوجته الباقية مستندة الظهر للحائط بوجهها الشاحب… لا علينا… أضافها وكأنه يكلم نفسه…
يوم الاثنين الماضي أوقفت القوات المحلية بمزرعة المستعمر “بيريه” ثلاثين عاملا، مساء، كانوا يتأهبون للخروج من حقول القطن. فدفع بهم نحو مركز“ برج الدائخة“. في اليوم التالي بكرة سرحت القوات المحلية معظمهم واحتفظت بستة أشخاص.
-الكلب، صرخ عمي صالح.
-قدمي له الكلب، أمر عزيز زوجته.
-قربت المرأة الكلب من أبيها وهي تبكى بصمت.
-هو ذا، يا دادا…
-اتركي الحيوان بجنبه، قالها عزيز.
مرر العجوز يديه على جسد الحيوان وكأنه ضريرفبدأ الكلب في تذمر.
-ششت… صه… تمتم الصهر. راقد… أضافها بصوت مرتفع.
تمدد الحيوان أكثر مما كان عليه في البلاط.
-ركس، قالها العجوز بأسنانه، مثنيا شفتيه على لثتيه.

-أمامك، يا دادا، أمامك، غمغمت ابنته بصوت تتخلله الدموع.
كانت عينا العجوز تجول داخل القاعة وكأنه ينظر إلي أكثر من كلب.
-أكل؟
-أكل… أكل أكثر من المعتاد، قالتها ابنته.
-شرب؟
-طبعا… طبعا… تمتمت البنت.
فأخذ الصهر يذرع القاعة الكبيرة جيئة وذهابا مدخنا سيجارة بستوز أخرى ثم أمر زوجته بجمع بعض من اللباس وعقده في لحاف. سوف يغادران البيت بعد غروب الشمس.
ألقت الزوجة بنفسها أمام والدها منتحبة فانحنى الزوج عليها لينهضها بقبضة قوية.
ثم همس: والدك تكلم…
-الكلب، صرخ العجوز. فهم الصهر أن الصراخ كان نوعا من شتيمة غريبة…
انقلب الكلب على ظهره وأخذ يحك جلده على الأرضية. كان أنين بهيمة تحتضر يصدر من بين شعر عنقه.
-هيا، أشار الزوج.
الآن كان العجوز يجري وسط الصالة جارا الكلب من ذيله. كان يضحك. عمامته المنفكة من حول رأسه تغطي عينيه وتتدلى على كتفيه. كان يضحك.
-تعالي… قالها الصهر.
-ريكس… كان العجوز يضحك وبوجهه علامات غريبة.
-ربما أسخن الماء لرجليه…
-الأمور تحدث هنا، قال عزيز وهو يلمس رأسه… ليست برجليه…
انتقلت المرأة، باكية، باتجاه الغرفة المجاورة لتجلب بعض الملابس… في الأخير اضطر الزوج أن يلف بنفسه السرة ثم ألبس زوجته سترة كبيرة ورمى على كتفيه برنوسا اقتلعه من مسمار في الحائط ثم دفع بزهراء نحو الباب.
عندما فتح عزيز الباب كادت شجرة أن تدخل. لم تكن في الحقيقة إلا غصنا من شجرة الكاليتوس العملاقة -قد غرسها السلف الصالح عمدا على شبر من عتبة الدار- الذي ما أن تعصف الرياح بقوة كيما هذا المساء حتى يصبح في غفوة فيحتضن البناية العتيقة ملتصقا عرض الواجهة والباب بوريقاته العريضة.

للا زهراء، أرملة ومجاهدة، كشفت بعد سنوات: لم يكن نفس الأشخاص الذين كانوا يتوافدون على البيت. يومها وقبل أن التحق بالمقاومة لأصبح ممرضة بين جبال بني صالح وهوارة كان دوري محدودا… الطهي وتهيئة الكسرة في الغرفة الثانية. كنت امرأة خجولة وكان والدي رحمه الله يساعدني في خدمة المائدة…
كان حزب الشعب قد ترك خيبة آمل كبيرة في نفسه وقبلها وفاة أمي يوم ولادتي… بعد اندلاع الحرب كان أحيانا يغلق بيته ويأتي ليسكن معنا عدة أسابيع. أتذكر اليوم إن زوجي نفسه من كان أخبرني بعد عام من رحيلنا أن والدي أشعل النار في دارنا وكان يجول من سهل لآخر تتبعه العشرات من الكلاب، لم يعد له اتصالات بالمقاومة، وقد أصرعه أحد المسيرين المعمريين قد فاجئه بحرق محلات إدارة المزرعة وبأيام قليلة قبل أن يلقي، هو الآخر، مصرعه بساقية سيدي يوسف… رحمهما الله.

حتى منتصف الليل سمع الجيران عمي صالح يتضاحك مؤبخا ومؤنبا الكلب وكان الحيوان المسكين يقذف بصراخات لا هي نباح ولا هي عواء. مع الفجر دفع العسكر الباب -وبالطبع غصن شجر الكاليتوس العملاق- ودخلوا إلى الصالة الشاسعة. كانوا ستة.
في القاعة كان الحيوان ممدودا على جنبه، مغمض العينين… كان ثمة حبل -قد نفخه الماء- يحصر رقبته. غير بعيد منه كان العجوز، برأسه العارية، يجلس القرفصاء… بيده عصا غليظة. بين جثة الكلب والعجوز ثمة أبزن مليء نصفه ماء…
اصطف الجنود مستندين ظهورهم إلى حائط النافذة. ثم نظروا مليا في العجوز الذي لم يكن قد انتبه بعد لدخولهم وبقى مستمرا، وكأنه فى حلم، فى ضربه على البلاط بعصاه، هاذيا بصوت متعب، مكررا فى الحقيقة أقوالا تتناثر على وبر الحيوان…
من الآخرون؟ من يجمع؟ أكانوا أربعة؟ لمن المال؟ كم فى الليلة؟ كم؟ متى؟ عند من يأتون؟ الساعة؟ من يدفع المال؟ لمن المال؟ من يدفع المال؟ الساعة؟ عند من يأتون؟ متى؟ كم؟ كم فى الليلة؟ لمن المال؟ أكانوا أربعة؟ من يجمع؟ من الآخرون؟

ذ. أحمد بن قريش / الجزائر



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *